محمد زاوي
في تعريف الأسرة
الأسرة نواة أو بنية اجتماعية بلغها الإنسان بجهد تاريخي كبير، وبعد زمن من فوضى الأنسال وتدبير المعاش. بتشكيلها وتنظيمها انتقل الإنسان من واقع إلى آخر، داخلها تطور إنتاجاه المادي والمعنوي، لما لها من أدوار تنظيمية وتعبوية، ولما لها من قدرة على تحرير وتجميع وتنظيم الطاقات الإبداعية والعملية لمكوناتها.
إنها بهذا المعنى “بنية إنتاجية” بالمفهوم الشامل للإنتاج، بها الغنى والكفاف وتنمية القدرات. “إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم” (النور:32)/ “ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف” (حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إخراج النسائي والترمذي وتحسين الألباني).
أما مكوناتها فهي في الإسلام تتعدد أو ينحسر عددها حسب الحال، فلم يضع الإسلام عليها قيودا صارمة غير قابلة للتغير التاريخي. يعول فيها الزوج بيته بمن فيه وبمن اضطر إليه (“إن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه”/ رواه وهب بن عبد الله السوائي وأخرجه البخاري، “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”/ رواية عائشة رضي الله عنها في صحيح الترمذي)، ليس اختيارا وإنما وجوبا شرعيا تفرضه الضرورة الأصلية التي لا تقوم الأسرة إلا بها (أي: الزوج والزوجة والأبناء)، كما تفرضه الضرورة الطارئة التي لا تُحفظ “قداسة” وهيبة الأسرة إلا بها (الأصول والقرابة).
(الوالدان: “وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا”، سورة الإسراء، الآيتان 23 و24/ القرابة من الأعمام والأخوال والإخوة والأخوات الخ: تختلف فيه المذاهب وله شروط ومراتب نص عليها الحديث “ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء لذوي قرابتك فإن فضل شيء عن ذي قرابتك فهكذا وهكذا”، رواية جابر بن عبد الله في صحيح النسائي).
وعندما نقول إن الأسرة دولة مصغرة، أو هي النواة الأولى والجنينية للدولة، فإننا نتحدث من منطلقات في هذا الباب: من منطلق وضعاني يحدد وظيفة الأسرة في بنية المجتمع الذي هو أساس الدولة، ومن منطلق تاريخي يرصد سابقة الأسرة في التاريخ إذا ما قورنت بالدولة.
وهذا المعطى الأخير أكده القرآن نفسه “وخلق منها زوجها” (سورة النساء، الآية 1)، وهذه واقعة سابقة على قول الله تعالى “وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات” (سورة الإسراء، الآية 70)، وهذه بدورها سابقة على قوله “وورث سليمان داود” (سورة النمل، الآية 16).
أما الدولة فلا تخفى أهميتها في التنظيم والضبط وتوفير الظروف الملائمة بتدبير الإنتاج وتطويرها، مهما خضعت في بنائها وتوزيع مصالحها للتفاوت الاجتماعي. فقد عرفت في ذلك ما عرفته الأسرة في زمنها “الأبوي المِلكي”، وهو حال دون حال، دونيته لا تلغي ضرورته في شرط من الزمن.
وهو نفس الشرط الذي تحتل فيه الأسرة الأبوية مكانتها التاريخية حفظا للخصوصيات والأنسال (“للدين والرحم” بتعبير فريد الانصاري في “الفطرية: بعثة التجديد المقبلة”).
وإن الأسرة مؤسسة اجتماعية لمقاومة الاستعمار والاستلاب، تأبى أن تصبح شركة في زمن الرأسمال. وإن الذكورية والبطريركية كانت وما زالت أرحم بالنساء من زمن الرأسمال الذي حول الأسرة النووية إلى شركة، كما حول المرأة وأطفالها إلى سلعة لجني أرباح الإعلام والإشهار والسينما، فيما حول الرجل (الزوج) إلى عامل ينتج فائض القيمة تحت سياط محتكري وسائل الإنتاج.
وإن المجتمعات الإسلامية، ومنها المغرب؛ رغم التحويل القسري والهجين والناقص الذي أوقعه الاستعمار بنظمها الاقتصادية، إلا أنها ما زالت تأبى التطويع بفعل مؤسساتها الاجتماعية وأعرافها وتقاليدها وقيمها الدينية وأحكامها الفقهية، وما زالت ترجو حداثة وفق خصوصيتها.
في هذا الإطار تدخل الأسرة، وتصبح مصطلحات من قبيل “الطلاق” و”المتعة” و”الصلح” و”النفقة” و”الولاية” -بما لها من حمولة اجتماعية وحضارية وإنسانية-مفاهيمَ للمقاومة والصمود في وجه “تحويل الإنسان إلى عبد للرأسمال”.
ف”التعاقد” ليس من الحداثة البريئة، إنه محمّل بثقافة دخيلة، نافعة في مجالات بعينها، ضارة إذا تعلق الأمر بمناح من حياة الإنسان. إنها في مجالات من قبيل الأسرة تكرّس “اغترابه” تحت قناع “التحديث”.
في الفطرة
بهذا يحفظ الإسلام الأسرة فروعا وأصولا وقرابات، ثم الأقرب فالأقرب منها، حسب الاستطاعة وحسب حال الأصناف المذكورة. وذلك بعد أن يحفظها في جوهرها الإنساني، وهو المبدأ الذي تقوم عليه العلاقة بين الزوجين، أي مبدأ الزوجية الذي جعله الله أصلا أصيلا في الطبيعة والنفس والمجتمع. فمنه كان الزواج لفظا ومعنى، وبه تتحقق التنمية في شتى مناحي الحياة.
أما محاولات التوليف الأخرى بين جنسين من نفس النوع، فلا هي تحفظ الطبيعة (“فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله”)، ولا هي تنمي السكان والإنتاج بل تضر به (“إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط”/ الترمذي).
ولما كان الشذوذ الجنسي انحارفا عن الطبيعة انحرافا بينا وواضحا، فقد كان فيه العقاب الدنيوي والجزاء القانوني والعاقبة في الآخرة. وعندما نتحدث عن الانحراف، بمعنى الانحراف عن الطبيعة (“الفطرة”)، فإننا نكون بصدد واقع لا طبيعي، مستحضرين كافة أنواع التأخر التي تعرفها الطبيعة في علاقتها بالتاريخ (ونحن نعرف تقسيمات بعض المتكلمين: غير الحي، الحي غير العاقل، الحي العاقل).
إن الشذوذ مبعث للإدانة لا في الحياة العاقلة فحسب، بل في سابقتها غير العاقلة أيضا؛ بلغة معاصرة: إنه مدان في الطبيعة قبل أن يكون مدانا في التاريخ. فجاء فيه ما جاء من العقاب الدنيوي (“فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود”/ سورة هود، الآية 82)، ومن الجزاء القانوني (حد اللواط بشروطه المتعلقة بالفعل والفاعل)، ومن العاقبة في الآخرة (“أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون”/ سورة الشعراء، الآيتان 165 و166).
أما “الفطرة” فهي الطبيعة كما خلقها الله وأودعها في كل مخلوقاته من أدق عنصر كمومي إلى أكبر نظام كوسمولوجي؛ فهي ذلك النسق الجوهري الرابط بين كل العناصر والمخلوقات.
وإن الشذوذ الجنسي، لواطا كان أو سحاقا أو إتيانا للحيوان والأشياء، لَيُعد استهدافا للفطرة بشكل مباشر، وهو غير استهدافها باستهداف الحائل بينها وبين فساد الخلق، أي المنهج.
الشذوذ تهديد مباشر للفطرة، كما أن الانحراف عن المنهج تهديد غير مباشر لها (سنشرح هذا التهديد الثاني أسفله). ولا أدل على هذا الخطر دليلين:
*دليل في النص: بتعدد مواضع قصة النبي لوط عليه السلام مع قومه السدوميين، الذين كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء. وهي في القرآن عشرة مواضع عموما، في “الأعراف” و”هود” و”الحجر” و”الأنبياء” و”الشعراء” و”النمل” و”العنكبوت” و”الصافات” و”القمر” و”التحريم”.
إن القرآن بهذا الذكر الخالد المتعدد، بتنوع بلاغته وسياقه وأسلوب عرضه والترهيب بعقابه وصيغ تحريمه، ليؤكد على خطورة الظاهرة، وهو ما لم يحدث مع الزنا التي هي خروج عن المنهج (الزواج الشرعي). هذا البعد العقدي الإيديولوجي في الإسلام يمنح المسلمين مفتاحا للمساهمة الحضارية في إنقاذ الإنسان من فوضى جنسية تراد له رأسماليا وإمبرياليا.
*دليل في المآل: بالشذوذ إذا انتشر وساد تهلك البشرية، تتراجع ديمغرافيا واقتصاديا واجتماعيا، فضلا عن تراجعها الأخلاقي والقيمي والحضاري. إن العقاب الدنيوي لقوم لوط لا يخلو من دلالة، فإذا فسدت الفطرة وجب الفناء. وكأن القوم حضارة، وكان القلب (جعل عاليها سافلها) والإهلاك إعادة إنتاج لشروط البقاء بعد أن استعصى حفظ البقاء القائم.
لقد أطلع القرآن المسلمين على مآلٍ ما هم بشاهديه، وقليل من يعتبر! يلقي القرآن الأمانة على عاتقهم، فاستراتيجية الإسلام تحفظ الفطرة وتدفع عنها المفاسد، حفظا مباشرا بحفظ البقاء، أو حفظا غير مباشر بحفظ منهج العيش.
(يتبع)