ترجمة وتقديم: محمد الولي
تقديم:
لهذا النص قصة طويلة. لقد تم نشره 4 جوان 2002 في الصحيفة الفرنسية الشهيرة لُومُونْدْ. وكان يحمل توقيع إِدْكَارْ مُورَانْ وسَامِي نَائِيرْ ودَانْيِلْ سَالُنَابْ. حرره إِدْكَارْ مُورَانْ كشهادة على مجزرة جِنِينْ الْمُرَوِّعة، التي اقترفها الجيش الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني. شهادة إدْكَارْ ورفيقَيْه صرخة مدوية في وجه القتلة وفي وجه المتفرجين. ها نحن نُقْدِم على ترجمته اليوم، بعد أزيد من ست سنوات من نشره. وبعيْد المجزرة الرهيبة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة 2009. وقبل ذلك في صيف 2006 تعرض الشعب اللبناني لمجزرة لا تقل عن الإثنتين السابقتين.
يعتبر إِدْكَارْ مُورَانْ واحداً من عظماء الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين. أما سَامِي نَائِيرْ فهو عضو في البرلمان الأوروبي، يهودي من أصول مغاربية. أمَّا سَالُنَابْ فهي كاتبة وأستاذة الفلسفة في إحدى الجامعات الفرنسية. هذا النص يعتمد على شهادات جمعها سَامِي وسَالُنَابْ في إسرائيل وفلسطين المحتلة. وفور نشره واجه هؤلاء الثلاثة، إضافة إلى مدير لُومُونْدْ جَانْ مَارِي كُولُومْبَانِي، تهمة “القذف العرقي”.
أما الجهة التي رفعت الدعوى فهما جمعيتان فرنسيتان: محامون بلا حدود وإسرائيل ـ فرنسا. أما الفقرتان اللتان كانتا أساس التهمة فهما:
1. “إننا نتألَّم لتخيل كونِ أمة من الفارينَ، سليلةِ شعبٍ اضطُهِدَ لأمدٍ طويلٍ خلالَ تاريخِ الإنسانيةِ، ومُتَحمِّلةٍ لِأسوءِ الإهَاناتِ وأقبحَ الازْدرَاآتِ، قادرةً على التحَوُّلِ، باستثْناءِ أقليةٍ رائعةٍ، خلالَ جيلَيْنِ إلَى شعبٍ مهيمِنٍ وواثق من نفسِهِ وإلى شعبٍ مُتعَالِ يحِسُّ بالرِّضَا لمُمارَسةِ إذلَالِ الآخَرينَ”.
2. “إنَّ اليهُودَ الذِينَ كَانُوا ضَحايَا نظامٍ قاسٍ يَفرِضُون نظَامَهُمْ القاسِيَ علَى الفِلسْطينِييِّنَ”.
ولقد كانت مناسبة تحرير هذه المقالة كما يتذكر إدكَارْ مُورَانْ ذلك في حوار مع الصحفية الإيطالية السويسرية سِيلْبِيَا كَاتُورِي(1) :
“لقد كتبت هذه المقالة في واحدة من اللحظات الأكثر توتراً والأشد عنفاً. كنا في سنة 2002 غداة الهجوم العسكري لشَارُونْ. كانت تلك لحظة جِنِينْ. لحظةٍ مطبوعةٍ بقمعٍ رهيبٍ. هذا يستدعي التدخل والإدلاء بشهادة.
[…] من البديهي أنني كنت أرغب، بهذا النص، أن أقيم تشخيصاً وأبثَّ إشارةَ إنذارٍ.
لقد أحطته بتأملي واختباري من زاوية تَرْكِيبِيَّتِهِ. كانت هناك مسألة حرصت على طرحها. كيف يُعْقَلُ أن ألفَيْ سنة من الاضطهاد والإذلال لم تُعْتمَدْ كتجربةٍ للإحجام عن إذلال الآخرين؟
كيف أمكنَ لإسرائيلَ وهي نفسها وريثةُ اليهود المضطهَدين والمهانين أن يضطهدوا ويُهينُوا الفلسطينيين؟
هذه المفارقة التاريخية هي ما طرحتُ بصددها الأسئلة. وهذا ـ إضافة إلى أشياء أخرى ـ ما كان موضوعَ انتقادٍ في المعسكر الموالي لإسرائيل. وهكذا فقد أثارت هذه الفقرة غيظ مفكرين من قبيل فِينْكْلْكْرَاوْتْ”.
ونفس هذه المناسبة التي قال عنها يِيشَايَاهُو لِيبُوبِيتْزْ المفكر وداعية الأخلاق اليهودي الذائع الصيت الذي يعيش في القدس: “في إسرائيل توجد عقلية يهوديةٌ ـ نازيةٌ، وهي مصدر التعاطفِ والدعمِ الصريحِ الذي تمتع به القاتل كولْدْسْتَايْنْ”(2).
ولم يتمتع إِدكارْ مُورانْ ورفاقهُ بالبراءة إلا في خضم الحرب الضروس التي شنتها إسرائيل على لبنان في صيف 2006.
والواقع أن هناك تاريخاً لمثل هذه المتابعات القضائية لمجرد نقد السياسة الإسرائيلية. فلنذكر ببعض الأسماء. المرحوم الأب لَابِي بْيِيرْ، صديق الفقراء والمحرومين، ترك موطنه فرنسا وشد رحاله إلى سويسرا هرباً من مضايقات الصهاينة. وهو صديق روجيه كارودي الذي عانى الأمرين من محاكمات الصهيونية في بلده فرنسا. وفي أمريكا نجد المؤرخ نُورْمانْ فينْكْلستَايْنْ الذي يشن عليه الصهاينة الحرب ويمنعونه من العمل في بعض الجامعات بسبب مجاهرته بالحقيقة. وهو المشهور بكتابه صناعة الْهُولُوكُوسْتْ. ولا نستطيع هنا أن نتفادى ذكر أبرز المؤرخين الإسرائيليين، إيلانْ بَابِي، المنتمي لتيار المؤرخين الجدد، والذي اضطر تحت تهديد الصهاينة إلى شد الرحال إلى بريطانيا بعد إخضاعه، هو وأحد طلبته، لشتى أنواع المضايقات وتضييق الخناق عليه في جامعة حَيْفَا.
إسرائيل تعيش اليوم حالة من الحُمَّى التي تجعلها تُصَوِّبُ اتهاماتها باللاسامية أو كراهية الذات لكل من تسول له نفسه نقد السياسة العنصرية والاستعمارية الإسرائيلية. والواقع أنَّ إِدْكَارْ مُورَانْ وسَامِي نَائِيرْ ودَانْيِلْ سَالُنَابْ هم حلقة ضمن سلسلة كبيرة الحلقات ممن يعلون من شأن الفضيلة الإنسانية والمجاهرة بالحقيقة. ليست دموية إسرائيل في حاجة ذريعة. إن كراهيتهم للعرب والفلسطينيين متجذرة. لقد صرح أحد قادتهم السياسيين وهو بَارُوخْ مَرْزِلْ رئيس منظمة كَاشْ: “إن أي عملٍ ضد الفلسطينيين لا يُريقُ الدماءَ العربي لا نعتبره جاداً كما لا نخصه بالتقدير”(3).
المترجم
تكون السرطان الإسرائيلي ـ الفلسطيني انطلاقاً من باتولوجيا مَجاليَّة: نشوء أمتين في بلاد واحدة، وهذا الأمر مصدرُ باتولوجيتين سياسيتين، تولدت إحداهما عن الهيمنة، وتولدت الأخرى عن الحرمان. لقد تطور هذا السرطان بالتغذية، من جهة، من التخوف التاريخي لشعب عانى الاضطهادَ في الماضي، ومن افتقاده الأمن الجغرافيَّ، وتطور من الجهة الأخرى، بسبب بؤس شعب مضطهَدٍ في حاضره ومسلوب من حقه السياسيِّ.
التبرير
قال فيكتور هيكو: في مضطهَدِ الأمسِ يكمن مضطهِدُ الغدِ. تقدِّم إسرائيل نفسَها باعتبارها الناطقةَ باسم اليهود ضحايا اضطهادٍ عبر قرون ومتوَّجٍ بمحاولة النازية إبادتَهم. لقد نجت من الموت بعد ولادتها حينما تعرضت لهجوم جيرانها العربِ. أصبحت إسرائيل منذ ولادتها قوةً إقليميةً مثيرة، مستفيدةً من دعم الولايات المتحدة الأمريكية، ومتمتعةً بالسلاح النووي.
ومع ذلك فقد زعم شَارُونْ أنه يقاوم لأجل بقاء إسرائيل، وذلك بخنقِ الفلسطينيين، وتدميرِ المدارس والأرْشيفَاتِ وسجلاتِ المحافظات العقارية وهدمِ البيوت وتخريبِ المجاري، مقترفاً في جِينِينْ المجزرةَ التي ضرب السِّتارَ على معرفة حجمها. إن حجة الحماية ما كانت لتعيش إلا ببعث تخوفات 1948 وشبح أُوشْفِيتْزْ، وبجعلِ الماضي الذي شمله الإلغاءُ حاضراً حضوراً وهميّاً. هكذا أيقظت الانتفاضة الجديدة تخوفاً قاد إلى السلطة الغازي أَرْيِيلْ شَارُونْ.
وفي الواقع فقد كان شَارُونْ يُخاطر بحظوظ بقاء إسرائيل في الشرق الأوسط وهو يعتقد أنه يستطيع اعتماداً على الإرهابِ أن يضمن على الفورِ أمن إسرائيل. يجهل شَارُونْ أن انتصار اليوم يُمهِّد لانتحارِ الغد. وعلى المدى القريب فإن حَمَاس تتبنى سياسة شَارُونْ، إلا أنه على المدى المتوسط فإن شَارُونْ هو الذي يتبنى سياسة حماس.
إن الانتفاضة، وهي تتوقف عند عَتَبةٍ معينة لا تتخطاها، قد دفعت إسرائيلَ إلى التفاوض، إلا أنها بتخطيها هذه العتبةَ قد أيقظت تَخوُّف الفريسة، المغتاظةِ بسبب العمليات الانتحارية، وبهذا بَدَا القمعُ العديمُ الشفقة جواباً مستحَقّاً أمام التهديد. وإذا لم يُقْدِمْ أحد من الخارج على إيقافه فإن إسرائيل شَارُونْ ستسعى على أقل تقدير إلى تحويل الأراضي الفلسطينية المتمزقة إلى بَانْتُوسْتَانَاتْ.
النظرة الأحادية
إن وعي إسرائيل بأنها كانت في الماضي ضحيةً هو ما يسمح لها بأن تصبح مضطهِدةً للشعب الفلسطيني. تضفي كلمة “شُوَا” [المحرقة] التي تعتبِرُ المصيرَ الداميَّ لليهود حدثاً فريداً وتحطُّ من وزنِ كل المصائرِ الدمويةِ الأخرى (مصائرِ الكُولَاكْ والغَجَرِ والسُّودِ المستعبَدين وهنودِ أمريكا) الشرعيةَ على استعمارِ الفلسطينيين وتَعْريضِهم للأبَارْتايْدْ والحصارِ.
ينطوي وعيُ الضحيةِ بشكل واضحٍ على رؤيةٍ أحاديةِ الجانب للوضع وللأحداث.
لقد اعْتَبرتِ الصهيونيةُ في البداية، بشعارها “شعب بدون أرض لأرض بدون شعب”، الفلسطينيين الذي كانوا يقيمون في فلسطين غيرَ موجودين. لقد أخفى حقُّ اليهود في وطنٍ حقَّ الفلسطينيين في وطنٍ.
لا يعتبرُ الصهاينةُ اليومَ حق العَودةِ لِلَّاجئين الفلسطينيين حقّاً مناظراً لحق اليهودِ الذين لم يعيشوا أبداً في فلسطين، بل إنهم يعتبرون حقَّ عودة الفلسطينيين تجديفاً [أو تدنيساً] ودعوةً إلى الانتحارِ الديموغرافيِّ لإسرائيل. والحال أن ذلك كان يمكن أن يُعتبَرَ تداركاً بإجراءاتٍ قابلةٍ للتفاوضِ.
إنه مرعبٌ قتل المدنيين اعتماداً على مبدإ الذنب الجماعي كما تفعل ذلك العمليات الانتحارية، إلا أن هذا المبدأَ هو ما طبقته إسرائيل بدءاً من صَبْرَا وشَاتِيلَا وفي شمال لبنان إلى اليوم، ومن الْمُؤْلِمِ أنها قد تُقْدِمُ على ذلك غداً وهي توجه ضرباتها إلى المدنيين والنساءِ والأطفالِ، وبِتدمِيرِ بُيوتِ وحقول عائلات مُنَفِّذِي العملياتِ. إن الضحايا الفلسطينيين يتضاعف عددهم خمس عشرة مرةً أو عشرين مرةً مقارنةً بالضحايا الإسرائليين. فهلِ الشفقةُ مقصورةٌ على الإسرائليين دون الفلسطينيين؟
تعتبر إسرائيلُ إرهابَ الدولة الذي تسلطه على المدنيين من قبيل الدفاع عن النفس، وهي لا ترى في المقاومة الفلسطينية إلا الإرهاب.
النظرةُ الأحاديةُ تُحَمِّل عرفات وحدَه مسؤولية فشل المفاوضات الأخيرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية؛ وهي بهذا تُخفِي واقعةَ كونِ الاستيطانِ أخذ يتوسع، منذ اتفاقيات أوسلو، في الأراضي المحتلة ـ وتَعْتَبِرُ [هذه النظرةُ الإسرائيليةُ الأحاديةُ] من قبيل “الهِبَةِ السخيةِ” هذا الانسحابَ الجزئيَّ والمتشظيَّ من الأراضي المحتلة، مع الاحتفاظ بالمستوطنات والمراقبة الإسرائيلية للضفة الغربية. تعرَّض التاريخُ المركَّبُ للمفاوضات للتشطيب مِنْ قبل رؤيةِ “الهبة السخية” الأحاديةِ التي قوبلت برفض كليٍّ، وتم تأويلُ ما اعتبر رفضاً كليّاً بوصفه ينطوي على إرادةِ تدمير إسرائيل.
تُقَنِّعُ النظرة الأحاديةٌ الجدلَ الجحيميَّ للاضطهاد ـ العمليات [الجهادية]، الذي تغذيه هو نفسه القوى المتطرفةُ في المعسكرين.
النظرة الأحادية تُقَنِّعُ كونَ جولة شَارُونْ في باحة المسجد الأقصىى تفعل أكثر من تعزيز الحلقة المفرغة الجحيمية التي تُوَلِّدُ الأسْوَءَ في المعسكرين. إن تردِّي حرب الجزائر بعد سنةٍ 1957، قد أثمرت الأسوءَ في الجانب الفرنسيِّ، ثلاثَ انقلابات عسكريةٍ تمكنت من إقامة دكتاتورية مستدامة في فرنسا، والأسوءَ في الجانب الجزائريِّ بنمو الطابع الطغياني لجبهة التحرير الوطني، الشيءَ الذي ترتبتْ عنه تراجيدية لم تنته بعد أربعين سنة.
الحلقة الجحيمية، حيث تُنَمِّي كل زيادةٍ للأسوءِ عند طرف الأسوءَ في الطرفِ الآخرِ، هي التي خولت السلطةَ للزُّمْرَةِ القومية ـ الأصولية في إسرائيل، وأوصلتْ ضباطاً منحدرين من المستوطنات إلى قيادة اتْسَاحِلْ [الجيش الإسرائيلي]، وحولت عناصر من هذا الجيش لإعادة الاحتلال إلى جيوشٍ فضَّةٍ مُخرِّبةٍ وقاتلةٍ أحياناً إلى حدِّ ارتكابِ مجزرة (جِنِينْ). كما نَمَّى هذا انتشارَ تأثير الحركات الدينية المتعصبة على الشبيبة الفلسطينية.
صحيح أنَّ هناك رؤية أحادية فلسطينية أيضاً، إلا أنه فيما يتعلق بالأمور الأساسية، فإن السلطة الفلسطينية قد اعترفت، منذ تخلي ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية عن مبدإ القضاء على إسرائيل، بدولةِ إسرائيل المستقلةِ وهي الدولة التي ما تزال إلى اليوم ترفض أن يتمتع الفلسطينيون بنفس الحق. لقد رفض شَارُونْ دائماً مبدأ “السلام مقابل الأرض”، ولم يعترف أبداً باتفاقيات أُوسْلُو واعتبر إسْحاقْ رَابِينْ خائناً.
التكافؤ المزيف
يتجدد الحديث في الغرب عن الحرب الإسرائيلية الفلسطينية؛ إلا أن هذا التكافؤ المزَيَّفَ يُخْفِي تفاوتَ الإمكانيات، وتفاوت الضحايا، وحرب الدبابات، والهيلوكوبترات والصواريخ، مقابلَ البنادقِ والكلاشينكوفْ؛ يخفي هذا التكافؤ المزيف، التفاوتَ المطلقَ في موازين القوى، كما يخفي البديهةَ البسيطةَ بأن النزاعَ هو مواجهةٌ بين المستعمِرين الذين يفاقمون استعمارَهم وبين المستعمَرين الذين يُؤْذُونَ مقاومتَهم. يخفي التكافؤ المزيف بديهة أن الحقَّ والعدلَ هما في جهة المضطَهدين. إن التكافؤ المزيف يضع على نفس المستوى المعسكرين، في حين أن أحدهما يشن الحرب على طرف آخرَ غيرِ متوفرٍ على وسائلَ لشن هذه الحربِ، ولا يواجِهُ إلا بأفعالٍ مبعثرة مقاوِمةٍ أو إرهابيةٍ. كذلك هناك تكافؤ مزيف بين شَارُونْ وعرفات، أحدُهما صاحب قوة جبارةٍ، قادرٌ على تحدي الأمم المتحدة واستنكاراتِ (معتدلة حقاً) الولايات المتحدة، والآخرُ عاجزٌ بشكل متزايدٍ في حصاره الذي يتجَشَّمُهُ. ومن السخريةِ الأليمةِ أن يُطلَبَ من عرفات منعَ العملياتِ مع منعه من الفعل.
المضطهِد اليوم
“إننا نَتألم لتخيل كونِ أمة من الفارينَ، سليلةِ شعبٍ اضطُهِدَ لأمدٍ طويلٍ خلالَ تاريخِ الإنسانيةِ، ومُتَحمِّلةٍ لِأسوءِ الإهَاناتِ وأقبحِ الازْدرَاآتِ، قادرةً على التحَوُّلِ، باستثْناءِ أقليةٍ رائعةٍ، خلالَ جيلَيْنِ إلَى شعبٍ مهيمِنٍ وواثق من نفسِهِ وإلى شعبٍ مُتعَالِ يحِسُّ بالرِّضَا لمُمارَسةِ إذلَالِ الآخَرينَ”. إن الإعلام لا يَعْكِسُ بوضوحٍ مظاهرَ الاحتقار العديدة والدائمة، والإهانات الدائمة في البيوت والأزقة، وهي الإهانات التي تَحْجُبُهَا الرقابةُ. منطق الاحتقار والإهانة هذا، ليس حكراً على إسرائيل، إنه صفةُ كل المستعمِرِين حيث يَعتبر الغازِي نفسَه أسْمَى في مواجهة شعبٍ لا يرقى إلى مرتبةِ الآدميِّين. وبمجرد ظهور علامةٍ أو حركةِ تمردٍ، فإن المستعمِر يكشِف عن كونه عديمَ الشفقةِ. إن إسرائيل محقَّةٌ حينما تُذَكِّرُ فرنسا بقمعها الاستعماريِّ خلال حربِ الجزائر؛ إلا أن هذا يُبيِّنُ أن إسرائيل لم تعامل الفلسطينيين بأقلَّ مما فعلتهُ فرنسا في الجزائر.
ففي الأزمنة الأخيرة لإعادة غزوِ الضفة الغربية، أقدم اتْساحِلْ [الجيش الإسرائيلي] على ارتكاب أعمالِ النهبِ والتخريبِ المجَّانَيْن، والقتل، وهي الممارساتُ التي يتصرف بموجبها الشعب المختار باعتباره عِرْقاً أسْمى. إننا نفهم أن هذا الوضع المتردِّيَ يحفز باستمرارٍ مقاومين جدداً، ومنهم قنابلُ آدميةٌ جديدةٌ. إن الذي لا يرى إلا الدباباتِ والمدافعَ، ولا يرى الاحتقارَ والإهانةَ لا يتمتع إلا برؤيةٍ أحاديةِ الجانبِ للتراجيدية الفلسطينية.
عن الإرهاب
لقد أساء كلُّ المحتلين والغزاةِ والمستعمِرين استخدامَ كلمة “إرهاب”، لِوَصْمِ المقاوماتِ الوطنيةِ. لقد انطوت بعضٌ من هذه المقاومات،ِ كما حصل زمنَ الاحتلال النازيِّ لأوروبة، على عنصرٍ إرهابيٍّ، أي إنها كانت تُوَجِّهُ ضرباتِها بالخصوص صوبَ المدنيين. ولكن لا ينبغي اختزالُ المقاومة الوطنية في مكونها الإرهابيِّ، ومهما كانت أهميةُ هذا المكَوِّنِ. وعلى وجه الخصوص، فلا وجه للمقارنةِ بين إرهابٍ يعملُ في السرِّ وبين إرهابِ الدولةِ الذي يتمتع بأسلحةِ الدمار الشَّامِلِ. ففي الوقت الذي أدانت فيه حكومة شَارُونْ القنبلة الآدميةَ التي أَوْدَتْ بحياة ستةِ أشخاصٍ في القدس، فقد تَستَّرتْ على الإرهاب الذي تَعرَّضت له جِنِينْ. وكما أن هناك عدمَ تكافؤ بين السلاحين، فإن هناك أيضاً عدم تكافؤ بين الإرهابين.
فهل ينبغي أن يختفيَ الرعب والغيظُ إزاء الضحايا المدنيين الذين أودت بحياتهم قنبلةٌ آدمية حينما يكون الضحايا هم الفلسطينيون الذين أَوْدَتْ بحياتهم قنابلُ غيرُ آدميةٍ؟
القنابل الآدمية
لا تنبغي الخشيةُ من التساؤل حول هؤلاء الشبان والشابات الذين أصبحوا قنابلَ آدميةً.
إن اليأس، يحفزهم حقاً، إلا أن هذا المكون لا يكفي. هناك أيضاً حافزٌ قويّ جداً لأجل الثأر vendetta، وهو، في منطقه الغارق في القدم والعميق الجذور، خاصةً في البحر الأبيض المتوسط، يدعو إلى الأخذ بالثأر، ليس بالضرورة من مقترفِ الجريمةِ ولكن من عشيرته. إنه أيضاً تجسيد لفعل التمرد المطلقِ، حيث يتملَّكُ الفتى الذي كان شاهداً على الإهانة التي تَعَرّضَ لها أبوه، أو أقاربُه، شعورُ استعادةِ الكرامةِ المهدورة والعثورِ أخيراً في الموت الاستشهاديِّ على كرامته وحريته الشخصيةِ. وفي النهاية هناك تمجيدُ الشهيدِ، الذي يُلْقِحُ القضية بتحرير شعبه. صحيح أن هناك وراء هذه الأفعالِ، تنظيماً سياسياً دينياً، توفر المتفجراتِ، والاستراتيجيةَ، وتشحذ بالتمرين العقائدي إرادةَ الشهيدِ وتغييب الندم. كما أن استراتيجية القنابل الآدمية فعَّالَةٌ جداً لأجل نسف أي توافق، وأي سلام مع إسرائيل، الشيء الذي يؤَمِّنُ الاحتفاظ بالحظوظ المستقبلية لأجل القضاء على دولة إسرائيل. القنبلة الآدمية، الفعل الوجودي المتطرف في منظور مراهق ما، هي أيضاً فعلٌ سياسيٌّ من منظور تنظيم متطرف.
المفارقة الرهيبة
ها نحن نواجه المفارقةَ التي لا تُصدَّق. إن يهود إسرائيل المنحدرين من ضحايا عنصرية تدعى جِيتُو، يحاصِرون الفلسطينيين في جِيتُوهاتٍ. اليهود الذين كانوا في الماضي عرضةً للإهانة والاحتقار والاضطهاد يعرِّضون الفلسطينيين للإهانةِ والاحتقارِ والاضطهادِ. اليهُودَ الذِينَ كَانُوا ضَحايَا نظامٍ قاسٍ يَفرِضُون نظَامَهُمْ القاسي علَى الفِلسْطينِييِّنَ. اليهودُ ضحايا اللَّاإنسانيةِ يتصرفون بلاإنسانيةٍ مرعبةٍ. اليهودُ، كبشُ فداءِ كل الآلامِ، يجعلون من عرفات والسلطة الفلسطينية، كبش فداء، ويعتبرونهما مسؤولين عن العمليات التي يمنعونهما عن منعها.
السباق نحو الهاوية
لقد انتشرت موجة جديدةٌ من مناهضة اليهودية، ناشئةٌ عن السرطان الإسرائيلي ـ الفلسطيني، في جميع أرجاء العالم العربي ـ الإسلامي، بل إن إشاعةً عالميةً تنسب تدميرَ منارتيْ مَانْهاتَنْ إلى الخدعة اليهودية الأمريكية لتبرير الاضطهاد المسَلَّطِ على العالم الإسلامي.
ومن جهتهم فإن الجيران الإسرائليين يصيحون “الموت للعرب” إِثْرَ كلِّ عملية. هناك انتشار مناهضة العرب في العالم اليهودي. إن الهيئات “الطائفية” التي تزعم أنها تمثل اليهود في البلدان الغربية تنزع إلى إعادة حَبْسِ عالم اليهود في ذاته، في الإخلاص غير المشروط لإسرائيل.
إن جدل الكراهيتين اللتين ترعى إحداهما الأخرى، جدل احتقارين، احتقار المهيمن الإسرائيلي للعربي المستعمَر، وأيضاً هذا الاحتقارَ الجديد المناهضَ لليهودي والمتغذي من كل عناصر اللاسامية الأوروبية الكلاسيكية، هذا الجدل هو الآن بصدد التصدير.
ومع تَرَدِّي الوضعِ في إسرائيل ـ فلسطين فإن التسمم المزدوجَ، مناهضة اليهودية والمركزية اليهودية، سينتشر في كل مكان حيث يتواجد اليهودُ والمسلمون. إن السرطان الإسرائيلي الفلسطيني يجتاز الآن مرحلة اللاعودة في العالم.
إن الحالة الفرنسية دالة. فعلى الرغم من الحرب الجزائرية ومخلفاتها، وعلى الرغم من الحرب العراقية، وعلى الرغم من السرطان الإسرائيلي الفلسطيني، فإن اليهود والمسلمين يتعايشون في سلام في فرنسا. ومع ذلك فإن عوامل الفرقة قد بدأت تظهر.
إن ضغينةً صَمَّاءَ ضد اليهود الذين تمت تسويتهم بالإسرائليين تَخْتَمِرُ في أحضان الشبيبة المنحدرة من أصول مغاربية. ومن جهتها فإن المؤسسات اليهودية المدعوة طائفية تتعهد الاستثناء اليهودي في حضن الدولة الفرنسية والتضامن غير المشروط مع إسرائيل.
إن القمع العديم الشفقة الذي مارسه شَارُونْ، هو الذي حوَّلَ مناهضة اليهودية المعنوية إلى الفعل الأشدِّ قساوة للكراهية، أي المساس بمقدسات الكَنِيسِ والقبور. إلا أن هذا يعزز استراتيجية الليكود: إذ يظهرون بهذا أن اليهود ليسوا في بيوتهم في فرنسا، وأن اللاسامية على الأبوابِ، ويدفعون اليهودَ إلى الالتحاق بإسرائيل. أليس من الواجب علينا أن ننشر، على العكس من هذا، فكرةَ المواطنة الفرنسيةِ باعتبارها دعامةَ الأخوة بين اليهود والمسلمين؟
الخلاص
هل من مخرج؟ هناك كراهيةٌ تبدو وكأنها لا تقبل الخمود في أعمأق قلوب كل الفلسطينيين، وهي تنطوي على التطلع إلى القضاء على إسرائيل؛ وعند الإسرائليين، يبدو الاحتقار متزايد الكراهية، ويبدو غير قابل للإخماد. إلا أن الكراهية العريقة بين الفرنسيين والألمان، المتفاقمة بالحرب العالمية الثانية، قد تلاشت خلال عشرين عاماً. لقد أمكن لإشارات الاعتراف بكرامة الآخر، خصوصاً في البحر الأبيض المتوسط، أن تغير الوضع. يستطيع السامِيُّون (فلنذكر بأن أكثر من أربعين في المائة من الإسرائليين قَدِمُوا من البلدان العربية) في يوم من الأيام أن يعترفوا بهويتيهما كأبناء عمومة، وبلغتيهما الجارتين، وبإلههم المشترك.
هل ستدفع فداحة العقاب التي يتعرض لها شعبٌ متهمٌ بالتَّطَلُّعِ إلى حريته إلى رد فعل في العالم، مخالفٍ للاستنكارات الخجولة؟ هل ستستطيع الأمم المتحدة أن تتخذ قراراً باللجوء إلى قوة ما للتدخل؟ إن شَارُونْ سيكون هنا مرغماً على هجر سياسته.
كان هناك أحداث 11 سبتمبر الصدمة التي شجعته. “إن الحرب الأمريكية على الإٍرهاب” قد سمحت له بحشر المقاومة الفلسطينية في خانة الإرهاب المعادي للغرب، بكيفية يغدو معها: رأساً لرأس، إسرائيل ـ فلسطين، وجهاً لوجه، ليس بين بلدين، ولكن بين دينين وحضارتين، مندرجاً بالتالي في إطار حرب صليبية كبرى ضد البربرية الأصولية.
إن الصدمة العكسية هي في الواقع قائمة. إنها العرض السعودي الذي يقترح الاعتراف النهائي بإسرائيل من قبل كل الدول العربية مقابل العودة إلى حدود 1967 بالاتفاق مع كل قرارات الأمم المتحدة. هذا العرض قد لا يسمح بسلام شامل وحسبُ بين البلدان بل إنه يسمح أيضاً بسلام ديني يحظَى بتزكيةِ الدولة المسؤولةِ عن الأماكن المقدسة للإسلام. يمكن أن نترقب مؤتمراً دولياً لأجل التوصل إلى اتفاق قائم على ضمانة دولية.
وفي كل الأحوال فإن الولايات المتحدة، التي تُعتبَر مسؤوليتُها كبرى، تتوفر على وسيلة الضغط الحاسمة بالتلويح بتعليق مساعداتها، وبوسيلة الضمانة الحاسمة بالتوقيع على حلف حماية إسرائيل.
ليس المشكل مشكلاً شرق أوسطياً وحسبُ؛ إن الشرق الأوسط هو منطقة منفجرة من العالم حيث يتواجه الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الأغنياء والفقراء، العلمانية والدين، والديانات فيما بينها. هذه المتناقضات هي التي ينذر السرطان الإسرائيلي الفلسطيني بإطلاقها من عقالها في العالم. إن هذه المتَاسْتَازاتِ لا تتوانى عن الانتشار في العالم الإسلامي والعالم اليهودي والعالم المسيحي. ليس المشكل مجردَ مسألة حيث الحقيقة والعدل مترابطان. المشكل هو أيضاً مشكل سرطان ينخر عالمنا ويؤدي إلى كوارث عالمية مترابطة.
ـــــــــــــــــــ
1 ـ نشر نص ترجمة هذا الحوار في الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 30 نوفمبر 2007 وكانت الترجمة بقلم مترجم هذا النص.
2 ـ نقلاً عن الصحفي الإسرائيلي الذائع أَمْنُونْ كَابْلْيُوكْ.
3 ـ نقلاً عن أَمْنُونْ كَابْلْيُوكْ.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=10618