نبيل بلعطار ـ دكتور في علم الاجتماع وباحث في القانون العام والعلوم السياسية
إن إمارة المؤمنين ترتكز على أنوية صلبة تصونها وتحفظها ديمومة وظائفها الدينية السياسية، تتمحور إمارة المؤمنين حول الإمام المصلي بأمته، والإمام المضحي باسم أمته ولأجلها، فتعمل على عهد الطاعة بين الإمام ورعاياه، والذي ينبني على تضحية الإمام بحياته الخاصة للسهر على رعاية شؤون أمته، مقابل خضوع وطاعة الرعية.
إنه الرباط المقدس، الذي يتخذ شكل البيعة، سواء من حيث هي طقوس تقوم على الطاعة، أومن حيث هي وثيقة تعتمد على العهد المتبادل. وليس من باب الصدفة أن يبايع الإمام المضحي لأجل امته لحظة التضحية باسم أمته (تجديد البيعة يتم كل سنة، وبفضل ذلك، تتخذ إمارة المؤمنين شرعيتها القدسية الشاملة والموحدة والمرجعية.. حيث تسند بالبيعة، من حيث هي طقس منتج للطاعة والهيبة، ووثيقة مجددة العهد وملزمة بإحترامه (1).
لذلك، فالولاء يعتبر أساسا للحكم، لمواجهة التحديات والمخاطر والتكتلات والمؤامرات الخارجية، فالولاء، هو إلتزام بين الحاكم والمحكوم على العمل المشترك لصالح الجمع بواسطة البيعة، حيث إستمر المغرب بالإعتماد عليها كأسلوب عظيم ومنهج فريد في عمارة الارض وتحقيق الأهداف، وربط أواصر المحبة، وجمع القلوب، ورص الصفوف، وتوحيد الجهود، وإزالة العقبات، ثم هي واجبة على كل مسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم (من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة الجاهلية)(2).
وبهذه البيعة، إستطاع المغرب، في الماضي، التصدي للتكتلات المسيحية والمخططات الصليبية، التي كانت تحارب الإسلام أو التكتلات الإستعمارية والإيديولوجية. ومن هنا، يجمع المؤرخون على أن المغاربة وجدوا في البيعة ضمانة للعدل وتوفيقا بين روح التراث الروحي وروح المعاصرة، مما شكل أساس إستمرار الوجود المغربي، عبر التاريخ، وصموده في وجه الإعصار مهما كان مصدره. وقد إتخذت البيعة أهميتها من تعظيم الدين الإسلامي الحنيف لها(3)، حيث ترتبط البيعة، كعقد قائم بذاته، بالمرجعية الإسلامية، فقد جاء في القرآن الكريم: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)’(4).
حيث تمثل البيعة موروثا دينيا وسياسيا، يتم تأكيده من طرف مختلف الشرائح الإجتماعية، بإعتبار نظام البيعة أساس الدولة الوطنية، حيث إعتبرها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق، عبدالكبير العلوي المدغري(5) رحمه الله،على أنها هي التي تجعل أمير المؤمنين يتحمل سلطته ومسؤولياته، ويتعهد بالدفاع عن حقوق الرعايا، ويسهر على خيرهم وسلامهم، فهي بذلك الميثاق الذي يوضع فوق كل الإعتبارات السياسية والحسابات الحزبية. وبهذا تلعب البيعة دور الدستور الذي يحكم ويضبط العلاقات بين السلط، ويحدد القواعد الأساسية التي تتأسس عليها الدولة.
وتمتاز البيعة، في المغرب، بكونها تطبيقا حرفيا للنظام الإسلامي، تنطلق من القرآن والسنة، وتتأسس على الإجتهاد في دائرتها. أما هدفها، فتوفير المسائل التي تضمن الإستقرار والإزدهار، وبشكل خاص، المساواة في الحقوق والواجبات، وضمان الحريات العامة في مختلف المرافق والمجالات. فسلطة الامام خالية من كل استبداد وديكتاتورية، بل هي اتفاقية بين المحكومين والحاكمين، مؤسسة على العدل والمساواة، وتعبر على الولاء بين الحاكم والمحكوم، ولعل هذا جعل المغرب، أن يكون جبهة متراصة متحدة تتحدى كل التكتلات وتتجاوز كل الصعاب، حيث ان البيعة في المغرب ما زالت على حالتها الإسلامية المعروفة منذ القديم، يتولى العلماء شؤونها ويبنونها على المقاصد المعتبرة في الإسلام. فكما كانت أول بيعة مغربية للمولى ادريس الفاتح مبنية على الطواعية والرضا، كذلك بيعة الداخلة لمولانا الحسن الثاني المحرر والموحد للبلاد، وتكون دائما بيعات المغاربة لملوكهم ذات طابع خاص(6).
فالمغرب حصن نفسه بنظام البيعة، بإعتبارها دستور التأسيس للدولة المغربية، وتعمل على الحفاظ على الأصول التاريخية الإسلامية للمغرب عن طريق العقد الذي يجمع بين السلطان والرعية، مبنية على الولاء. وقد حدد الملك الراحل، الحسن الثاني طيب الله تراه، دور البيعة كآليه ضامنة للإستقرار، حيث إعتبر البيعة رباطا خاصا قائما بيني وبين كل مغربي، ومن واجبي، بمقتضاه، أن أعتبر كل مغربي واحدا من عائلتي، سواء كان غنيا أوفقيرا، فمن باب الواجب الديني لملك المغرب، وهوأمير المؤمنين، أن يعتبر جزءا لا يتجزأ من كل أسرة. ان ذلك يشكل أحسن ضمانة ضد التشكك وطول ممارسة السلطة في إطار نصوص قانونية دستورية محددة، كما يمثل الشعور بالمسؤولية عن مصير كل أسرة أحسن ضمانة ضد كل طغيان وإستبداد.
ومن مظاهر البيعة في عهد الملك محمد السادس نصره الله و أيده كآلية ضبط للمجال الديني بالمغرب، نذكر أربعة مظاهر(7):
المظهر الأول: يتجلى في لحظة (تشييع) جنازة الملك الراحل، حيث تتحول مراسيم الدفن إلى مناسبة لتأكيد العهد على الطاعة للملك الجديد.
المظهر الثاني: يتعلق بالدعاء للملك الجديد في أول خطبة جمعة يحضرها بوصفه أمير المؤمنين، حيث يعتبر ذلك تجسيدا للبيعة العامة.
المظهر الثالث: يرتبط بالجولات التي يقوم بها الملك الجديد عبر الأقاليم، حيث تغدو مناسبة لمبايعته من قبل الأمة التي تخرج لإستقباله.
المظهر الرابع: يتمثل في تقديم الولاء في اليوم الموالي للإحتفال بعيد العرش، سنويا، من طرف مسؤولي الإدارة الترابية وممثلي الأمة.
وبالتالي، فنظام البيعة يعتبر مؤسسة مركزية في النظام السياسي المغربي، حيث تمنح لأمير المؤمنين مشروعية دينية، وتضفي على شخصه طابع التوقير والبركة والطاعة، ولذلك أجمع الباحثون في العلوم السياسية على أن النظام السياسي المغربي، مصدره تراث ديني تاريخي عميق، يمتد إلى حوالي 12 قرنا، حيث أثبتت البيعة دورها في ضبط المجال الديني كآليه فعالة من أجل تثبيت الحقوق والحفاظ على إستقرار وأمن البلاد، وكآلية مضادة ضد الأخطار التي يمكن أن تهدد المغرب، سواء من طرف الجماعات المتطرفة أو المزايدات الطائفية. مما يوحي بولادة دستور جديد، يؤكد على قوة نظام البيعة، وكلمة السر في صمود المغرب في مواجهة التهديدات الإرهابية التي يمكن أن تهدد إستقرار المملكة.
ولهذا، إستمر المغرب على تقوية نظام مؤسسة البيعة كضامنة للوحدة والإستقرار، وحافظة للهوية الدينية والتاريخية للمغرب، حيث أن الملك الراحل، الحسن الثاني، يؤكد أن البيعة عقد مبني على الإخلاص والقيام بالواجب، وأن يضع الملك يده في يد شعبه الذي يعاهده بأن يضل وفيا ومخلصا له، وبالمقابل يتعهد الملك بالدفاع عن الشعب والسهر بإستمرار على رخائه وكرماته(8). وقد حافظ الملك محمد السادس أيده الله على عقد البيعة، بإعتبارها حجر الأساس في النظام الملكي الدستوري والمؤسساتي، لهذا يبايع المغاربة جلالة الملك كل سنة، تكريسا لمبدأ الطاعة وتأكيدا للإستمرارية والتمسك بأهذاب العرش، وقطع الطريق عن المزايدات الطائفية والعقائدية(9).
فعلا تشكل البيعة أداة دافعة و مجسدة لربط الأصالة و المعاصرة بمغرب يجمع بين التراث و التحديث والتنمية و تأكد أن المغرب له جذور تاريخية عميقة و هذا ما أكده جلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطابه السامي ليوم الجمعة 20 غشت 2021 الموجه إلى الأمة بمناسبة الذكرى الثامنة و الستين لثورة الملك و الشعب حيث يقول جلالته ” فالمغرب مستهدف لأنه دولة عريقة تمتد لاكثر من إثنى عشر قرنا فضلا عن تاريخها الأمازيغي الطويل، و يتولى أمورها ملكية مواطنة منذ أزيد من أربعة قرون في ارتباط قوي بين العرش و الشعب”(10) .
مجمل القول إن المغرب يعتمد على مجموعة من المؤسسات القوية و الأدوات والآليات التي تضمن له الاستقرار والتي توفر نعمة الأمن ومن أهمها البيعة التي تضمن الاستقرار والاستمرارية للمملكة الشريفة .
ـــــــــــــــــ
لائحة المراجع:
1 – أنظر جريدة السياسة الجديدة – العدد 461 . 28 نونبر 2003 ص 7
2 – الأستاذ محمد كنون الحسني: لبيعة وأثرها في الإستقرار و ربط أواصر المحبة وتجديد العهد من شمال المغرب وجنوبه. – مجلة دعوة الحق العدد 397 شعبان 1431 يوليوز 2010 ص 31
3 – أنظر جريدة مجالس العدد 302 – 18 شتنبر 2014 ص 9
4 – سورة الفتح الآية رقم 10
5 – Abdel Kabîr Alaoui MDAGHRI « le concept constitutionnel de la bei a du point vue de l’islam« révision de la constituions marocain 1992 analyse et commentaire » opcit page 183
6 – البيعة و العهد و تأثيرها في الإستقرار و الإستمرار – مجلة الأحياء رابطة علماء المغرب المجلد الخامس العدد الأول. ذي الحجة 1405 اكتوبر 1985 ص 106
7- محمد لكموش : (الدين و السياسة في المغرب) افريقيا الشرق 2013 ص 108
8- للمزيد من التوسع أنظر : الدكتور عبد الرحمان شحشي ” لقراءة في الخطاب عند الحسن الثاني تحليل آليات الأشغال في الحقلين الديني والسياسي” . المطبعة الملكية الرباط . 1428 /2007 ص من 141الى 146.
9 – أحمد المكاوي، “الدروس الحسنية في عهد محمد السادس”، أخبار السياسة العدد 6 / 14 الى 20 نونبر 2003 ص 10 .
10 – مقتطف خطاب جلالة الملك إلى الأمة بمناسبة الذكرى 68 لتورة الملك و الشعب سنة 2021 .
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15483
zahraeمنذ 10 أشهر
مقال جميل جدا، بالتوفيق.