محمد أبو سارة
يثير هذا الكتاب العديد من الأسئلة، خاصة أن مؤلفه مستشرق غير مُلّم بالعربية ونحوها وصرفها وبلاغتها، كالعربي الاصلي، الذي تلقى تعليمه في عدة علوم من بلاغة وصرف ونحو، وأدب، وعلوم أخرى من حديث إلى أصول الفقه وغيرها. لكن لغته رصينة تجعله لا يشبه المستشرق بتاتاً. ولكن المستشرقين حاولوا وأبدعوا في الحديث عن أمور في القران تخفى علينا.
وقد عاينتها في كتبهم، فبدل أن يتصدى العلماء المسلمين في تفسير كتاب الله وفق مراده، والرد على كل شُبهة، تثاقلت همهم، وارتفعت هِمم المستشرقين.
فجاء هذا الكتاب القيّم “الإسلام وماضيه، الجاهلية، والعصور القديمة المتأخرة، والقرآن”، تحرير: كارول باخوي ومايكل كوك. وقد تُرجم ترجمة تليق بالقائمة العربي، وتعرف الثغرات التي يجب سبر غورها، وسدها، وقد أحسنت دار الروافد في ذلك، وذلك بانتقائها العناوين التي تخدم العقل والنهاية العربية، والتي تميز بين الغث والسمين، لا كغيرها، صارت ربحية بامتياز.
بالنسبة لمحرري الكتاب، فهم: كارول باخوس، أستاذة الدراسات الدينية واليهودية في جامعة UCLA ومايكل كوك، مؤرخ شهير للإسلام المبكر في جامعة برينستون. أما الناشر فهو دار نشر جامعة أكسفورد.
يستكشف الكتاب الفترة التأسيسية للإسلام من خلال عدسة العصور القديمة المتأخرة مع التركيز على:
ــ الجاهلية: كيف يُصور العصر الجاهلي في المصادر الإسلامية، وهل يمكن فهمه خارج الإطار الإسلامي التقليدي.
ــ القرآن وبيئته: العلاقة بين النص القرآني والثقافات الدينية السائدة في الشرق الأدنى القديم (مثل اليهودية، المسيحية، الوثنية).
ــ المقارنة مع الأديان الأخرى: كيف تتفاعل الدراسات القرآنية مع دراسات العصور القديمة المتأخرة.
تكمن أهمية الكتاب في مناقشته، “إشكالية الجاهلية” كمفهوم بناه الإسلام المبكر؛ لتمييز نفسه عن الماضي.
كما يقدم مقاربات نقدية لتاريخ الإسلام المبكر، مستفيدا من “المنهجية التاريخية المقارنة”.
طبعاً، يشارك فيه باحثون مرموقون، مثل: باتريشا كرون، لها اظن فصل قبل وفاتها (العرب الوثنيون بوصفهم خائفين من الله)، وديفين ستيوارت، نيكولاي سيناي، جوزيف ويتزتوم، أنجيليكا نويفرت، جيرالد هوتنغ، مايكل كوك، إيوانا غايدا.
في مقدمتها لباتريشيا كرون في كتابنا، “الإسلام وماضيه، الجاهلية والعصور القديمة المتأخرة، والقران. نقرأ في المقدمة كيف تغيرت أفكارها حول المنهج التاريخي في دراسة الإسلام المبكر.
تعتبر هذه المقدمة “شهادة ذاتية مهمة” تشرح فيها تطور منهجها البحثي، خاصة، بعد الانتقادات التي واجهتها بسبب أفكارها الجذرية في كتابها مع مايكل كوك، “الهاجريون” والتي شاركت مايمل كوك في تأليفه سنة 1977. من أبرز النقاط التي ذكرتها كرون في الفصل:
ــ انتقالها من النقد الجذري إلى النهج التكاملي: تعترف بأنها في بداياتها، خاصة في كتابها الهاجرية) أنها اعتمدت على مصادر غير إسلامية، بيزنطية، سريانية، أرمنية، بشكل كبير، بينما شككت في الرواية الإسلامية التقليدية، لكنها لاحقًا أدركت أن إهمال المصادر الإسلامية تماما خطأ)، وأن المنهج الصحيح هو الجمع بين المصادر الداخلية والخارجية مع التحليل النقدي.
ــ تأثير العصور القديمة المتأخرة على دراستها، وتؤكد أن فهم الإسلام المبكر يجب أن يكون في سياقه كجزء من العالم المتأثر باليهودية، المسيحية، والحركات الدينية الأخرى في الشرق الأدنى.
ــ تقارن بين تطور الإسلام وتطور المسيحية المبكرة، مشيرة إلى أن “القرآن ليس نصا منعزلا”، بل نتاج تفاعل مع البيئة الدينية المحيطة.
ــ مراجعة موقفها من “الجاهلية”، ففي السابق، رأت كرون أن مفهوم “الجاهلية” اختراع إسلامي لاحق لخلق قطيعة مع الماضي، لكنها في هذا الفصل تعترف بأن هناك أصالة في الرواية الإسلامية عن الجاهلية، رغم أن الصورة قد تكون مبالغًا فيها أو مُعاد تشكيلها لأغراض لاهوتية.
ــ نقد الذات والاعتراف بحدود المنهج: تقول إن بعض استنتاجاتها المبكرة كانت متطرفة بسبب رد الفعل على المنهج التقليدي، لكنها الآن تتبنى موقفًا أكثر توازنًا. وتشدد على أن “الدراسات القرآنية تحتاج إلى منهج متعدد التخصصات”، (تاريخ، لغويات، علم الآثار، دراسات دينية مقارنة). أهمية المقدمة والفصل الذي يليها.
إننا إزاء اعتراف نادر من كرون بتطور منهجها، مما يجعله مرجعا لفهم تحولات “المدرسة النقدية في الدراسات الإسلامية”، ويُظهر أن حتى أكثر الباحثين راديكالية يمكن أن يعدلوا آراءهم بناء على الأدلة الجديدة والنقاش الأكاديمي.
أما الفصل الأول في الكتاب لديفين ستيوارت بعنوان : تأملات في واقع الدراسات القرآنية الغربية.
في الفصل الأول من كتاب “الإسلام وماضيه: الجاهلية والعصور القديمة المتأخرة والقرآن”، يتناول ديفين ستيوارت (Devin Stewart) تأملات نقدية حول “الدراسات القرآنية الغربية”، مُسلطا الضوء على المناهج والتوجهات السائدة في هذا الحقل الأكاديمي، مع تحليل لإشكالياتها وحدودها.
أبرز محاور الفصل:
1 ــ النقد التاريخي والمنهجي:
– يناقش ستيوارت الانتقادات الموجهة إلى المناهج الغربية في دراسة القرآن، خاصة تلك التي تعتمد على “النقد التاريخي” المُستمد من الدراسات الكتابية، مثل نقد المصادر أو التحليل الطبقي للنص. كما يُشير إلى أن بعض هذه المناهج قد تُهمل السياق الثقافي والديني الخاص بالإسلام، أو تفرض عليه أطرًا مستوردة من المسيحية أو اليهودية.
2 ــ مقارنة مع الدراسات الإسلامية التقليدية:
يُقارن بين المناهج الغربية الحديثة والمناهج الكلاسيكية لعلماء المسلمين (مثل التفسير، علوم القرآن)، موضحًا أن الأخيرة تُعطي أولوية لفهم النص ضمن سياقه اللغوي والذي يعتمد على الوحي، بينما تميل الدراسات الغربية إلى التركيز على “التفكيك التاريخي”.
3 ــ إشكالية “التأثيرات الخارجية”:
ــ يتناول الجدل حول فكرة “التأثيرات اليهودية-المسيحية” على القرآن، مشيرًا إلى أن بعض الدراسات الغربية تُبالغ في تفسير النص القرآني عبر هذه العدسة، بينما يُقلل آخرون من شأن الاستقلالية النصية للقرآن.
ــ ينتقد ستيوارت افتراضات بعض المستشرقين الذين يرون القرآن مجرد “انعكاس” للنصوص السابقة، دون اعتبار لخصوصيته كخطاب ديني جديد.
4 ــ الجاهلية والعصور القديمة المتأخرة:
يربط الفصل بين دراسة القرآن وفهم “ثقافة الجاهلية” والعالم القديم المتأخر، مؤكدًا أن القرآن جزء من حوار أوسع مع الأديان والتقاليد الفكرية في الشرق الأدنى، لكنه يحذر من اختزال القرآن إلى منتج “تاريخي صرف”، مُهملًا بُعده الديني والمعنوي للمسلمين.
5 ــ توجهات جديدة في الدراسات القرآنية:
– يشير إلى ظهور مناهج أكثر توازنًا في العقود الأخيرة، تحاول الجمع بين “التحليل التاريخي” و”الفهم اللاهوتي”، مع احترام السياق الإسلامي الداخلي.
يُقدم ستيوارت في هذا الفصل رؤية نقدية تُحاول تجاوز الثنائيات التقليدية، مثل ثنائية “تراثي ضد غربي”، داعيًا إلى حوار منهجي أكثر تكاملًا بين المنظورين. وهو يعكس تحولًا في الدراسات القرآنية الغربية نحو “التعددية المنهجية” والاعتراف بتعقيد النص القرآني وتعدديته.