كنت الابن البار والمطيع لكل أوامر الدين السياسي، من الصلاة كممارسة شخصية حتى حضور مجالس الوعظ كمدخل جماعي لتبني أفكار معركة الصراع حول الهوية، ومن الدعاء حتى الدعوة، ومن تلاوة الكتاب حتى النهي عن المنكر، نعم كلها ودون مبالغة، كلها وأكثر كانت تحدد درجة سمو التزامي بالدين.
حسن الظن بالمنظومة ككل جعلني أتجاهل استغلال الشيوخ لفتاوى خاصة اكتشفتها مع الوقت تبيح السطو على الأموال واستغلال النساء. حتى لو ضاقت النفس منها، حتى لو تسببت في شرخ العلاقة مع الأسرة، هم العدو فاحذرهم، عبارة تزيد في عزم الجهادي نحو طريقه، يتحمل كل هذا الألم من أجل الخلاص المفاجئ والنهائي، وتقبلت خدعة حصن هالة الأوهام، تحصنت ضد تقبل دروس الحياة التي تخبرني بخطأ اختياري، وتحصنت بمسلمات جعلتني مبدئيا أؤمن بأنني على حق وخطواتي مباركة، أي تحظى بتأييد الله! وما كل المآسي التي صنعتها لنفسي سوى ابتلاءات الله لعباده المخلصين! وإن ابتُلي بها عدوي فهي عذاب في الدنيا قبل الآخرة! ما المعيار؟
لم يكن التساؤل مهما بقدر ما كان المهم هو أني كنت من الصادقين في تسلم منحة مسمومة؛ عنوانها أني مشروع داعية على ناصية حماية الهوية ، والهجوم على أي تيار يدعي أنها ليست دينية جامعة ومانعة، وجعلتها طبعا بديلا عن هويتي الحقيقية التي لم أقرأ عنها بالقدر الذي تستحق إلا بعد فوات زهر العمر. وددت لو يبقى الفقيه على الهدوء نفسه، اليوم ليلة الثلاثاء في درسه الليلي لأسأله، وينصت لي بود كعادته أيام كنت منصاعا كلوحة ترسم نفسها لتعكس خطاب الغضب والضيق، هل ابتلاءاتي طاهرة اليوم يا شيخ؟ هل أعتبر إيماني بالحياة مباركا كما كنت أعتبر ذلك وقت إيماني بالموت؟ هل تستطيع ياشيخ أن تقول لي كيف أصبحت سعيدا دون بغض أحد؟ بل حتى بإلغاء مفهوم البغض من فكري؟ هل يحق للمؤمن أن يكون كذلك دون بغض الكافر ثم المبتدع ثم الخشية من أسرتي من أن تكون فتنة؟ ثم بربك هل لازلت تطيق يا شيخ تحريض غرائز الرجال ضد مقاسات أثواب النساء؟!
في لقاءاتي العابرة لهذا الشيخ هذه الأيام لا يعبأ إن كنت مؤمنا بما كان يقول لي قبل خمسة عشر سنة، فقط يحب أن يبتسم لي ويسأل إن كنت أكتب في “النت” بالصدق نفسه الذي كنته تلك الأيام، قال إنه يتابعني باستمرار ولم يضف إن كنت قد زغت عن الطريق القويم، لأنها إضافة قد تفتح نقاشا يضع مسؤوليته على ما وقع في وعي جيل بأكمله كان محيطا به في خطب الجمعة والدروس. أصر في الحوار أن يسألني إن كنت صادقا، هي لعبة تأنيب الضمير نفسها يحاول تحريكها في قلبي، لكني حاولت استفزاز عقله، وماذا يقول تحليل نتائج خطابك كل هذا الوقت ياشيخ؟ ذهب معتذرا ومبتسما ليضعني كعادة أي داعية أمام الخوف من نفسي، حيلة كنت أتقنها حين أفشل في نقاش مع عقلاني ما، أضعه أمام اختبار الصدق كي أحاكمه إن كان منحرفا في العقيدة.
عدد من الأصدقاء الجهاديين والمعتدلين القدامى يستعمل معي الحيلة نفسها اليوم، أصبحت أدخل من خلال هذه الحيلة كي أربط معهم اتفاقا على معيار عقلاني للحوار، أقول لهم الصدق هو من انتزعني من الحياة الجميلة لأكون جهاديا وهو نفسه من انتزعني من هذا التيار، الصدق متاح للأذكياء والأغبياء، الأخيار والأشرار، يمكن لأي مجرم أن يكون صادقا في اغتنام مايريد من جريمته، لازال أكثر المعتدلين يشفعون لبن لادن بالصدق، والحقيقة أنهم يفعلون ذلك لأنه التعبير الصريح عنهم ، وكونه النسخة الصادقة منهم . لماذا نبرر فشلنا، جرائمنا ، أخطاءنا، خطايانا بالصدق، بديهي أن تحسد صديقا بصدق، لكن ذلك لن يبرر سوء القصد، صدق النية لا يبرر أو يخفي أو يبرئ تلوث النية بالكراهية.
إذا كان الصدق يختبئ في كل فعل بغيض تجاه الآخر ففي الدين الاختباء يكون شديد الخفاء شديد الحربائية، لا تكاد تميز جرم الفكرة إذا قال صاحبها أنا صادق، إنه ختم الريع الأخلاقي، كأنه محلول احتيال، تضع قطرة منه على بحر من الدماء فتحال دماء في سبيل الله، كذلك تلك الفتوى التي جعلت من قتلى الكفار الأبرياء في العمليات الانتحارية شهداء بسبب صدق الانتحاريين في عملياتهم!؟ بدأ القرضاوي ذلك في فتاويه ضد مدنيي اليهود، ونسخت الفتوى على المدنيين الأوروبيين والمسلمين في بلادهم، إنها فلسطين والقصة المأساوية لتنزيل التدين بالمأساة الفلسطينية وتلك قصة أخرى.
تغير مساري الفكري بعد سنوات على نحو أفضل، هل أنت متأكد على نحو أفضل؟ كيف عرفت وحسمت؟ فعلا الأمر صعب، التخلي عن التطرف مبدئيا، فقط بالابتعاد عنه دون مناقشته هو مجرد انتساب له في الهامش، أما مواجهته بصراحة هو بداية صريحة للتخلي عنه، لذلك يجب أن أقر أني كنت الابن البار للإسلام السياسي، وبدأت في الخروج من هذه البنوة لحظة تحرك تفكيري ليسأل سؤالا يختبر أول مسلمة طرأت على ذهني في مرحلة مابعد الإفراج والابتعاد عن أي تأثير ديني، بدأت تتساقط اليقينيات مع دموع مؤلمة، لا واسطة بيني وبين كتب التراث، أسائلها.
هل نصَّ الإسلام نظريا على تنزيل نظام حكم باسم الله و أمر به؟ لا ياولدي، ولكن هذا لايمنع أن نستنتج من عمل الرسول أن …! توقف أرجوك.. عن أي استنتاج تتحدث، إنها فكرة أجهزت على آلاف الأرواح لتقول بعدها: لا ياولدي، لكن هذا لايمنع من أن …! هل كان كل هؤلاء الدعاة يقودون وعي الشباب للموت أو الضياع باحتمال ضعيف! هل الله أوحى باحتمال ضعيف في موضوع الحكم؟ من موضوع الحكم ابتدأ معول النقد في العمل و لم ينته حتى خلصت لتعريفي الخاص للإيمان والإسلام.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=11938