* محمد عسيلة
كفاعلين مجتمعيين نؤمن بالانتماء إلى هذا الوطن، يحتم علينا ذلك الاهتمام بالتطورات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي قد تؤثر على الجالية المغربية والمسلمة بشكل عام. الجدل الأخير حول تعديلات في المسودة الأصلية للبرنامج الأساسي لحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، والذي يتناول بشكل مباشر الإسلام والمسلمين في ألمانيا، يمثل نقطة محورية تستحق الدراسة والتحليل.
في خضم التحديات التي تواجه ألمانيا اليوم، بما في ذلك التنوع الثقافي والهجرة، تبرز التغييرات في مسودة برنامج حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي لتشكل تحديًا كبيرًا وفرصة لنا كأفراد وجماعات مهاجرة. كفاعلين مجتمعيين، علينا أن نسعى للمشاركة الفعّالة في الحوارات العامة، مؤكدين على أهمية احترام الهويات المتعددة وتعزيز القيم المشتركة التي تمكننا من داخل الدستور الألماني من تعزيز التماسك الاجتماعي ودعم الانسجام المجتمعي والسلم والفهم المتبادل. نحن لسنا مجرد متفرجين أو مستهلكين، ولا نتقمص دور الضحية أو ننغمس في نظريات المؤامرة، بل نحن مشاركون فاعلون ونشطون في صياغة مستقبل مجتمعنا في ألمانيا، مدركين لأصولنا وثوابتنا الثقافية والدينية.
إن الثوابت الدينية المغربية، التي تجسدها إمارة المؤمنين وتعززها تعاليم المذهب المالكي، لعبت دورًا محوريًا في تشكيل منظورنا للوسطية والانتماء والاستقرار. هذه الثوابت توفر أساسًا متينًا للتعايش والتفاعل الإيجابي بين مختلف الثقافات، ما يساعد على تحقيق استقرار اجتماعي وروحي ينعكس إيجابًا على كل مكان يعيش فيه المغاربة حول العالم.
مغاربة العالم قد أظهروا، من خلال تمسكهم بالوسطية والمشاركة الفعالة في مجتمعاتهم الجديدة، كيف يمكن أن تكون القيم الدينية والثقافية الراسخة ركيزة لبلورة عيش مشترك. هذا التفاعل الإيجابي ليس فقط يثري المجتمعات التي يعيشون فيها، بل يقدم أيضًا نموذجًا يمكن أن يستفيد منه برامج الأحزاب السياسية والمؤسسات المسؤولة عن الاندماج. من خلال تبني وتشجيع هذه النماذج، يمكن لهذه الجهات أن تطور سياسات تكرس مفاهيم الاحترام المتبادل والتعايش السلمي، مما يعزز النسيج الاجتماعي ويدعم الانسجام بين مختلف المكونات الثقافية والدينية.
إن الدور الذي يمكن أن يلعبه مغاربة العالم -في ألمانيا مثلا- في تعزيز هذه القيم هو دليل على كيفية إسهام المهاجرين بشكل بنّاء في المجتمعات التي ينتمون إليها، وهو ما يؤكد على الحاجة لاستلهام هذه الخبرات في صياغة برامج دمج أكثر فعالية تحترم التنوع وتعزز الوحدة.
إن ما نقوم به “نحن في الهنا والهناك” في بناء الجسور والديبولوماسيات الدينية والثقافية (الطبخ، اللباس، العيش المشترك، العمران..) مستمد من هويتنا المغربية المتأصلة والمنفتحة، ومن ثوابتنا الدينية، حيث تلعب إمارة المؤمنين دورًا جوهريًا كضامنة وحاضنة للاستقرار الروحي والمدني. المذهب المالكي، على سبيل المثال لا الحصر، بتاريخه العريق ومنهجيته في تدبير الاختلاف والأعراف والتقاليد معتمدا على التأصيل النصي والعقلي، يوفر لنا منهجًا فريدًا يعزز فهمنا للدين بشكل يتماشى مع مبادئ الوسطية والاعتدال، ويؤكد على الرحمة والعدل واحترام العادات الثقافية داخل إطار الشريعة.
وهذا ما برع فيه مغاربة العالم حين أسّسوا وبنوا المساجد كمنارات سلم وعلم ومعرفة ، لبناء الإنسان ولو أننا في المراحل الوسطى من هذا البناء ك، نبقى مستبشرين بالأدوار الطلائعية التي ستقوم بها هذه المساجد في تمرير القيم والحفاظ على الهوية والمرجعيات والمساهمة في بناء المجتمعات بمقاربة تشاركية من خلال صناعة شخصيات لكفاءات مغربية بامتياز تحمل جنسيات الدول التي تعيش فيها بايمان وبصدق وبفكر مدني منفتح.
بالتالي، مع انتمائنا لألمانيا، البلد الذي احتضننا والذي نسعى لاحتضانه بالمثل، نؤمن بالقيم الإنسانية والحقوقية التي تشدد على احترام الاختلاف والتعددية. هذه الأسس تمكننا من بناء مستقبل زاهر يحتضن الجميع بغض النظر عن الاختلافات الثقافية أو الدينية، معتبرين ذلك إثراءً وإغناءً لكل المجتمعات، بما في ذلك مجتمعنا الألماني الذي ندافع عن دستوره وأمنه واستقراره.
في ظل التغيرات الأخيرة في المسودة الأصلية للبرنامج الأساسي لحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي بألمانيا، نجد أن النقاش حول مفهوم الانتماء والثقافة القيادية “Leitkultur” قد اتخذ منحى جديدًا.
التعبير البلاغي الذي استُخدم في المسودة الأصلية، الذي ينص على أن “المسلمون الذين يشاركون قيمنا هم جزء من ألمانيا”، يسلط الضوء على فكرة الانتماء المشروط الذي يعتمد على مشاركة قيم معينة. هذا يطرح تساؤلات عميقة حول القيم التي يتم الإشارة إليها ومن يحددها وكيفية تطبيق هذا التعريف على أرض الواقع.
مع التعديل الجديد الذي يقول “الإسلام الذي لا يشارك قيمنا ويرفض مجتمعنا الحر لا ينتمي إلى ألمانيا”، نرى تحولًا نحو تعزيز مفهوم الثقافة القيادية، والدفاع بقوة عن القيم كالحرية والديمقراطية. هذه الصياغة تبرز التحديات المتعلقة بالتعامل مع التنوع الثقافي والديني في مجتمع ديمقراطي، مما يعكس رغبة الحزب في تأكيد هوية ثقافية محددة تقود المجتمع الألماني.
هذا المفهوم، الثقافة القيادية، يشير إلى ضرورة وجود مجموعة من القيم والمعايير التي يجب أن تقود المجتمع. في السياق الألماني، غالبًا ما يُنظر إلى هذا المفهوم على أنه ضرورة للحفاظ على القيم الأوروبية التقليدية في مواجهة التحديات الناشئة عن الهجرة والتغيرات الديموغرافية. ومع ذلك، قد يؤدي هذا النهج إلى استبعاد أو تهميش الأقليات التي لا تتماشى تمامًا مع هذه القيم.
انتقادات من قادة مثل لارس كلينجبيل تشير إلى مخاوف من أن مثل هذه السياسات يمكن أن تؤدي إلى تهميش بعض المجموعات وتعزيز الانقسام بدلًا من تعزيز التماسك الاجتماعي.
إن الفصل الواضح بين من “ينتمي” ومن “لا ينتمي” على أساس مشاركة القيم يمكن أن يؤدي إلى بناء حواجز رمزية تفصل بين المواطنين بناءً على خلفياتهم الدينية أو الثقافية.
وعليه، نرى من الضروري إدارة التوازن بين الحفاظ على القيم الأساسية للمجتمع وتعزيز سياسة شاملة تقدر التنوع وتحترم حقوق الأفراد للتعبير عن هوياتهم الثقافية والدينية داخل الدستور الألماني.
هذه المهمة ليست سهلة وتتطلب حوارًا مستمرًا وجهودًا حقيقية لتحقيق التوافق والاندماج الفعال في مجتمع متعدد الثقافات كالمجتمع الألماني.
وفي هذا علينا كمسلمين ومواطنين ألمان أن نساهم في هذا النقاش الفكري والمجتمعي والثقافي، دعمًا للانسجام ومناهضين للانقسام المجتمعي والتهميش والعنصرية والتطرف بجميع تلويناته.
________
*أستاذ لمادة اللغة العربية والدين الاسلامي باللغة الالمانية – مسؤول على تكوينات أساتذة اللغات الاصلية بوزارة التعليم الولائية في ألمانيا ـ مستشار لدى نيابة التعليم في قضايا الجودة والتحصيل والمناهج
المصدر : https://dinpresse.net/?p=20968