17 مايو 2025 / 14:12

الإصلاح بين منطق البناء ومنطق الاجتثاث

شكير بوشعيب
من سلسلة “حفريات في المرفق العمومي”
في صمت البيروقراطيات الكبرى، لا يُسمع هدير المعارك، لكن آثارها تترك علامات لا تخطئها العين. داخل المؤسسات العمومية، تنمو التحولات أحيانًا في الهامش، وتُقابل بممانعة في المتن. وما يجري داخل مؤسسة حيوية كالمركز الاستشفائي الجامعي ابن سينا بالرباط ليس إلا مرآة لما يحدث حين تتقاطع مسارات الإصلاح مع شبكات المصالح الصلبة.

الحديث عن “تحالفات غير معلنة” ليس ترفًا لغويًا، بل تشخيص دقيق لطبيعة السلطة حين تتوزع بين الرسمي والمضمر، بين القانوني والمصلحي، بين ما يُقال في المحاضر وما يُدار في الكواليس. في هذا السياق، يصبح الإصلاح ليس مجرد مشروع إداري، بل تحديًا وجوديًا لمن اعتادوا ممارسة النفوذ من دون مساءلة.

يتشكل صراع غير متكافئ بين من يؤمن بأن الإصلاح يبدأ من الذات والقيم، ومن يتقن التمويه بخطاب شفاف يخفي سلوكًا انتهازيًا. فجهة ترى أن الإصلاح يبدأ من إعادة بناء الثقة، من المصالحة مع المبادئ، ومن استعادة كرامة المرفق العمومي، في حين تختبئ جهة أخرى خلف خطابات مشروخة، تحاكي الشفافية بينما تتواطأ في اغتيال المعنى.

ولا بد من التذكير بأن الصراع ظاهرة اجتماعية تحدث نتيجة لاختلاف في الآراء أو المصالح بين طرفين أو أكثر. وهناك العديد من الطرق التي يمكن من خلالها ممارسة هذا الصراع: بعضها بنّاء، يهدف إلى حل المشكلات وتحقيق التوازن، وبعضها الآخر هدّام، لا يزيد إلا من التوتر ويُقوّض فرص الإصلاح. وما يجري اليوم داخل المركز الاستشفائي الجامعي ابن سينا يُجسّد هذا النوع من الصراع المركب: حيث تُواجه محاولات الإصلاح بخطابات مزدوجة، وحيث تتداخل الحسابات النقابية بالمصالح الإدارية، ليُفرغ الإصلاح من مضمونه، ويتحول إلى صراع نفوذ لا علاقة له بجوهر الخدمة الصحية العمومية.

والمقلق أن بعض من انخرطوا في العمل النقابي، بدل أن يكونوا صوتًا للعدالة التنظيمية، صاروا جزءًا من شبكة تصنع التوازن على مقاس الريع.

لسنا في حاجة إلى أسماء، لأن ما يهمنا ليس الأفراد، بل أنماط اشتغال السلطة المضادة حين تتغلغل داخل الجهاز الإداري والنقابي معًا. وما نعيشه اليوم ليس خلافًا في البرامج أو الرؤى، بل محاولة صامتة لاجتثاث كل إرادة حرة، ولضرب كل نفس إصلاحي يرى في المؤسسة مشروعًا جماعيًا لا امتيازًا خاصًا.

ومن هنا، نرفع صوتنا لا بالصراخ، بل بلغة الإشارة التي يفهمها من يمارس السلطة أو يتواطأ معها:

لسنا ضد أحد، لكننا ضد أن تُختزل الإدارة في يد، وضد أن يُقصى الإصلاح بذريعة الإجماع المصنوع. نحن مع شراكة تُبنى على القيم، لا على توزيع المواقع.

الإصلاح لا يكون بحملات تطهير انتقائية، ولا بإعادة إنتاج منطق “من ليس معنا فهو ضدنا”. الإصلاح الحقيقي يتأسس على الاعتراف بالتعدد، وعلى تحييد منطق الولاء الأعمى، وعلى الإيمان بأن المؤسسات لا تُدار بالعقاب، بل بالحكمة والوضوح والعدالة.

نقولها بهدوء لا ضعف فيه: نرفض منطق الاجتثاث. نرفض العبث بثقة العاملين. ونرفض أن يتحول المرفق الصحي إلى ساحة لتصفية الحسابات.

الرهان اليوم هو على الوعي. وعلينا أن نُبقي جذوة الإصلاح متقدة، لا بالصدام، بل بالاتساق مع ذواتنا، والقدرة على كشف الزيف دون أن ننزلق إلى لغته. فالإصلاح لا يُنجز بالشعارات، بل يُراكم بوعي جماعي، وبحس نقدي لا يُساوم على الحقيقة.