8 مارس 2025 / 10:50

الأربعين… سن احتكام الخلق والخلق

جمعها: د. يوسف الحزيمري

تحدث القرآن الكريم عن مراحل خلق الإنسان جنينًا، ومراحل نموه بعد خروجه إلى الحياة الدنيا، فقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ‌ثُمَّ ‌لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً}[سورة الحج، الآية 5]، فجعل تعالى أقسام النمو بعد الولادة ثلاثة: الطفولة، والأشد، وأرذل العمر، وتبدأ مراحل عمر الإنسان، وفقًا لتصنيف “القرآن”، بمرحلة الطفل ثم الصبا، يليها الفتوة ثم القوة، ومن بعد ذلك الكهولة ثم الشيخوخة وأخيرًا أرذل العمر، وقد دلل القرآن الكريم على كل مرحلة من تلك المراحل بآية قرآنية.

وقسم ابن الجوزي في كتابه “تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر” مراحل النمو الإنساني إلى ست مراحل هي:

المرحلة الأولى: تبدأ من حدوث الحمل وتنتهي بالولادة. وهذه المرحلة لم يذكرها ابن الجوزي بصراحةٍ، ولكنه تعرض لذكرها في مواضع مختلفةٍ من مؤلفاته…
أما المراحل الخمس الباقية، فقد أسماها بالمواسم، وهي كما أوردها ابن الجوزي:

الموسم الأول: من وقت الولادة إلى زمن البلوغ.
الموسم الثاني: من زمن البلوغ إلى خمسٍ وثلاثين سنةٍ، وهي زمن الشباب.
الموسم الثالث: من ذلك الزمن إلى تمام الخمسين سنة، وذلك زمن الكهولة، وقد يقال كهل لما قبل ذلك.
الموسم الرابع: من بعد الخمسين إلى تمام السبعين، وذلك زمن الشيخوخة.
الموسم الخامس: ما بعد السبعين إلى تمام العمر وهو زمن الهرم”.

وهذا التقسيم الذي وضعه ابن الجوزي لمراحل النمو الإنساني، يتفق إلى حدٍ كبيرٍ مع معظم تقسيمات المربين المسلمين وغيرهم من الغربيين”[“آراء ابن الجوزي التربوية” (ص194)]

وفي تقسيم آخر حديث ذكره في كتابه “الاتجاهات الحديثة في تخطيط المناهج الدراسية في ضوء التوجيهات الإسلامية” (ص259) كالتالي:

“أ- مرحلة التكوين.
ب- مرحلة الرضاعة. “0-2”.
جـ- مرحلة الطفولة. “2-7”.
د- مرحلة التمييز. “7-14”.
هـ- مرحلة البلوغ. “14-21”.
و- مرحلة الشباب. “21-40”.
ز- مرحلة الرشد. “40-60”.
ح- مرحلة الشيخوخة “60-80”.
ك- مرحلة الكهولة. “80-100”.

ونريد أن نقف هنا على مرحلة الرشد والتي تتحدث عن بلوغ سن الأربعين، لأن لها شأنًا وأهمية بالغة في مراحل عمر الإنسان، فهي مرحلة كما يقول ابن خلدون: “تبيّن في المعقول والمنقول أنّ الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموّها وأنّه إذا بلغ ‌سنّ ‌الأربعين وقفت الطّبيعة عن أثر النشوء والنّموّ برهة ثمّ تأخذ بعد ذلك في الانحطاط.”[“تاريخ ابن خلدون” (1/ 465)].

وهذه المرحلة قليلة البحث رغم أهميتها المفصلية في حياة الإنسان، وعن قلة هذا الاهتمام يقول مؤلفا كتاب “نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين” (ص358) ما نصه: “ومع بلوغ ‌سن ‌الأربعين يكون المرء قد وصل إلى طور “بلوغ الأشد” -حسب التعبير القرآني الكريم- وبدأ طورًا جديدًا يسميه علماء النفس الارتقائيون أيضًا طور الرشد الأوسط، أو وسط العمر، والذي يمتد حتى سن الستين أو بعده بقليل، ومن الغريب أن هذه المرحلة هي الأقل استطلاعًا وبحثًا من بين جميع مراحل العمر، لأنه حتى عهد قريب لم تكن هناك إلّا مشكلات قليلة لا تتعدى حدود المشكلات الفسيولوجية المرتبطة بما يُسَمَّى التغيرات مدى الحياة، والتي بدت هامة لدرجة جذبت انتباه علماء النفس الذين شغلتهم على التوالي: الطفولة فالمراهقة، ثم ازداد الاهتمام بالشيخوخة في السنوات الأخيرة، ثم بمرحلة الرشد المبكر. أما طور بلوغ الأشد أو وسط العمر “الرشد الأوسط” فلا زالت أقل المراحل بحثًا، فلا يتوافر حولها قدر كافٍ من البحوث والمعلومات العلمية.”

وقد كانت العرب تنظر إلى سن الأربعين على أنها “سن النضج والكمال، فأخذوا بمبدأ تحديده باعتباره الحد الأصغر لسن من يسمح له بالاشتراك في الاجتماعات وإبداء الرأي، إلا إذا وجدوا في رجل أصغر سنًّا جودة في الرأي، وحدة في الذكاء، فيسمح له عندئذٍ بالاشتراك وبإبداء الرأي بصورة خاصة.”[“المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام” (7/ 47)].

وكان السلف الصالح على وعي بهذه المرحلة العمرية وأهميتها في الإقبال على الله والعروج في منازل السائرين، قال في “حسن التنبه لما ورد في التشبه” (10/ 189): “قال عبد الله بن داود: كان كثير من السلف في أمر دنياهم، حتى إذا بلغوا أربعين سنة طوى فراشه؛ أي “كان لا ينام طول الليل” قاله الغزالي في الإحياء، وروى أبو أحمد العسكري في “المواعظ” عن هلال بن يساف قال: كان الرجل من أهل المدينة إذا بلغ أربعين سنة تفرغ لعبادة ربه.”[“المجالسة وجواهر العلم” (ص: 27)].

وروى ابن كثير في تفسيره (6/ 553): “عن الحسن في قوله: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} قال: ‌أربعين ‌سنة…، عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم ‌أربعين ‌سنة، فليأخذ حذره من الله عز وجل.”
وقال أيضا (7/ 281) عند قوله تعالى: “{إني تبت إليك وإني من المسلمين} وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله، عز وجل، ويعزم عليها.”

وهذا‌ الإمام جلال الدين السيوطي لما بلغ سن ‌الأربعين اعتزل الناس وخلا بنفسه في روضة المقياس بالقاهرة على نيل مصر، وانهمك في التأليف والتصنيف، فألف أكثر كتبه. ومثله في العلماء كثير.
كما أن سنّ الأربعين من الأمور التي عالجها الأدباء في شعرهم ونثرهم إذ ذكر “علي الزيادي” (الأربعين) بقوله:

ألمت بعيد الأربعين مفاصلي … وعدا يعاديني الطباع الأربع

وقال الآخر:

وماذا يبتغي الشعراء مني … وقد جاوزت حد الأربعين”

بمعنى: ماذا يريد الشعراء منّي؟ وكيف يمنّون أنفسهم في خديعتي وقد بلغت سنّ الأربعين، وهي سنّ الحنكة والتجربة والاختبار؟[“شرح المفصل لابن يعيش” (3/ 227)]

ونقل شوقي ضيف في “تاريخ الأدب العربي” (10/ 206): عن “إبراهيم التازي (تـ866 هـ) قوله:

أبعد الأربعين تروم هزلا … وهل بعد العشيّة من عرار
فخلّ حظوظ نفسك واله عنها … وعن ذكر المنازل والديار
فما الدّنيا وزخرفها بشئ … وما أيّامها إلا عوارى
فتب واخلع عذارك فى هوى من … له دار النعيم ودار نار
جمال الله أكمل كلّ حسن … فلله الكمال ولا ممارى
وذكر الله مرهم كلّ جرح … وأنقع من زلال للأوار
ولا موجود إلا الله حقّا … فدع عنك التعلق بالشّنار”

ورحم الله القائل “الأقيشر” كما في العقد الفريد (8/ 76):

إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن … له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه، ولا تنفس عليه الذي مضى … وإن جر أسباب الحياة له العمر”

قال في “بيان المعاني” (4/ 129): “لأنه والعياذ بالله ينطبع على ما هو عليه فيصعب تبديل خلقه كما يستحيل تغير خلقه”

وفي “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” (7/ 295):

هل بعد سن ‌الأربعين تصابي … ذهب الشباب ولات حين شباب
هل ينفعنك بعد شيبك في الهوى … توفير مكتسب وحسن ثياب
هيهات ما فخر المهند في الوغى … بحلي غمد فوقه وقراب”