الحقد السياسي الجماعي في ضوء علم النفس الاجتماعي (1/3)

17 نوفمبر 2025

محمد بن جماعة. باحث تونسي يقيم في كندا

لفهم كيف يتشكل الحقد الجماعي ولماذا ينجح في تعبئة الجماهير بهذه الفعالية، نحتاج إلى الغوص في بعض النظريات الأساسية في علم النفس الاجتماعي. هذه النظريات، التي طُوّرت عبر عقود من البحث التجريبي الصارم، تقدم لنا مفاتيح لفهم الديناميكيات النفسية والاجتماعية التي تجعل الحقد ممكناً ومستداماً.

سنركز بشكل خاص على ثلاث نظريات مركزية:
– نظرية الهوية الاجتماعية لهنري تاجفل وجون تيرنر، التي تشرح كيف نبني هوياتنا من خلال الانتماء الجماعي وكيف ينشأ التحيز ضد “الآخر”؛
– ديناميكيات الجماعة الداخلية والخارجية التي توضح آليات التفضيل الأعمى لـ”نحن” والعداء التلقائي ضد “هم”؛
– ونظريات نزع الإنسانية التي تكشف كيف نتوقف عن رؤية الآخر كإنسان يستحق التعاطف والاحترام.
هذه النظريات ليست تجريدات أكاديمية منفصلة عن الواقع، بل هي أدوات تحليلية قوية تساعدنا على فهم لماذا ينجرف أناس عاديون، ربما كانوا أمس جيراناً أو زملاء، وراء خطابات الحقد والعنف.

هذا المقال يستعرض أسس نظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory – Tajfel & Turner)
___
في سبعينيات القرن الماضي، طور عالما النفس الاجتماعي البريطانيان هنري تاجفل (Henri Tajfel) وجون تيرنر (John Turner) نظرية أصبحت من أكثر النظريات تأثيراً في فهم العلاقات بين الجماعات: نظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory). الفكرة الأساسية لهذه النظرية بسيطة لكنها عميقة الأثر: جزء كبير من هويتنا الشخصية لا يأتي من خصائصنا الفردية، بل من انتمائنا لجماعات معينة.

• كيف نبني هويتنا من خلال الجماعة؟

كل واحد منا يحمل هويتين متداخلتين: الهوية الشخصية والهوية الاجتماعية. الهوية الشخصية هي ما يميزنا كأفراد – شخصيتنا، قدراتنا، اهتماماتنا، تجاربنا الخاصة. أما الهوية الاجتماعية فهي الجزء من مفهومنا عن أنفسنا الذي نستمده من عضويتنا في جماعات اجتماعية. أنا لست فقط “محمد” بخصائصه الفردية، بل أنا أيضاً تونسي، عربي، مسلم، مهندس، من الطبقة الوسطى، وهكذا. كل واحدة من هذه الانتماءات تشكل جزءاً من هويتي.
هذه الهويات الاجتماعية ليست مجرد علامات تصنيفية خارجية، بل هي جزء أساسي من كيف نرى أنفسنا وكيف نقيّم قيمتنا الذاتية. حين تنجح الجماعة التي أنتمي إليها، أشعر بالفخر وكأنني أنا الذي نجحت. حين تُهاجَم جماعتي، أشعر بالتهديد وكأنني أنا المُهاجَم. حين تُمدح جماعتي، أشعر بالرضا عن الذات. هذا الارتباط العميق بين احترام الذات والانتماء الجماعي هو المفتاح لفهم الكثير من السلوكيات الاجتماعية، بما فيها الحقد.
الإنسان، بحسب تاجفل وتيرنر، يسعى دائماً للحفاظ على احترام ذات إيجابي. ولأن جزءاً كبيراً من هذا الاحترام مرتبط بالهوية الاجتماعية، فإننا نسعى دائماً لأن نرى جماعاتنا بشكل إيجابي. نريد أن نكون جزءاً من جماعات “جيدة”، “ناجحة”، “متميزة”. لكن كيف نعرف أن جماعتنا جيدة ومتميزة؟ الإجابة: بالمقارنة مع الجماعات الأخرى. نحن نقيّم جماعتنا ليس بشكل مطلق، بل نسبياً، بمقارنتها مع “الآخرين”.
هنا تبدأ المشكلة. لكي نشعر بأن جماعتنا متميزة، نحتاج أن نراها أفضل من الجماعات الأخرى. ليس كافياً أن نكون جيدين، يجب أن نكون أفضل منهم. هذه الحاجة للتمايز الإيجابي تدفعنا، دون وعي في كثير من الأحيان، لتضخيم محاسن جماعتنا والتقليل من محاسن الجماعات الأخرى. نصبح متحيزين لصالح “نحن” وضد “هم”. نُبرز إنجازاتنا ونتجاهل إخفاقاتنا، بينما نفعل العكس مع الآخرين: نُبرز إخفاقاتهم ونتجاهل إنجازاتهم.

• الحاجة للتمايز الإيجابي عن “الآخرين”

هذه الحاجة للتمايز الإيجابي ليست بالضرورة خبيثة أو عدائية في أصلها. إنها آلية نفسية طبيعية لبناء الهوية واحترام الذات. المشكلة أنها تحمل في طياتها بذور التحيز والعداء. في الظروف العادية، قد يبقى هذا التحيز محدوداً وغير ضار نسبياً. “نحن” أفضل منهم في كرة القدم، أو في الأدب، أو في الطبخ. هذا النوع من التنافس الهوياتي يمكن أن يكون حتى صحياً وإيجابياً، يدفع للإبداع والتميز.
لكن في ظروف معينة، خاصة حين تشعر الجماعة بالتهديد أو حين تكون هناك منافسة حادة على موارد محدودة أو حين يُستثمر هذا التحيز سياسياً، يمكن أن يتحول هذا التمايز البريء إلى عداء خطير. “نحن” لسنا فقط أفضل منهم، بل “هم” يشكلون تهديداً لنا. ليسوا فقط أقل منا، بل هم أعداؤنا. ليسوا فقط مختلفين، بل هم خطر وجودي يجب القضاء عليه.
الانتقال من التمايز إلى العداء يحدث عبر مراحل. في المرحلة الأولى، نُبرز الاختلافات. “نحن” مختلفون عنهم في العقيدة، أو اللغة، أو الأصل، أو الطبقة الاجتماعية. في المرحلة الثانية، نُحوّل هذه الاختلافات إلى تفاوت في القيمة. ليس فقط أننا مختلفون، بل نحن أفضل وهم أسوأ. في المرحلة الثالثة، نُضفي على هذا التفاوت طابعاً أخلاقياً مطلقاً. نحن الخير، هم الشر. نحن النور، هم الظلام. نحن نستحق الوجود، هم لا يستحقون. وفي المرحلة الأخيرة، نُبرر العنف ضدهم. ليس فقط أننا أفضل منهم، بل من واجبنا أن نحاربهم، أن ننقي المجتمع منهم، أن نحمي “نحن” من خطرهم.
هذا التصعيد ليس حتمياً. معظم الجماعات تتوقف عند المرحلة الأولى أو الثانية ولا تصل أبداً للمراحل الأخطر. لكن التاريخ يُظهر أنه في ظروف معينة – أزمة اقتصادية حادة، تهديد أمني، قيادة شعبوية تستثمر في العداء – يمكن أن تنزلق جماعات كاملة نحو المراحل الأخيرة المدمرة.

• من التمايز إلى التحيز ثم إلى العداء

الانتقال من التمايز البريء إلى التحيز الضار ثم إلى العداء العنيف هو عملية تدريجية لها محفزاتها ونقاط تحولها. دراسات تاجفل الشهيرة في السبعينيات أظهرت كيف يمكن أن يحدث هذا حتى في ظروف تجريبية مصطنعة تماماً.
في سلسلة من التجارب المعروفة باسم “تجارب المجموعة الأدنى” (Minimal Group Experiments)، قسّم تاجفل مجموعة من الأشخاص بشكل عشوائي تماماً إلى فريقين. لم يكن هناك أي اختلاف حقيقي بينهم، لا في الأصل ولا في القدرات ولا في أي شيء آخر. المعيار الوحيد للتقسيم كان عشوائياً أو تافهاً جداً، مثل تفضيل لوحة فنية على أخرى. لم يلتقِ أفراد كل فريق ببعضهم، ولم يتفاعلوا بأي شكل. كل ما حدث أنهم عُلّموا أنهم “مجموعة X” أو “مجموعة Y”.
رغم هذا التقسيم التافه والعشوائي، ظهر التحيز فوراً. حين طُلب من المشاركين توزيع مكافآت مالية، فضّلوا بوضوح أعضاء مجموعتهم على حساب المجموعة الأخرى، حتى لو كان ذلك يعني أن الجميع، بما فيهم مجموعتهم، سيحصلون على أقل. المهم بالنسبة لهم لم يكن تعظيم المكاسب الكلية أو حتى مكاسب مجموعتهم، بل التأكد من أن مجموعتهم أفضل حالاً نسبياً من المجموعة الأخرى. “نحن” يجب أن نحصل على أكثر من “هم”، حتى لو كان ذلك بكلفة على الجميع.

هذه التجارب أظهرت كيف أن مجرد التصنيف في جماعات، حتى لو كان تصنيفاً تافهاً وعشوائياً، يكفي لإنتاج تحيز. تخيل الآن ما يحدث حين لا تكون الجماعات عشوائية، بل تحمل هويات عميقة الجذور، ولها تواريخ طويلة، وذكريات جماعية، وسرديات عن المظلومية أو التفوق، ومصالح حقيقية متضاربة. في هذه الحالة، يصبح التحيز أقوى بكثير، ويسهل تحويله إلى عداء صريح.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

توكل كرمان.. من جائزة نوبل إلى خطاب الفتنة

عمر العمري تقدم توكل كرمان نفسها، منذ حصولها على جائزة نوبل للسلام سنة 2011، بوصفها رمزا عالميا للحرية وحقوق الإنسان، إلا أن مسارها الإعلامي والسياسي اللاحق سرعان ما كشف عن تناقض صارخ بين الشعارات والممارسة. فبدل أن تكون صوتا للحوار والسلام، تحولت إلى منبر للتحريض والتجريح، مستخدمة المنصات الرقمية لنشر خطاب عدائي يستهدف المغرب ومؤسساته […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...