الإطار التربوي لطرق تدريس الدرس الفلسفي لتلامذة السلك الثانوي التأهيلي

دينبريس
دراسات وبحوث
دينبريس8 يناير 2025آخر تحديث : الأربعاء 8 يناير 2025 - 9:58 صباحًا
الإطار التربوي لطرق تدريس الدرس الفلسفي لتلامذة السلك الثانوي التأهيلي

إبراهيم الوثيقي ـ اطار بوزارة الثقافة المديرية الجهوية لقطاع الثقافة جهة درعة تافيلالت
مقدمة:
لقي الفكر التربوي في السنوات الأخيرة تحولات تربوية مهمة، وانتقادات حادة لطرق التدريس التقليدية المتبعة في مراحل التعليم المختلفة. ومن هذه التحولات نجد الاهتمام المتزايد بتنمية القدرات الفكرية لدى التلاميذ، ولهذا تدعو أساليب التربية الحديثة إلى اعتبارها هدفًا رئيسًا في جميع مراحل العملية التعليمية التعلمية وفي باقي المواد الدراسية، وخاصة ما يتعلق منها بتعليم التلاميذ التفكير النقدي باعتباره أحد الكفايات الممتدة والمستعرضة بين جميع المواد.

وفي هذا السياق يهدف منهاج مادة الفلسفة إلى التربية الفكرية وتمكين التلاميذ من امتلاك الحس النقدي المبني على أسس علمية ومنطقية، وذلك لتجاوز كل طرق التدريس التي تتسبب للتلاميذ بالتعب والملل داخل الفصل الدراسي والمتمثلة في “الحفظ” و”التذكر”. وفي المقابل، الاهتمام بتربية التلاميذ وتعليمهم على كيفية صياغة وصقل “السؤال” و”الشك” و”التصور” و”التخيل” و”الاستدلال” والتحليل و”المقابلة” والتركيب و”النقد” و”التقييم”… إلخ.

وهذا لا يتأسس بالفعل إلا بالعودة إلى بعض الفلاسفة الذين أصلوا لبناء التفكير العلمي والمنهجي لصياغة المعارف الفلسفية مثل الفيلسوف الفرنسي “رينيه ديكارت” أو عند بعض علماء التربية كالمفكر “بلوم” الذي اشتهر بتصنيفه المنطقي لتركيب وبناء المعارف وفق خطاطة نسقية تمكن الأساتذة من إضفاء طابع العلمية والاختزال والتبسيط ومردودية التحصيل لدى التلاميذ بكلفة أقل ووقت ضئيل.

كل هذا يمكن المتعلمين من الاستيعاب والفهم والتخزين بشكل جيد. لأن المتعلم في ظل المناهج الحديثة يُنتظر منه أن يصبح عنصرًا إيجابيًا يتفاعل مع المادة المعرفية التي تُلقى أمامه باعتباره قد يقابل هذه المعرفة بالشك أو النقد أو التساؤل أو التأييد أو الدحض… إلخ، وليس وعاءً لملئه وشحنه بمختلف المعارف من شتى المرجعيات والمناهج المختلفة.

إن الوقوف عند طرق تدريس الدرس الفلسفي رهين بمعرفة مساره التاريخي بالمغرب، ثم الوقوف عند بعض المفاهيم التي تهيكل هذا الموضوع. من أبرز معالم هذا المسار سنتطرق إلى أهم المواقف والاتجاهات التي تختلف وجهات النظر من خلالها في تدريس مادة الفلسفة ونعمد في الأخير إلى إعطاء مقارنة بين طرق التدريس القديمة والحديثة التي تعتمد في تدريس مادة الفلسفة لتلامذة الثانية بكالوريا آداب.

التحليل الإجرائي للمفاهيم
تعريف طرق التدريس :
تعد منهجية تدريس الفلسفة من بين القضايا المطروحة في حقل ديداكتيك الدرس الفلسفي لتلامذة السلك الثانوي التأهيلي بالمغرب. إن تدريس الفلسفة وفق البيداغوجيات الخاصة بها يشكل موطن تساؤل ونقاش حاد من خلال معرفة الوسائل الديداكتيكية ومختلف الأساليب والمنهجيات التي ينبغي على مدرسي الفلسفة بمستوى السلك الثانوي التأهيلي اعتمادها لتبسيط المعرفة وتجزيئها لفئة التلاميذ من المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسة وتنزيل المادة من الفكر المجرد إلى الفكر المحايث لواقع التلميذ ومحيطه السوسيو-تربوي.

وهذه عملية تربوية تتطلب من مدرس الدرس الفلسفي تجويد أساليب ومنهجيات وطرق التدريس التي يعتمدها بالفصل الدراسي مع المتعلمين. لكن هذا لن يتحقق إلا بفعل تجارب واجتهادات الباحثين والخبراء في المجال التربوي في رسم خريطة واضحة المعالم للأسس والبنيات المنهجية التي يجب أن يحتكم لها الدرس الفلسفي.

وفي غياب ذلك نجد تساؤلات عريضة تقف أمام مدرسي مادة الفلسفة يمكن تلخيصها في التساؤل التالي: ما هي منهجية تدريس الفلسفة؟ وكان هذا التساؤل بمثابة الهاجس بل والقلق الذي جعل العديد من المدرسين والباحثين في مجال الفلسفة يقدمون تصورات متعددة ومختلفة حول هذه المنهجيات التي تتعارض من تيار إلى آخر بل ومن مدرس إلى غيره. لكن رغم هذا الاختلاف فهناك بعض عناصر الترابط والتي تهدف بالأساس من داخل عملية تدريس الدرس الفلسفي إلى تبسيط المعارف المتمثلة في المفاهيم والتصورات والمواقف التي تتضمنها المقولات والنصوص الفلسفية.

طرق التدريس في شموليتها يقصد بها المنهجية التي يقوم بها المدرس قصد الوصول إلى الغاية أو الهدف المتوخى من الدرس وهي تتطلب الترتيب والتنسيق والتسلسل للأفكار والأعمال والتقنيات. وبما أنها تحتوي مجموعة من الإجراءات والتدابير التي تفترض التنظيم، وبمعنى أدق تحتاج إلى تخطيط المدرس بشكل مسبق قبل المباشرة بتنفيذ الدرس. ومن واجب المدرس توظيف خبراته ومعارفه مع التقنيات العلمية للوصول إلى كفاية الدرس المخطط لها من قبل.

وتنحصر أهمية الطريقة في إيصال المعارف والمعلومات والمهارات إلى المتعلم. ويمكن اختصار أهميتها بقول أب الفلسفة الحديثة “رينيه ديكارت”: “أحرى بنا ألا نفتش عن الحقيقة من أن نفتش عنها بأية طريقة كانت….”.

عرف “كالسو” (Galis) طرائق التدريس بأنها مجموعة من الخطوات المنظمة وفق مبادئ وفرضيات سيكولوجية وبيداغوجية ومتجانسة تستجيب لهدف محدد. ولا يمكن الحديث عن الطريقة في نظره إلا عندما يتحقق قدر من التلاؤم بين الأهداف والمبادئ والخطط والتقنيات لأن الطريقة لها خطوات منظمة تجعلها تحقق هدفها المحدد سلفًا.

ومن هنا فطريقة التدريس هي مختلف الأنشطة التي يجب أن يزاولها المدرس، لجعل التلاميذ يحققون أهدافًا تربوية محددة. وكل هذه الأنشطة ترتبط بسلوك التلميذ ونشاطه لأن التدريس في شموليته هو مجموعة أداءات يستخدمها المدرس لتحقيق سلوك متوقع لدى المتعلمين. إن الأساس الذي تقوم عليه طرائق التدريس هو إيصال المعلومات من المدرس إلى المتعلم إلى جانب الأهداف التربوية الأخرى.

وهنا ينبغي للمتعلم كما يؤكد (Galison) أن يراعي الفرق الموجود بين المتعلمين والمتمثلة أساسًا في قدراتهم ومهاراتهم. وهذا ما تركز عليه النظرة الحديثة في طرق التدريس التي يمكن اعتبارها آليات منهجية تهدف إلى تنظيم المجال الخارجي الذي يحيط بالمتعلم كي ينشط ويغير سلوكه التربوي. وكل هذا يندرج ضمن طبيعة المعرفة والأداء الذي ننتظره من التلاميذ مستقبلاً. تنحصر هذه النظرية في كون التعليم يحدث نتيجة التفاعل بين المتعلم والظروف الخارجية المحيطة به. ومن واجب التلميذ تهيئة هذه الظروف والاستجابة لها والتفاعل معها.

وأخيرًا يمكن القول إن طريقة التدريس ترتبط ارتباطًا وثيقًا بين المادة التعليمية والمتعلم ضمن سياق الأهداف التربوية التي تم تسطيرها من قبل لأنها جزء متكامل من موقف تعليمي يشمل المتعلم وقدراته وحاجاته، والأكثر من ذلك التحقق من الأهداف الكلية والجزئية التي يطمح المدرس الوصول إليها من خلال مادته المدرسة. وهذا لن يسلك مساره الصحيح إلا بفعل التنظيم والرفع من كفاية وأساليب التدريس، التي تنظم مجال التعلم وتبسط معالم العملية التعليمية التعلمية للتلاميذ.

بعد الحديث عن طرائق التدريس وفق تصور كالسون الذي أعطى نظرة شاملة تؤسس البعد المفاهيمي والتصورات العامة التي يمكن معرفتها عن طرق التدريس، نحاول بعد ذلك مقاربة هذا المفهوم من الناحية التربوية والبيداغوجية.

الطرائق البيداغوجية:
1- إشكالية التعريف: عندما نرجع إلى الأدبيات التربوية، نجد أن مفهوم الطريقة البيداغوجية قد استعمل بمعانٍ ودلالات متباينة إلى حد لم يعد معه بالإمكان حصر مدلولها بصورة دقيقة. ويرجع أفانزين “Avanzini” إشكالية تعريف الطريقة البيداغوجية إلى تنوع واختلاف الاتجاهات التربوية والأطر المرجعية التي تؤطر المادة المدرسة.

فكنورص “Knors” مثلًا، يؤكد أن مفهوم الطريقة قد يشير، على الأقل، إلى خمسة معانٍ مختلفة هي تنظيم التعليم، وتنظيم المنهاج، وتنظيم الدرس، وشكل العمل الديداكتيكي، وإنجاز الدرس. وقد يزداد التحديد تعقيدًا وصعوبة عندما نضيف إلى هذا الاستعمال المتعدد لمفهوم الطريقة البيداغوجية بعض المفاهيم القريبة منه من حيث الدلالة. ومن هذه المفاهيم مفهوم التقنية، ومفهوم الأسلوب التعليمي، ومفهوم النموذج التربوي، ومفهوم المنهجية. وعموما، نقترح بعض التعاريف:

– الطريقة البيداغوجية: أسلوب عام للتدريس، وهي كذلك أسلوب تدريس مادة معينة.
– الطريقة البيداغوجية: شكل من أشكال العمل الديداكتيكي داخل الوضعية التعليمية التعلمية يجمع بين المدرس والمتعلم في تفاعل مستمر سعيا وراء بلوغ هدف محدد “Mialaret”.

– الطريقة: هي العمليات المنظمة من طرف المدرس في علاقته بتقديم المحتويات قصد تحقيق أهداف معينة بمعية التلاميذ “Decorte”.

– ويعرف المعجم الخاص بالبيداغوجيا الطريقة البيداغوجية بأنها مجموعة منظمة ومتناسقة من التقنيات والوسائل التي نستعملها من أجل الوصول إلى هدف محدد هو تسهيل العمل التربوي l’action éducative.

وترتكز الطريقة البيداغوجية دائمًا على فكرة محددة حول الإنسان والمجتمع والعلاقات المتوخاة. كما يميز المعجم نفسه بين الطريقة والاستراتيجية التي هي كذلك مجموعة من الوسائل والتقنيات الهادفة إلى تحقيق هدف ما، لكنها خاصة وغير منتظمة وليست عامة ومنظمة كالطريقة. وهذا يعني أن الطريقة الاستقرائية مثلا هي نفسها سواء في المغرب أو في أمريكا، لكن الاستراتيجية التي يطبقها المدرس أو المتعلم ضمن هذه الطريقة قد تختلف من شخص إلى آخر.

المعنى الأول: تعني الطريقة كل اتجاه بيداغوجي يبحث عن دعم بعض الغايات التربوية فيؤدي إلى اقتراح مجموعة من الممارسات مثل طرائق تقليدية، طرائق حديثة، طرائق فعالة. وما يوحد بين هذه الطرائق هو كونها تعمل على توظيف وضعيات ووسائل مختلفة، تكون تابعة لمشروع تربوي واضح. مثل ذلك نجد أن تقنيات فريني “Freinet” تتمحور حول عدة أنشطة تتمركز حول اقتناع أساسي يتمثل في أن نمو الطفل يتحدد من خلال التزامه بأعمال يدرك معناها جيدا، وتصل به إلى تنفيذ أنواع من التعلم تكون أهدافها واضحة بالنسبة إليه.

المعنى الثاني: تستعمل عبارة “طريقة بيداغوجية” للدلالة على نوع من الأنشطة التي تهدف إلى إتاحة بعض أنواع التعلم، أو تهدف إلى تنمية بعض القدرات، من خلال التعليم المبرمج. إن الشيء الموحد في هذه الطريقة هو طبيعة النشاط في خصوصيته البيداغوجية، حيث يستدعي هذا النشاط وضعيات ووسائل محددة. فالتعليم المبرمج مثلا، هو طريقة من حيث استدعاؤه لتشخيص فردي وقبلي يساهم في وضع تدرجات خطية.

المعنى الثالث: تستعمل عبارة طريقة بيداغوجية للإشارة إلى وسائل خاصة ذات استعمالات مضبوطة ترتبط بأهداف محددة جدًا. من هنا يمكن أن نتحدث عن الوضعية المشكلة “Situation-problèm”، أو عن مشاكل مفتوحة “Problèmes-ouverts”. ويمكن للمدرس أن يستعمل هذه الطريقة مثلا خلال بعض مراحل إنجاز البرنامج الدراسي عندما لا يفرض أي أسلوب في العمل، ويقتصر فقط على مجموعات عمل للمناقشة والحوار وتعارض الأفكار وتقديم الحجج والتمرن على الإقناع وإنتاج المعارف وتعبئتها في الوضعيات والسياقات المختلفة.

مفهوم التدريس:
قبل الوقوف على تفسير مفهوم علم التدريس، لابد أن نعرف بالتدريس من خلال معناه اللغوي والاصطلاحي ثم ننتقل إلى تعريف علم التدريس في شموليته:

التدريس من الجانب اللغوي:
ينشق أصل كلمة تدريس من الدرس وتعني الانمحاء، ومنه “درس الشيء يدرس دروسًا عفا”. وهذا أصل الكلمة في استعمالها الأول. ولما كان ما انمحى يحتاج إلى إظهاره وبدل الجهد لاستخراجه، سمي ما بذل في جهد القراءة والحفظ والفهم. ومن خلال ما سبق فالتدريس من الناحية اللغوية هو بذل الجهد للقراءة والحفظ والفهم أو الإفهام.

التدريس من الجانب الاصطلاحي:
التدريس: هو نشاط تعليمي تعلمي يقوم به المدرس لإكساب المتعلم مجموعة من المعارف والمهارات، والقيم والسلوكات لتوظيفها في وضعيات مختلفة. وهذا المعنى له ارتباط بالمعنى اللغوي لأن التدريس كذلك يقوم على القراءة، والحفظ، والإفهام. والتدريس في هذا المستوى يحتاج إلى الدقة في التخطيط والضبط في التنفيذ والتقويم. وهنا يمكننا التمييز بين مستويين من التدريس:

المستوى الأول: في التدريس يعتمد على المعرفة بدون تأهيل في الجانب البيداغوجي. وهذا النوع من التدريس يتسم بالارتجال والعشوائية، لأنه يمارس بدون قواعده وأسسه ووسائله.
وهذا النوع من التدريس نجده لدى مدرسي التعليم العالي على الخصوص، لكون هؤلاء يعتمدون في الغالب على المؤهل العلمي المعرفي المتعلق بالتخصص.

المستوى الثاني: يعتمد هذا الجانب على التأهيل البيداغوجي الذي تتولاه مراكز التكوين التربوي بشتى مستوياتها. وهذا يشمل الطور الابتدائي والثانوي بسلكيه الإعدادي والتأهيلي.
يراد بعلم التدريس الدراسة العلمية التطبيقية المعيارية المتعلقة بالأهداف التربوية والعلاقة بين المتعلم والمدرس والمادة المدرسة، وطرق التدريس والوسائل البيداغوجية، وطرق التقويم والدعم.

مفهوم التربية:
ينتمي مفهوم التربية إلى سوسيولوجيا التربية. ورغم تعدد التعاريف لهذا المفهوم، فهو لديه ارتباط بمفهوم التنشئة الاجتماعية من جهة أخرى. ورغم تعدد الرؤى حول هذا المفهوم، إلا أنه بمثابة ظاهرة اجتماعية لها جوانبها الاجتماعية والسيكولوجية والثقافية. لكن إذا حاولنا التأسيس للبعد البنائي للتربية باعتبارها نظامًا اجتماعيًا، والبعد الوظيفي للتربية بالنظر إليها كبعد وظيفي للثقافة والمجتمع والفرد، هنا نستحضر مساهمة السوسيولوجي الفرنسي “إميل دوركايم” باعتباره المؤسس الفعلي لسوسيولوجيا التربية وذلك من خلال مؤلفه “éducation et sociologie”.

فالتربية هي فعل شامل وعام لا توجد فترة من الحياة الاجتماعية، ولا توجد لحظة عابرة إلا ويتم فيها تلقين مجموعة من المعارف والإرشادات والتوجيهات للأجيال الشابة، حيث تلتقي منها تأثيرًا تربويًا مستمرًا عن طريق التعليم.

ويتصور دوركايم التربية كفعل اجتماعي أو كعملية اجتماعية تاريخية في إطار ثلاث مستويات مترابطة: الغايات التي يستهدفها المجتمع من التربية في فترة تاريخية محددة، والنظام التربوي الذي يقوم بترسيخها، والوسائل المعتمدة داخل هذا النظام لتحقيقها. ويمكن تحديد التربية أيضًا حسب دوركايم، أنها بمثابة ذلك “الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة التي لم تصبح بعد ناضجة للحياة الاجتماعية وموضوعها هو إثارة وتنمية عدد من الاستعدادات الجسدية والفكرية والأخلاقية عند الطفل، والتي يتطلبها المجتمع السياسي في مجمله والوسط الخاص الذي يوجه إليه”.

إذن يمكن القول إن التربية لها عدة أشكال متنوعة، ولها تجليات ومجالات مختلفة، وذلك حسب اختلاف الوسط أو المحيط الاجتماعي للأفراد ونوعية الوسائل والميكانيزمات المتخذة لتطبيقها.

وفي هذا الصدد يقول “إميل دوركايم” السوسيولوجي الفرنسي: ليس هناك مجتمع له نظام تربوي إلا ويمثل طابعًا مزدوجًا، فهو في الآن ذاته واحد ومتعدد. متعدد بمعنى خاص، ويمكن القول إن التربية تعود إلى أنواع التنشئة الاجتماعية المختلفة بقدر ما في هذا المجتمع من سياقات مختلفة. فإذا كان المجتمع يتكون من طوائف، فإن التربية تختلف من طائفة إلى أخرى. وحتى اليوم نرى التربية تختلف باختلاف المناطق والطبقات الاجتماعية وغيرها من الميكانيزمات المتحكمة في عامل التربية. لكن رغم ذلك يقول دوركايم إن التربية تتمثل في التنشئة الاجتماعية المنظمة لجيل الصغار من قبل الراشدين.

البيداغوجيا la pédagogie/:
غالبًا في استعمالاتنا المتداولة لمفاهيم الحقل التربوي ما يتم الخلط أو عدم التمييز بين مفهوم التربية ومفهوم البيداغوجيا. ولملامسة الفرق الدلالي بينهما نستحضر بعض التعاريف لمفهوم البيداغوجيا.

يعتبر Harion البيداغوجيا علم التربية سواء أكانت جسدية أو عقلية أو أخلاقية، ويرى أن عليها أن تستفيد من معطيات حقول معرفية أخرى تهتم بالطفل (la Lalande). أما Foulquié فيرى أن البيداغوجيا أو علم التربية ذات بعد نظري، وتهدف إلى تحقيق تراكم معرفي، أي تجميع الحقائق حول المناهج والتقنيات والظواهر التربوية. أما التربية فتحدد على المستوى التطبيقي لأنها تهتم، قبل كل شيء، بالنشاط العملي الذي يهدف إلى تنشئة الأطفال وتكوينهم (الدريج، 1990).

يشير مفهوم البيداغوجيا في الغالب إلى معنيين، تستعمل للدلالة على الحقل المعرفي الذي يهتم بالممارسة التربوية في أبعادها المتنوعة. وبهذا المعنى نتحدث عن البيداغوجيا النظرية أو البيداغوجيا التطبيقية أو البيداغوجيا التجريبية. ونستعملها للإشارة إلى توجه orientation أو إلى نظرية بذاتها تهتم بالتربية من الناحية المعيارية normative ومن الناحية التطبيقية، وذلك باقتراح تقنيات وطرق للعمل التربوي. وبهذا المعنى نستعمل المفاهيم التالية: المؤسساتية، البيداغوجيا اللاتوجيهية.

ويمكننا أن نضيف كذلك، للتميز بين التربية والبيداغوجيا أن البيداغوجيا حسب أغلب تعريفاتها بحث نظري، أما التربية فهي ممارسة وتطبيق.

اختلاف المواقف والاتجاهات في طرق تدريس مادة الفلسفة:
يثير التفكير في بيداغوجيا الفلسفة قضايا وإشكالات عديدة، يمكن تلخيصها عبر التساؤلات التالية: هل هناك ضرورة لقيام بيداغوجيا للفلسفة أم أن لهذه الأخيرة بيداغوجيتها الخاصة بها؟ وهل يمكن أن يخضع تدريس الفلسفة لنفس القواعد التعليمية التي تخضع لها المواد الأخرى؟ ثم هل يتضمن الخطاب الفلسفي ما يمكن أن يساهم في إغناء النقاش الدائر حول البيداغوجيا والمؤسسة وحول تنظيم أشكال التواصل بين منتج الخطاب (الفلسفي) ومتلقيه؟

تتفرع عن هذه الأسئلة عناصر مثيرة للجدل والاختلاف بين المهتمين بالفلسفة وتدريسها. ومن ضمنها: مسألة خصوصية الفلسفة المتمثلة في طبيعتها الشمولية والفلسفة كمادة مدرسية، مسألة خصوصية الفلسفة المتمثلة في طبيعتها الإشكالية والتساؤلية والنقدية، ومسألة الضرورة الديداكتيكية وعلاقتها بفعل التفلسف. فكيف ستتمفصل هذه العناصر ضمن الخطابات حول البيداغوجيا والفلسفة؟

المطلب الأول: البيداغوجية الديداكتيكية والفلسفة:
سننطلق من كون البيداغوجيا هي بالمعنى الإجمالي فن التربية، أما إذا أخذنا في معناها الحصري فإنها تعني “الطريقة التأملية والمؤسساتية لتعليم المعرفة وإكساب مهارة.” لذلك فإن فعاليتها ستتبلور داخل فضاء المدرسة. التأمل في فعل المعرفة والتعلم هو الذي سمح بطرح أسئلة دقيقة مثل: ما معنى التعلم وكيف يحصل؟ ما هو التدريس وما هي مواصفاته؟ ما معنى الرغبة في المعرفة وفي الفهم؟ من هو المتعلم؟ وهل يتم التركيز في فعل التعلم على قدراته أو معارفه التي استقاها من ميادين أخرى أم على فكره؟ إذن هذه كلها أسئلة تندرج ضمن ما يعرف باستراتيجيات التعليم وطرائقه. لذلك فإن الحديث عن علاقة البيداغوجيا بدرس الفلسفة هو في جوهره “تساؤل عن طرق التعليم الموظفة، التي يمكن أن توظف في إطار هذا الدرس.” وبما أن أية معالجة لطرائق التدريس لا تنفصل عن إجراءات وممارسات المدرس.

إذن فالتفكير في علاقة الدرس الفلسفي بالبيداغوجيا، وفي حضور البعد البيداغوجي كبعد أساسي من أبعاد تدريس الفلسفة، سيعيدنا إلى نقطة البداية والتساؤل حول ما يمكن للبيداغوجيا أن تقدمه لدرس الفلسفة؟ وأي تصور للفلسفة ولدرسها يمكن تبنيه إذا ما نحن انطلقنا من إمكانية قيام ديداكتيك الفلسفة؟ ثم ألا يعني هذا الأمر سقوطًا في النزعة البيداغوجية التي تلح على ضرورة استلهام معطيات النظريات البيداغوجية المعاصرة، واعتبارها كموجه لتدريس الفلسفة، متغاضية عن خصوصية وحيوية هذه الأخيرة؟

إذا كان أصحاب الموقف الرافض لكل بيداغوجيا خارجية عن الفلسفة ينطلقون من كون هذه الأخيرة لا تحتاج إلى نظريات بيداغوجية، فهم يتهمون هذه النظريات بكونها تقنية تستعمل في خدمة غايات خارجية عن العقلنة الفلسفية، تقنية تحكمها وجهة نظر دمجية تتعارض مع الماهية النقدية لهذه العقلنة الفلسفية. كما أنهم يعتبرون بأن البيداغوجيا غير مجدية، عملًا بالأطروحة المشهورة والتي مفادها أن الفلسفة تمتلك بيداغوجيتها الخاصة بها، وهو ما يؤدي إلى رفض كل اهتمام ديداكتيكي باعتباره يتناقض جذريًا مع طبيعة تدريس الفلسفة. فالفلسفة ليست مجموعة من الملفوظات الوحيدة المعنى أو من المضامين الجاهزة، بل هي مقاربة إشكالية للقضايا، ومحاولة موضعتها ضمن معارف وصفية أو حسب مراقي وقدرات، هو اختزال لفعاليتها وطمس للجانب النقدي فيها.

مقابل ذلك، ينبري الموقف المتحمس لبيداغوجيا تتأسس وتتطور خارج خطاب الفلسفة، بحجة تكملة النقص الذي تعاني منه هذه الأخيرة على مستوى تدريسها، ذلك أن معنى الخطاب الفلسفي بالنسبة للتلميذ لا يتلخص في العرض المفاهيمي الشارح للمدرس، حتى ولو اعتبرنا مع هيغل بأن الحقيقة هي تمظهر الخطاب. فالمعنى بالنسبة لمن يتعلم التفلسف، ينبثق دائمًا من علاقة حريته بالحقيقة، لذا فإن إخضاع الدرس الفلسفي للديداكتيك، هو توسط لبلوغ هذا الهدف.

هذا التعارض بين المواقف هو الذي حدا بمشيل توزي إلى الدعوة لحوار هادئ بين المتحمسين والرافضين لبيداغوجيا الفلسفة، وإلى التأمل في المشاكل التي تثيرها العلاقة بين الخطاب الفلسفي وديداكتيك الفلسفة بين قول الفيلسوف وقول مدرس الفلسفة. لذلك وضع توزي فرضية ديداكتيك للتفلسف قائمة على التميز بين التفلسف أمام التلميذ وتعليمه التفلسف. فداخل هذه الهوة بين التعليم والتعلم تتحدد ديداكتيك الفلسفة، وعلى امتدادها “يجب التأمل في الوسائط الضرورية بين التفلسف الذاتي وتعليم الفلسفة للآخرين، تدريسها وتعلمها، سماع أو قراءة الفلسفة وبداية التفلسف الذاتي.

إن مدرسي الفلسفة مطالبون إذن بالاهتمام بهذه الأخيرة كمادة تدريسية وليس فقط ككيان معرفي قائم بذاته ومتعالٍ عن باقي المواد الأخرى. ذلك أن الإشكالية البيداغوجية لتدريس الفلسفة لا تمنع مشروعيتها إلا عبر مساءلة المدرسين الديداكتيكية لممارساتهم. إضافة إلى ذلك، فإن الفلسفة لا يمكنها أن تظل بمنأى عن التطورات التي عرفتها نظريات التربية والتعلم، والتي انعكست على ديداكتيك المواد المدرسة وأعادت النظر في استراتيجيات وتقنيات تعليمها وأساليب تقييمها.

وفي هذا الإطار يتحدث توزي عن البعد العلمي لديداكتيك الفلسفة، التي تركز على تعلم التلميذ أكثر من تركيزها على خطاب المدرس. ذلك أن تعلم التفلسف، والمتمثل في تنمية مهارات أساسية لدى التلميذ تتلخص في الأشكلة والمفهمة والحجاج، يخضع لتوسط مجموعة من المواقف الديداكتيكية التي لا يشكل خطاب المدرس سوى شكل من أشكالها الممكنة.

إن ديداكتيك الفلسفة باعتبارها “براكسيولوجيا Praxeologie ستتجه نحو الفعل واتخاذ القرار والعمل، وهي كفعالية بيداغوجية تتضمن بعدًا أكسيولوجيًا أيضًا لأنها توظف قيمًا محددة عبر ممارستها. وتستند هذه الفعالية على مشروعية ثلاثية الأبعاد: اجتماعية وفلسفية، وسياسية وبيداغوجية.

– أولًا: نجد مشروعية الباحث كفاعل اجتماعي تستجيب أبحاثه لحاجيات ومتطلبات الممارسين في حقل الفلسفة، والذين يعتبر تكوينهم الفلسفي غير كاف لاكتساب الفعالية البيداغوجية المتوخاة.
– ثانيًا: هناك مشروعية مدرس الفلسفة الذي يجب عليه المساهمة في انفتاح التلميذ على الفكر العقلاني وتعويده على التحلي بالمواطنة الواعية.
– ثالثًا: هناك مشروعية البيداغوجي والديداكتيكي الذي يضع متعلم الفلسفة في مركز اهتمامه الأخلاقي، متخذًا كقاعدة إكساب كل تلاميذه تربية فلسفية.

إن الفعالية البيداغوجية ستتيح للحوار بين الفلسفة والحقول الأخرى (علوم التربية، نظريات التعلم….) وستسمح بتجاوز الحذر المتبادل بين هذه الأطراف، وبذلك ستصبح ديداكتيك الفلسفة عبارة عن مجال للالتقاء وتبادل الأفكار بين علوم ستتخلى بفعل بعدها الأكسيولوجي والبراكسيولوجي، عن الرغبة في إقصاء الفلسفة. وفلسفة لن يمكنها من الآن فصاعدًا – كمادة مدرسة – أن تنزوي في برج متعالٍ عن المواد الأخرى، لأنها ستحرم نفسها من غنى الفكر المركب الذي لا يحيا إلا بفضل تداخل وتكامل المواد الدراسية.

يبدو جليًا أن تدريس الفلسفة في حاجة إلى بيداغوجيا تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المادة وحاجاتها إلى حقول معرفية متنوعة، تسمح لها بتحقيق هذا التعايش الصعب، تعايش الحرية (المتمثلة في فعل التفلسف أي ممارسة التفكير النقدي التساؤلي) والضرورة (أي ضرورة المؤسسة المدرسية والالتزامات الديداكتيكية التي يطرحها تعلم وتعليم الفلسفة).

بيداغوجيا أفلاطون أو بيداغوجيا الحقيقة:
إن نقطة انطلاق البيداغوجيا الأفلاطونية، كما هو معلوم، تتمثل في الحوار السقراطي، لكن هذه البيداغوجيا ستتجاوز الطريقة السقراطية عبر التأكيد على “الممارسة التأملية للفرد تحت إشراف المعلم القادر على توجيه نظرته نحو وحدة تشمل تعددية الأشياء، وإمحائه أمام الحقيقة، لتأتي، بعد ذلك، المؤسسة الأكاديمية التي تقدم المعارف النظرية، وتلقن الفلسفة باعتبارها نهاية مسار المعرفة برمتها.

أما على المستوى العملي، فيتجلى طموح الفلسفة في تسيير شؤون المدينة السياسية والاجتماعية. وبعد ذلك انتقل أفلاطون من مشهد الحوار السقراطي إلى مشهد آخر وهو الديداكتيك، مشهد يمكن نعته ببيداغوجيا الحقيقة، لأنه لا يقدم معرفة جاهزة ولا يعلم محتوى معينًا، بل يساعد على اكتشاف حقائق تعتبر في متناول الجميع.

إن فعل التوليد السقراطي للأفكار (المايوتيقا)، قد قطع الصلة مع التعليم ما قبل السقراطي إذ يستبدل سقراط القول المتعالي الصادر عن “المعلم” بالبحث المشترك الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة. فالمعلم الجديد أصبح متجسدًا في الاستعمال الجيد للغة البيداغوجية والمفهمة الدقيقة والصرامة المنطقية. لقد أصبح الفيلسوف محاورًا لمواطنيه أي متقبلا للآراء والمواقف المخالفة له، وأصبحت الجماعة (المدينة) بفعل ممارسة الحجاج والنقاش.

لم يكن هدف سقراط إذن، هو الانتصار لرأي محدد، فقد كان يطرح السؤال ويرفض بالمقابل إعطاء الجواب، لذلك يمكن اعتباره مؤسسًا لبيداغوجيا تساؤلية تتموقع في خط المساءلة والاندهاش أمام الحقيقة، أي في موقع التفلسف بامتياز. ولعل من بين أسباب محاكمة سقراط، القلق الذي ولده هذا الخطاب التساؤلي الذي لا يتوفر على أجوبة أو أمكنة محددة.

وهو ما سيدفع أفلاطون إلى وضع حد للأسئلة وللتأملات اللامتناهية، حيث سيجد مفهومًا جديدًا للحقيقة باعتبارها بحثًا ديالكتيكيًا في الوجود الموضوعي. إن هدف اللغة الفلسفية هنا سيصبح هو وضع خطاب واضح حول الحقيقة بتوجيه من المعلم. عبر عملية الارتقاء بالمعرفة من الحسي إلى المثالي عن طريق الجدل الصاعد، يفقد الفرد راهنيته ويموت – مجازيًا – كي يتماهى مع عالم الحقائق الثابتة والجوهرية.

البيداغوجيا الكانطية أو علاقة التفلسف بالحرية:
يعتبر الفيلسوف الألماني كانط، بأن فعل التفكير هو استخدام العقل، هذا الاستخدام الذي يقوم أساسًا على مبدأ الحرية. لذلك فإن التعلم بالنسبة للعقل هو ممارسة للحرية، سيرفض كانط كل ما من شأنه أن يخضع عملية تدريس الفلسفة لشروط مخالفة لتلك التي اختارتها الفلسفة بحرية.

إن تعلم التفكير وممارسته، ليس تعلمًا لمحتويات أو لأنساق، إنه استعمال نقدي للعقل، وتجاوز لكل الصيغ الدوغمائية التي أسسها العقل نفسه. هذا الاستعمال النقدي للعقل هو حوار، وباعتباره كذلك فإنه يحدد الفضاء المؤسساتي للتفلسف. إن هذا الفضاء لا ينفي الصراع، بل ينفي فقط وببساطة، الاختلافات التي تتحول إلى حرب كلامية وإلى عنف يقضي على إمكانية قيام جماعة العلماء مكان الصراع وليس مكان العنف والحرب.

أما جاك دريدا فيرى من جهته، بأن مقولة كانط هذه تسمح لنا بوضع تمييز داخل الفلسفة ذاتها بين “التاريخاتية المدرسية” و”العقلانية”، إذ بإمكان التلاميذ أن يتعلموا ويستظهروا مضامين، هي عبارة عن أنساق فلسفية، وفي هذه الحالة يمكن لأي كان أن يعتبر تلميذًا بغض النظر عن سنه. فبإمكاننا كما يقول كانط، أن نحافظ مدى الحياة على علاقة تاريخية – أي مدرسية – مع الفلسفة التي لن تصبح سوى تاريخًا لعرض المواقف الفلسفية.

وهذا التمييز داخل الفلسفة لا يصدق بالمقابل على الرياضيات، التي يمكن معرفتها عقليًا وتعلمها كذلك، فمن بين كل العلوم العقلية “يمكن للرياضيات وحدها أن تعلم بطريقة عقلية، في حين لا يمكن تعلم الفلسفة (اللهم إذا كان ذلك بشكل تاريخي). أما بخصوص العقل، فلا يمكن أن نتعلم سوى التفلسف.

ويشير الفيلسوف جاك دريدا إلى أن بإمكاننا الوقوف عند لحظتين ضمن هذه المقولة الكانطية: حيث تتمثل اللحظة الأولى، في أننا لا يمكننا تعلم الفلسفة بل يمكننا تعلم التفلسف فقط، وتتمثل اللحظة الثانية، في أننا لا يمكننا سوى تعلم التفلسف، سوى التعلم، لأن الفلسفة ذاتها في متناولنا، ونحن نحاول الاقتراب منها، لكن ليس باستطاعتنا تملكها.

وهكذا يمكننا أن نستنتج بأن ماهية الفلسفة تنفي كل إمكانية لتدريسها، أما ماهية التفلسف فتستوجب ذلك. فما يوجد هو فعل التفلسف وفكرة الفلسفة، وهناك أيضًا ذوات يمكنها تعلم التفلسف وتعليمه للآخرين، هناك أساتذة وتلاميذ ومؤسسات، لكن ليس هناك فلاسفة ولا فلسفة رغم وجودهم حضوريًا. وهنا تواجهنا مجموعة من الأسئلة وهي: كيف نقر بأن الفلسفة غير قابلة للتعلم من منطلق، أنه لا توجد فلسفة نسقية صالحة للجميع، ونؤكد من جانب آخر على أن بإمكانها أن تتواجد داخل فضاء المؤسسة كتفلسف وأنه من الممكن بالتعالي تعلمها؟

إن كانط سيقدم لنا أجوبة عن هذه الأسئلة، متفرقة عبر مؤلفاته المتضمنة لبيداغوجيته الفلسفية، مثل “نقد العقل الخالص” و”المنطق” و”صراع الكليات”. وتتلخص هذه الأجوبة في كون الفلسفة هي أساسًا تأمل نقدي في هويتها ذاتها واختزال هذه الهوية ضمن مادة مدرسية وجامعية، هو نفي لطابعها التأملي ولخاصيتها النقدية. لكن تدريس الفلسفة – كتفلسف – يستوجب حضور المؤسسة، بل هو ضروري للمؤسسة المدرسية ذاتها.

طبعًا لا يمكن تدريس الفلسفة كنسق متكامل دون السقوط في الدوغماتية، والقضاء بالتالي على خاصية التفلسف المتمثلة في التأمل النقدي الحر. ولذا سيركز كانط على ضرورة تعلم “الحرية العقلية” التي تمهد للتفكير في ما هو كوني وشمولي.

تدريس ما لا يمكن تدريسه:

إن حسب مقولة كانط المشهورة: “لا يمكن أن نتعلم الفلسفة، بل يمكننا فقط تعلم التفلسف”، وهي المقولة التي تطرح في إطارها إشكالية العلاقة بين الفلسفة وإمكانية تدريسها. لقد استخلص دريدا، من خلال قراءته للمقولة الكانطية هذه، مجموعة من الملاحظات نوردها بإيجاز:

يتعلق الأمر، حسب دريدا، بوضعية متميزة تسم الفلسفة، وهو أنه من الممكن تدريسها دون تعلمها. فإذن هذا التدريس هو لا تدريس؛ إنه تدريس لما لا يمكن تدريسه. هكذا فإن أستاذ العقل الخالص يدرس مادة الفلسفة بدون أن يعلمها. فهو لا يعلم مضامين أو أنساقًا فلسفية، بل يعلم فقط كيفية التفلسف، أي طريقة التأمل النقدي الحر في القضايا المطروحة للنقاش.

وهذا التمييز بين تدريس طريقة التفكير الفلسفي من جهة، ومضمون الفلسفة من جهة أخرى، هو الذي يثير إشكالية حضور هذه الأخيرة بالمؤسسة المدرسية، بل وإشكالية حضور المدرس نفسه، الذي يعتبر “مشرّعًا للعقل”. فأستاذ الحقيقة هذا لا يوجد في الحقيقة؛ لا وجود له هاهنا بالمعنى الذي يحدده هايدغر للوجود هنا كدازين Dasein، ولا مكان محدد له ولمادته.

إذن بناءً على ما سبق، يمكن القول إن المواقف حول تدريس الفلسفة قد انقسمت إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول: يعتبر بأن الفلسفة تمتلك بيداغوجياتها الخاصة، وهي ليست في حاجة إلى ديداكتيك. وليس من الضروري أن يخضع تدريسها لوصفة هذه الأخيرة، بل يجب أن تحافظ على مسافة نقدية تجاهها.

الاتجاه الثاني: يعتبر بأن التدخل البيداغوجي والديداكتيكي ضروري، من أجل تنظيم ونقل المعرفة وتوجيه تفكير المتعلم نحو أهداف محددة. إذ إن الفلسفة لا يمكنها أن تظل بمنأى عن التطورات التي عرفتها نظريات التربية والتعلم، فضرورة التجديد تفرض نفسها لكي يظل تدريس الفلسفة ممكنًا وفعالًا. وهذا ما سنقف عنده خلال المعطيات الآتية.

طرق تدريس الدرس الفلسفي ومسارها التاريخي
لم تُثر الفلسفة منذ نصف قرن من الزمان، مثلما تثير من اهتمام اليوم، حيث نجد أطباء وحقوقيين، مثلًا، يلتفتون لها لمحاولة توضيح المسائل المتعلقة بالأدبيات، والأخلاقيات السياسية التي طرحتها “الهندسة الوراثية”، والفيزيائيون – الفلكيون والكيميائيون – البيولوجيون بإعادة اكتشافهم لمشكلات تهم (أصل الكون، أصل الحياة). هؤلاء يدركون أصلها ومعناها، وما يؤكد ذلك حين يفتح أخصائيو “علوم الأعصاب” والذكاء الاصطناعي، كما يقال، منظور “علم الفكر” جديد، فإنهم يعرفون بأنهم ورثة طموح قديم جدًا.

وهكذا تظهر صفة الفيلسوف إلى هذا الحد جديرة بالاحترام حتى أن كثيرًا من الكتاب والصحافيين يعتقدون أن عليهم، بالمناسبة، أن يتصفوا بها لتقديم أفكارهم عن العالم إلى وسائل الإعلام. وبشكل مفارق، إن أولئك الذين تتعلق مهنتهم بتدريس الفلسفة يبدون، في معظمهم، وفي ذات الوقت، عرضة لقلق عميق. فكل مشروع للإصلاح يثير من جانبهم موجة شك عارمة يمكنها أن تتحول إلى الهلع والرفض العنيف، لأن قناعتهم تعبر عن نفسها في أنهم إن لم يكونوا قد حكم عليهم بالفناء سلفًا، فعلى الأقل أنهم لم يعودوا يستفيدون من الاعتبار الذي يظهر لهم أنه لازم لهم. ألا يجب أن نبحث عن الدوافع الحقيقية والواقعية لهذا القلق في المفارقة التي نشير إليها من خلال هذا البحث المتواضع؟

إن تدريس الفلسفة قد وجد نفسه، على سبيل المثال بفرنسا، ضحية الفصل الحاد والمشؤوم الذي تم فرضه تدريجيًا منذ الثانوي بين الدراسات العلمية والدراسات الأدبية. والفلسفة تتعين فيه كتخصص أدبي، متصورة إذن وممارسة على هذا النحو، ولو ببراعة، فإنها تنكشف عاجزة عن الاستجابة للطلبات التي توجه إليها، مجازفة بخداع الكثير من التلاميذ. والحال أن هذه الطلبات إنما توجه إليها بكيفية مشروعة وبمقتضى الفكرة التي تم تكوينها عنها منذ ألفي سنة بكونها نمطًا أصيلًا من التفكير يربط معًا مسائل تتعلق بالمعرفة (العلوم والتقنيات في المقام الأول) والمدينة (السياسة والقانون) ضمن منظور شمولي يسمح بمقاربات المشكلات الدينية ومشكلات واقع الفن من زاوية التفكير النقدي.

إن مستقبل الفلسفة يتعلق بـ(المعرفة)، فكثير من الباحثين، ومن بين الأكثر أهمية وشهرة، يشعرون بضرورة إعادة التأكيد على الحرية الأساسية للبحث النظري الأساسي ضدا على التوجه الراهن الذي يود أن يخضع تطوره لغايات تكنولوجية صرفة. إنهم يدعون إلى إعادة اكتشاف الحجاج الفلسفي في المكان الذي لم ينقطع فيه أبدًا، في الواقع الذي نعيشه في الحاضر، والذي يتطلب اعتماد بيداغوجيا وأساليب وطرق فعالة في تدريس التلاميذ الفلسفة.

وهذا بالفعل ينبغي فيه الرفع من جودة البرامج التعليمية لمادة الفلسفة. وهذا يستوجب تدريس العلوم إلى جانب الشق الأدبي الخاص بمادة الفلسفة من أجل تمكين التلاميذ من اكتساب تفكير علمي وتاريخه بشكل نسقي، والابتعاد عن التعلم الرتيب، الملقن مذهبياً لممارسة المعادلات والصيغ، والدراسات القانونية والاقتصادية مثل الدراسات الطبية والتكنولوجية، ومجموع العلوم الاجتماعية والإنسانية، بإعادة مساءلة أفكارها، قد تجني منها الفائدة الفكرية والعملية لما كان جورج كانغيلهم يسميه بـ”هيأة معينة للحرية”.

بل والأكثر من ذلك يجب إعادة النظر في تكوين الأساتذة وثقافتهم، وتمكينهم من اكتساب المعرفة الدقيقة للنصوص الفلسفية الكبرى والأساسية، والتحكم في الحجاج بكل أشكاله، وانفتاح دراساتهم على الدراسات الخارجية، والعودة إلى فكر الفلاسفة الكبار، والابتعاد عن كل أشكال التفكير التأملي وعدم خلق الدوغماتية والسلطوية على المعارف.

ثم من أساليب الرفع من فعالية الدرس الفلسفي، يجب على أساتذة الفلسفة التحرر من الشك الذي لا يعترفون به لأنفسهم في عمق قلقهم الحاضر. وهم أحرار، بعد ذلك، في أن يعيدوا على قواعد جديدة متمثلة في تحسين أساليب ومناهج وطرق تدريس الدرس الفلسفي كما سنوضح ذلك.

بالنسبة للمتعلم ودور الأستاذ:
ـ إشراك المتعلم:
إن هذا الأسلوب الديداكتيكي يقوم على المشاركة، وليس على الملاحظة المتحجرة، على البحث والتحليل، وليس على الوصف والمعاينة، أي مشاركة المتعلم في بناء المعارف، فيتحفز على أخذ الكلمة أكثر مما يَسْمَع، وعلى طرح الأسئلة أكثر مما يستقبل من معلومات، وعلى تقصي الإجابات الممكنة أكثر من البحث عن الإجابة الصحيحة، وعلى بناء السبل أكثر من تطبيق الوصفات. إن الأمثـل هو أن يتحرك المتعلمون في القسم، أكثر من الأسـاتذة، وأنهم في نهاية اليوم، يكونون أكثر.

دور الأستاذ:
إن الأستاذ يجب أن يتقدم كمجرد وسيط بين المتعلم والمعرفة، أو كمجرد دليل، فيحثه على البحث، والاختبار، والتفكير، ويحُثّه في أثناء المنـاقشات على التعبير والحجــاج. إنه صالح لأن يكــون وسيطًا ينشئ الروابــط، ومتجولًا يحسن التنقل من منطق إلى آخر. وهو يحدد، تحديدًا جد واضح، حقل الحرية الممنوحة.

أـ ففي المقاربة التقليدية، فإن الأستاذ كان هو الشخص الذي يعرف ويعطي ويصحح. أما الآن، فينبغي أن يكون هو مَن يوجه المتعلم إلى اكتساب كفاءات.

ب – ثم إن الحوار الفلسفي يفترض مسبقًا انتقال الفكر البسيط إلى الفكر النقدي والحجاج الجدلي، وهو حجاج يفترض ترتيبات، ومهارات فكرية معقدة.
إن دوره هو أنه يخلق التموقع، فيصغي، ويستفز، ويوجه، ويحفز.

إمكانات التوليد السقراطي:
ينطوي هذا الأسلوب التعلمي في المجال البيداغوجي، على مغزى من حيث إنه يسمح للعلاقة بين التعليم والتعلم ـ وهي علاقة معروفة تقليديًا بالخطية ـ بأن تصبح دائرية، ومن ثمة، تمنح “القدرة” للمتعلمين، وتساعدهم على اكتساب الوعي بمسؤولية أكبر أمام تعلماتهم. فعندما ينتظر الأستاذ من المتعلمين إجابات متجانسة بل جاهزة، مأخوذة من كتاب مدرسي أو من فكرة سبق الأخذ بها في عالم الراشدين، فإن المتعلمـين يخسرون جزءًا من التحفز الذاتي. إلا أنه عندما يكون إبـداعهم، وحكمهم، وتجاربهم الحياتية أعمالًا محترمة، لا بل مطلوبة أيضًا، فإنهم يحوزون على الفائدة ويطمحون إلى تجاوز ذواتهم. وعندئـذ، تنتعش قـدراتهم الفكـرية والحوارية التي يملكونها، وتتجدد.

أ ـ إن تعلم التفكير الفلسفي في إطار الطريقة الحوارية، يقتضي أيضًا، العمل الجماعي، وهو سلوك تدعو إليه بيداغوجيا المشروع؛ لأن المشروع يساعد بذلك، على إدماج المهمات، والمواد التعليمية: فمنهجية المشروع تستنجد باستحضار المعارف السابقة، وبالتساؤل عن «ماذا يجب أن أعرف؟». فهناك عدد من المتعلمين لا يحفظون، لأنهم يجهلون كيف يتصرفون. فالأسئلة: “كيف سلكتُ للوصول إلى ما صنعت؟” و”ماذا أخذتُ من كل هذا؟” أو “هل إنني قادر على أن أصنع هذا بطريقة أخرى؟” هي أسئلة تدفـع المتعلمين، شيئًا فشيئًا، إلى حـمل نظرة نقدية إلى أساليب صنعهم واكتساب استراتيجيات مفيدة للتعلم.

إن المتعلم يتجه طبيعيا، إلى العمل لإنجاز المشروع الذي يحمله في رأسه. إنه يوازن بين آرائه، وآراء غيره، وينمي هويته في العمل الجماعي، ويقوِّم عمله طوال المشروع، فيحدد أين الصواب، وأين الصعوبات، ولماذا، حتى يرى كيف يتقـدم، وماذا يجب عليه أن يصحح، وكيف يطرح الأسئلــة التي تسمح لأصدقــائه ولأستاذه، بأن يساعدوه على التفكير، والوقوف على الحلول؟

ب ـ إن المشروع يساعد على إعطاء التعلم مدلوله. ويقرن الكثيرون بيداغــوجِيَا الاكتشافِ، بالرضا العــــــام والروح الجـماعية المؤسسة على التحــاور والتشاور. أما المتعلـم المتروك لأمــره، فإنه لا يتعلم بيسر، ولا بمنهجية ونجاعة، ولا يكتسب الكفاءات الموادية، ولا المقررة في مشروع الفريق.
فلا بد من الوصول إلى تحسيس المتعلمين بأنهم يشكلون قسما، وأن لكل واحد مساهمة يقدمها.

ج ـ ومن جهة المتعلمين، وبقصد محاربة فشلهم وصعوباتهم المدرسية، يتعين الاهتمام بطرائقهم في التعلم، وهذا، لفهم أين وصلوا، وما هي الأشياء التي تعرقلهم. وبهذه الإرادة، ولفائدة المعلمين، يتم الحث على العمل بالكفاءات، لأن ذلك يحملهم على انشغالهم بمشاريع المتعلمين، في وضعية التعلم.

د ـ وهذا النوع من التعــلم يساعد، من جملة ما يســـاعد، على الفكر النقــدي، وحل المشكلات، والعمل مع الفريق، والتكفل الجماعي. وهذا النوع من النشاطات بإمكانه أن ينمي لدى المتعلمين قيما وسلوكات تساهم في إرساء المجتمع الديمقراطي.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.