الصادق العثماني ـ باحث في الفكر الإسلامي
ما أحوج شبابنا الإسلامي اليوم وأهل الإسلام عموما إلى مدرسة التصوف، مدرسة الطريق إلى الخير.. مدرسة الطريق إلى الله..إلى المحبة..الى التعايش والسلام، سلام مع الذات والنفس، وسلام مع الآخر، وسلام مع الكون كله..فأهل التصوف عموما لا خوف عليهم ولا خوف منهم؛ بل الخوف كل الخوف من أصحاب التطرف في الدين الذين يجهلون الروح السمحة للإسلام ومقاصده النبيلة، كما يجهلون مكونات التصوف وسؤال الجمال في التراث الإسلامي عموما، ولم يفهموا من رسالة الإسلام الخالدة العظيمة سوى التكفير والتبديع والتفسيق..!
مع العلم ان هذه الجماعات التكفيرية المتطرفة قد انكشفت لعبتها وتأكد للخاص والعام بأنها دمية يتم تحريكها وتمويلها من قبل أجندة أجنبية بغيضة للمزيد من تفتيت عالمنا العربي والإسلامي؛ لهذا يجب الاعتناء بمدارس التصوف في عالمنا الإسلامي، مع إعطاء الأولوية والصدارة لدراسة التصوف السني، وإدخاله كمادة مقررة في مناهجنا التعليمية والتربوية في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا ومساجدنا لحل معضلات شباب أمتنا الإسلامية وإنقاذهم من براكين الانحلال والمجون والتنطع والتكفير والغلو في الدين؛ لأن التصوف في ماهيته وحقيقته هو العودة بالناس إلى جوهر الدين والوصول بهم إلى مقام “الإحسان” ومعلوم أن هذا المقام محله الروح والقلب والنفس ، فيحتاج إلى أهل الخبرة بهذا الفن وإلى مختصين به ، كما أن الفقه له أهله وباقي سائر العلوم من طب وهندسة وفلك ورياضيات..
ولتقريب هذا الفن وحقيقته من أذهان منتقديه ومعارضيه أقول: إن الله أمر بالصلاة فقال: “وأقيموا الصلاة” فإذا أردنا أن نتعلم الصلاة وسائر العبادات يجب علينا الذهاب إلى الفقهاء فنتعلم منهم شروطها وأركانها وسننها ومكروهاتها ودخول وقتها..
ولكن الله عز وجل يقول أيضا: “قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون..” فالخشوع أيضا مطلوب في الصلاة، ولكننا لو بحثنا في كتب الفقة فلن نجد لكيفية الخشوع أو لتحصيله جوابا، لأن الخشوع والوصول إليه وحب الناس والعفو والتسامح والكره والغضب والخيانة والغدر والغش والوسواس والنفاق والحقد والكبر والغل والغدر وعدم الأمانة.. هذه الأمور ليست من اختصاص فقهاء النصوص، وإنما هي من اختصاص فقهاء النصوص والقلوب معا، وهذا هو الفقه المسمى “التصوف” الذي لا يخرج مطلقا عن الشرع ومقاصده ، فتلبسه بالشرع الحنيف كتلبس الروح بالجسد.
أما من يعتبر التصوف شعوذة ودجل وخرافات فهو إما جاهل بحقيقة هذا العلم، أو جاحد مكابر أعمى الله بصيرته؛ لأن ظهور هذا العلم الجليل جاء طبيعيا بعد ما ابتعد الناس عن الهدي النبوي وعن الحالة الأولى للسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، له ضوابط وقواعد واصطلاحات ومناهج شأنه شأن باقي العلوم، كالفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة والعروض..
ولكي لا يتلاعب به كل من هب ودب من المنتحلين والمغرضين، فكان لا يؤخذ إلا عمن كان مجازا فيه الموصول بإجازات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام القشيري رحمه الله متحدثا عن نشأة التصوف وحقيقته: “اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية سوى صحابة الرسول، إذ لا أفضلية فوقها ، فقيل لهم الصحابة ، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين (الزهاد والعباد)، ثم ظهرت البدعة وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادا ، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله ، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة ، باسم التصوف ، واشتهر هذا الإسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة..”.
وبما أن التصوف يعنى بفقه القلوب، والقلب هو سلطان الجسد وعليه تدور جملة من النواهي والأوامر تجعله إن هو امتثل أمر الله قلبا منورا بنوره وأهلا لأن يكون محل نظر الله إليه، وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب”.
وإذا علمنا أن الجوارح تتحرك وفق مايمليه عليها القلب، إذ هو المحرك لها وهي تابعة له ، وعلى هذا الأساس كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أهمية تنقية القلوب وتزكية النفوس فيقول صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم” من أجل ذلك فإن الكنز الثمين الذي ينفع الإنسان يوم لقاء ربه هو القلب المملوء بمحبة الله تعالى المعافى من الأحقاد والأمراض والأدران.. قال تعالى: “يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم “.
وختاما، انَّ هذه المدرسة الصوفية والسلوك الصوفي صار مرغوباً فيه بشدة، عالميا، من أجل المساهمة الفعالة في خلق الأمن والاستقرار في عالم لا يكف عن الاضطراب. فهذا المذهب يشق طريقه بهدوء وثقة وتلقائية ليصير كونياً، بلا تعسف أو تصدير، بل بناءً على جاذبيته الفكرية والسلوكية والأخلاقية والقيمية والدينية. لأنه منهج ينتصر للحوار والسلام والتسامح، وللتعايش بين بني البشر مهما كان عرقهم ولونهم ولسانهم. وهي نفس القيم الكونية والإنسانية التي نادى بها جميع الأنبياء والرسل وكافة فلاسفة الأنوار. وهو ما اجتمع في المنهج السني الصوفي الذي تبناه المغرب منذ قرون وحافظت عليه مؤسسة إمارة المؤمنين في مملكتنا المغربية الشريفة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14011