التساهل مع التحرش: عندما يتحول الاعتراف إلى تطبيع للعنف

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس17 ديسمبر 2024آخر تحديث : الثلاثاء 17 ديسمبر 2024 - 4:45 مساءً
التساهل مع التحرش: عندما يتحول الاعتراف إلى تطبيع للعنف

تتعرض المرأة يوميًا في العديد من المجتمعات -ليس المسلمة فحسب- لمواقف تحرش متعددة، سواء كانت لفظية أو جسدية. وفي الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون رفض هذه السلوكيات أمرًا طبيعيًا، نجد أن بعض النساء للأسف – دون إدراك لخطورته – يقمن بتبرير هذا التحرش أو حتى قبوله تحت مسمى “الاعتراف” بجمالهن وأنوثتهن.

هذا القبول الخاطئ لا يضر فقط بالمرأة التي تساهلت مع الأمر، بل يساهم في تكريس ثقافة التحرش وتعزيزها كظاهرة مجتمعية مألوفة ومقبولة.

تعود هذه المشكلة إلى تنشئة اجتماعية وثقافية ترسخ صورة نمطية للمرأة، تُظهر قيمتها في قدرتها على جذب الأنظار أو نيل الإعجاب. عندما تُربى الفتاة على أنها محور “الاهتمام”، يبدأ الخلط بين الإعجاب الذي يستحق التقدير والتحرش الذي ينتهك كرامتها. تنشأ هذه الأفكار لدى بعض النساء لتجعلهن يعتبرن كلمات التحرش أو النظرات غير اللائقة نوعًا من “المديح”، بينما هو في حقيقته سلوك مُهين ينطوي على اعتداء على احترامهن وخصوصيتهن.

إن التساهل مع التحرش والقبول به، حتى لو بحسن نية، يؤدي إلى تعزيز هذا السلوك لدى من يمارسه، ويشجعه على الاستمرار. فالمرأة التي تضحك على تعليقات مسيئة، أو تسكت على تجاوز لفظي أو جسدي، تُرسل رسالة ضمنية للمتحرش أن ما يقوم به مقبول ولا يستدعي الرفض أو الردع. ومن هنا، تبدأ دائرة التطبيع، التي لا تقتصر آثارها عليها فقط، بل تمتد لتطال باقي النساء في محيطها، خاصة اللواتي يسعين لرفض هذا السلوك. فقبول البعض للتحرش يُضعف من قدرة الأخريات على مواجهته، ويجعل أصواتهن تبدو وكأنها خارجة عن “المألوف”.

ما ينبغي أن تفهمه كل امرأة هو أن التحرش ليس بأي شكل من الأشكال اعترافًا بجمالها أو أنوثتها، بل هو دليل على نظرة دونية تُنكر كرامتها وتُجرّدها من قيمتها الإنسانية. فالمرأة ليست مجرد “شكل” أو “جسد” حتى تُقاس بمثل هذه التصرفات المشينة. قبول هذه الأفعال لا يزيد من شأنها، بل يُقلل من احترامها لنفسها، ويمنح الآخرين سلطة التحكم في صورتها وثقتها بذاتها.

إن تبرير التحرش أو السكوت عنه لا يُحقق للمرأة مكانة أو اعترافًا حقيقيًا، بل يكرس واقعًا مريرًا تُصبح فيه عرضة للعنف والانتهاك بشكل مستمر. التحرش لا يقتصر على كلمات عابرة، بل هو فعل له آثار نفسية واجتماعية طويلة الأمد، تبدأ من إحساس المرأة بالضعف، مرورًا بشعورها بفقدان الأمان، وصولًا إلى تطبيع هذا السلوك في المجتمع ليصبح مقبولًا ومألوفًا.

من الضروري أن تُدرك كل امرأة أن رفض التحرش هو حق لها، وأن احترامها لذاتها يبدأ من قول “لا” لكل ما يمس كرامتها. المجتمع الذي يعترف بحقوق المرأة وبإنسانيتها لن يُقيمها من خلال هذه السلوكيات المريضة، بل سيقف معها في رفضها ومواجهتها. هذا الرفض ليس مجرد موقف شخصي، بل هو مساهمة في حماية النساء كافة، وقطع الطريق على من يعتقد أن التحرش سلوك عادي لا عواقب له.

نحن بحاجة إلى تغيير حقيقي يبدأ من وعي النساء بمكانتهن، وبأن جمالهن الحقيقي يتجسد في احترامهن لذواتهن ورفضهن لكل ما يُنقص من كرامتهن.

هذا التغيير لا يتحقق بالتساهل مع التحرش أو تبريره، بل بالوقوف بوجهه بكل ثقة وحزم.

المرأة التي تُبرر أو تُقبل بالتحرش تضر نفسها أولًا، ثم تضر باقي النساء من حولها. لذلك، لا بد من إدراك أن قيمتك كامرأة لا تُقاس بنظرات أو كلمات عابرة، بل تُقاس بمكانتك الحقيقية كإنسانة لها حقوق وكرامة لا يُمكن المساس بها.

في هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور الخطير الذي يلعبه المتحرشون أنفسهم، خاصة أولئك الذين يبدعون ويتفننون في أساليب التحرش، سواء كانوا زملاء عمل، رؤساء أو أشخاصًا يمتلكون سلطة ما على الضحايا. هؤلاء الأشخاص يستغلون مواقعهم ومكانتهم لتجاوز الحدود وفرض سلوكياتهم غير الأخلاقية على النساء، مُتسترين وراء أقنعة مختلفة، منها المزاح أو الاهتمام الزائف.

الرؤساء أو أصحاب السلطة، على وجه الخصوص، يستغلون حاجة المرأة للعمل أو التطور المهني للضغط عليها نفسيًا، مما يجعلها في موقف حرج يضطرها أحيانًا للصمت أو التغاضي عن أفعالهم، خوفًا من فقدان وظيفتها أو فرصها المهنية. هذا السلوك لا يقتصر على فرض هيمنتهم فقط، بل يُعتبر شكلاً من أشكال العنف الوظيفي، الذي يترك آثارًا عميقة على الضحية ويُرسخ بيئة عمل غير آمنة.

كما أن تحايل هؤلاء المتحرشين، عبر أساليب “مقنّعة”، يُضفي على أفعالهم صبغة من الشرعية الزائفة، ويزيد من صعوبة مواجهة تحرشهم. لذا من الضروري أن تدرك الضحايا، سواء كن عاملات تحت سلطة مباشرة أو زميلات في بيئات مختلفة، أن التساهل مع مثل هذه الأفعال هو تمكين للمتحرش واستمرار لدائرة العنف.

مواجهة التساهل مع التحرش تتطلب تغييرًا جذريًا في كيفية فهم وتقدير المرأة لحقوقها وكرامتها. يجب على كل امرأة أن تدرك أن التحرش ليس تعبيرًا عن الإعجاب أو “الرومانسية”، بل هو سلوك غير أخلاقي ينتهك حقوقها وكرامتها. عليه، يمكن تلخيص بعض الخطوات التي يجب على المرأة اتخاذها لمواجهة هذا السلوك:

– الوعي الذاتي والتمكين: يجب على المرأة أن تدرك أولًا أن قيمتها لا تُقاس بمظهريتها أو نظرات الآخرين، بل بقدرتها على الحفاظ على كرامتها وحقوقها. لا ينبغي أن تقبل بأي تصرف يُقلل من احترامها لنفسها، حتى لو كان يبدو في البداية غير مؤذٍ أو غير مباشر.

– رفض التحرش بشكل قاطع: أول خطوة في المواجهة هي الرفض الواضح، سواء بالكلمة أو بالفعل. يجب على المرأة أن تُعلم المحيطين بها، سواء كانوا أصدقاء أو زملاء أو حتى أفراد العائلة، أن التحرش غير مقبول أبدًا. هذه الرسالة يجب أن تكون حازمة دون تردد.

– التثقيف حول التحرش وأشكاله: من المهم أن تُعلم المرأة نفسها حول حقوقها القانونية وآليات الحماية المتاحة لها. الكثير من النساء لا يدركن أن ما يعانين منه قد يكون تحرشًا صريحًا، سواء كان لفظيًا أو جسديًا أو حتى نفسيًا. التثقيف يساعد في تحديد التصرفات غير المقبولة وبالتالي التصدي لها.

– التحدث علنا وكسر ثقافة الصمت: التحدث عن حالات التحرش وفضحها هو خطوة ضرورية لكسر دائرة التساهل. من خلال مناقشة هذه القضايا بشكل علني، تُساهم المرأة في تغيير النظرة المجتمعية حول هذا السلوك، كما تعزز من دعم الآخرين الذين قد يعانون من نفس التجربة. قد يكون من الصعب الحديث عن هذه التجارب، خاصة إذا كانت في بيئة مهنية أو اجتماعية قمعية، لكن الشجاعة في الحديث تفتح الباب للآخرين للتصدي.

– الضغط من أجل تشديد القوانين: من الضروري أن تعمل النساء مع المؤسسات القانونية والمجتمعية للضغط من أجل تشديد العقوبات على المتحرشين. إذا شعر المتحرشون بأن هناك عواقب حقيقية لأفعالهم، فإنهم سيتوقفون عن التصرف بهذه الطريقة. يجب أن تكون هناك سياسات رادعة على مستوى القانون والمجتمع.

– الدعم الجماعي: لا يمكن للمرأة أن تواجه هذه الظاهرة بمفردها. من خلال تضامن النساء وتكوين شبكات دعم قوية، يمكن تعزيز القدرة على مواجهة التحرش. فحينما تقف المرأة مع المرأة، فإنها تخلق بيئة أقوى وأكثر أمانًا لجميع النساء في المجتمع.

– التعامل مع المواقف المهنية بحذر: في البيئات المهنية، حيث يمكن أن يكون هناك تفاوت في القوة بين النساء ورؤسائهن أو زملائهن، يجب على المرأة أن تكون على دراية بحقوقها في بيئة العمل وأن تتحلى بالشجاعة للإبلاغ عن أي سلوك غير لائق، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة عواقب مثل فقدان الفرص المهنية.

من المهم أن نفهم أن التحرش لا يمكن أن يُعتبر نوعًا من “الرومانسية المفقودة”، بل هو سلوك يعكس احترامًا منخفضًا لحقوق المرأة كإنسانة. القبول به أو السكوت عنه لن يعيد الثقة أو الاحترام للشخص المتحرش، بل سيُساهم فقط في تأصيل فكرة أن المرأة ليست أكثر من جسد يُمكن التعدي عليه.

لذلك، يجب أن يكون للمرأة الوعي الكامل بأن احترام الذات يبدأ من رفض أي سلوك يهمش كرامتها، وأنه لا مكان في المجتمع لمثل هذه التصرفات البغيضة.

يجب في نظري فضح هذا السلوك وكشفه بوضوح، فالصمت يُشجّع المتحرش – كيفما كانت رتبته ومكانته الاجتماعية ونوع الجبة او الجلباب الذي يلبسه- -أقول الصمت يشجع المتحرش على التمادي وابتكار أساليب جديدة تؤذي جميع النساء في المحيط نفسه.

المجتمع ككل مطالب بتشديد العقوبات ومحاسبة هؤلاء، بغض النظر عن مواقعهم أو مكانتهم، ليُبعث برسالة واضحة أن التحرش بجميع أشكاله جريمة لا يمكن التساهل معها.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.