6 يوليو 2025 / 11:59

الثورة الرقمية التي تلخص نظرية “الزيادة بالنقصان” لبكمنستر فولر

وليد عبد الحي

من بين نظريات الدراسات المستقبلية المعاصرة، شكلت أدبيات العالم الموسوعي بكمنستر فولر نقلة في نهجية ونظريات التفكير الكلاسيكي في الدراسات المستقبلية، وبخاصة نظريته [Ephemeralization] التي جهدت في ترجمتها للعربية إلى أن استقر بي المقام عند “الزيادة بالنقصان”، وهي تعني عند فولر، “القدرة على استخدام مواد أقل من ناحية لإنتاج أكثر جدوى وكفاءة من ناحية ثانية”، ورغم ان نبع النظرية انبثق من بين هضاب العلوم التطبيقية، إلا انه بدأ يمد روافده الى بقية العلوم بما فيها العلاقات الدولية والعلوم السياسية، وهو ما فتح المجال واسعا للدراسات مستقبلية في هذين الميدانين.

لتوضيح الفكرة، خذ هاتفك النقال، ستجد فيه كومبيوتر، وراديو، وتلفزيون، ومسجل، ومكتبات، وساعة، ومنبه، وروزنامة، ودفاتر لا تنتهي صفحاتها لتكتب فيها، واقلام بالألوان التي تريد، ثم ساعي بريد أو فاكس (بالمعنى التقليدي)، وآلة حاسبة، الى جانب التليفون وغيره…والآن تخيل ان كل آلة مما سبق كانت كل منها وحدة منفصلة، ولكل منها مكوناتها، وتحتل حيزا في بيتك او مكتبك، وان كم المواد المستخدمة في مجموع انتاجها يفوق المواد المستخدمة في الهاتف النقال ربما مائة ضعف أو أكثر.

جاء الهاتف النقال، فإذا به يجمع حوالي 13 آلة في آلة واحدة، بسعر أقل كثيرا، ومواد خام أقل كثيرا، وباحتلال مساحة اقل كثيرا، بل وبسرعة إنجاز أكثر.

استنادا لما سبق، يمكننا الآن باستخدام الزوم أن أستغني عن حوالي 170 ألف معلم ومعلمة في مدارسنا الاردنية، واستعيض عنهم بحوالي 50 معلما (معلم اساسي واحتياطي) ليقوموا بتدريس طلابنا عبر الزوم وبوسائل ايضاح وخرائط أفضل…الخ، وسنوفر بذلك انتقال آلاف الحافلات المدرسية، وانتقال آلاف سيارات يقودها المعلمون لاماكن عملهم، وتقليص عدد مراقبي السير لتنظيم المرور، وتخفيض التلوث وحوادث السير والضجيج والمخالفات، والاستغناء عن آلاف المباني والمفتشين …إلخ.

ويمكن تطبيق ذلك في كل المجالات، الزراعية (إجبار الدجاجة بنفس الغذاء على انتاج بيضة بصفارين في كل مرة) والصناعية (شمس اخرى هي الآن في المخابر الصينية) والتجارية والاموال والبنوك (البيتكوين) والرياضة (ملاعب متنقلة تحملها ناقلات) وغيرها، لكني سأتوقف عند العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وسأعطي نماذج توضيحية اولا ثم انعكاساتها المستقبلية:

1- الاستعاضة عن الجيوش الجرارة والقواعد الجوية وحاملات الطائرات بالطائرات المسيرة والهجمات السيبرانية والذكاء الاصطناعي، وهو ما يوفر عددا وعدة ويعطي نتائج أفضل.

2- الدبلوماسية الرقمية: بدأت المنصات الرقمية تحل تدريجيا محل السفارات والبعثات الدبلوماسية وتصل الى مساحات وافراد اوسع نطاقا وبأقل تكلفة.

3- تقليص وسائل الهيمنة التقليدية (الاحتلال) واحلال تدريجي لوسائل الهيمنة الجديدة (القوة الناعمة) وبفعالية أكبر وأسرع من خلال الفنون وغيرها التي تصل لكل فرد بغض النظر عن لغته وعمره وثقافته ومكان وجوده

4- تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تحليل السياسات الدولية بتكلفة أقل ووقت أقصر وموظفين اقل.

5- الحوكمة العالمية عبر التنسيق بين المؤسسات الدولية من خلال الاجتماعات والمؤتمرات الافتراضية.

ذلك يعني اننا نتجه وبهدوء ولكن بتأثير أكبر وبتكاليف أقل نحو مستقبل ينطوي على الاحتمالات التالية:

1- التحول التدريجي من ادوات النفوذ المادية الى الادوات الرقمية.

2- تراجع الحروب المادية المباشرة لصالح حروب افتراضية سيقوم الكومبيوتر المستقبلي بحساب نتائجها قبل وقوعها، ويتم تحميل غرامات للمهزوم (طبقا لما يحدده الكومبيوتر) دون خوض الحرب.

3- ستزيد نظرية الزيادة بالنقصان من اهمية الدول الصغيرة على حساب الدول الكبيرة، ويكفي أن تقارن حاليا بين “تأثير مستقبلي” لسنغافورة أو إستونيا مقارنة بنيجيريا أو مصر.

4- تآكل مفهوم السيادة الوطنية، إذ أن التحكم بالمدخلات والمخرجات أصبح أكثر اعتمادا على الخارج (ترى بعض الدراسات ان وضعك الداخلي كدولة سيتحدد بمعطيات الخارج بنسبة 70% خلال الثلاثين سنة القادمة)

5- تزايد التحول إلى نظام دولي غير تقليدي يقوم على ثلاثة أبعاد: الذكاء الاصطناعي والمرونة والتأثير الرقمي، وهو ما سيفرز دبلوماسية شبكية، وتحالفات رقمية، ومفاوضات رقمية.

6- قد تقود مشاعية المعرفة والتواصل التقني بين الشبكات السياسية لتمكين التنظيمات المسلحة من امتلاك الاسلحة غير التقليدية، وهو ما سيجعل النظام الدولي في حالة من السيولة غير المعهودة.

ولتطوير هذه النظرية بخاصة انعكاساتها على الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية، تتصدر تقنيات ثلاث الدراسات المستقبلية لفهم آفاق ما سبق:

أ‌- زيادة التركيز على الاتجاهات الأعظم من خلال إبداع مؤشرات رصد هذه الاتجاهات وتحديدها بدقة.

ب‌- تقنية السيناريوهات المتقاطعة، لتحديد التأثير المتبادل بين الاتجاهات الاعظم لا بين المؤشرات لكل اتجاه.

ت‌- تقنية التحول مثل احتمال ظهور ذكاء اصطناعي عالمي أو انتهاء مفهوم السيادة.

واستنادا إلى تداعيات هذه النظرية، يصبح التفكير في دلالات منهجية التفكير في نظرية الشواش الكونية قابلة للانتقال –كمنهجية- للعلاقات الدولية.

يبدو ان التكنولوجيا ستطيح تدريجيا ولكن بتسارع بالكثير من الرتابة في تفكيرنا باتجاه عالم يزيد من ثقة الانسان بنفسه الى حد الاعتقاد بجدوى الجنون من خلال التفكير الأقل للوصول إلى النتائج الافضل، أي الزيادة بالنقصان.

رابط صفحة الكاتب على فيسبوك: https://www.facebook.com/walid.abdulhay