10 مايو 2025 / 11:35

إمارة المؤمنين والفاتيكان: شراكة روحية في زمن الأزمات

سعيد الزياني ـ دين بريس
تجسد العلاقة بين “إمارة المؤمنين” بالمغرب والكرسي الرسولي بالفاتيكان أحد النماذج النادرة التي تتقاطع فيها المرجعيات الدينية العميقة مع الدينامية الجيوسياسية المعاصرة، إذ تتأسس هذه العلاقة على تراكم تاريخي طويل، يمتد من العصر المرابطي إلى اللحظة الراهنة، لكنها تتجاوز البعد التاريخي إلى أفق جديد تتداخل فيه المقاربات الروحية والدبلوماسية والثقافية.

فالبرقية التي بعثها أخيرا الملك محمد السادس، بصفته أميرا للمؤمنين، إلى البابا “ليو الرابع عشر” بمناسبة انتخابه حبرا أعظم للكنيسة الكاثوليكية، تتجاوز كونها رسالة مجاملة بروتوكولية، إلى ضرورة التعامل معها كوثيقة محملة بدلالات سياسية ودينية عميقة تؤشر على استمرار توجه مغربي قائم على تثبيت مبدأ “التعايش الديني” و”التقدير المتبادل” كمدخل لتفعيل الدبلوماسية الدينية في زمن الأزمات المتشابكة.

وتتميز العلاقات المغربية ـ الفاتيكانية بطابع استثنائي، لكونها تجمع بين مؤسستين روحيتين ذواتي حمولة رمزية عابرة للحدود، فإمارة المؤمنين تعد مرجعية إسلامية وسطية ذات امتداد تاريخي، تضطلع بحماية الأديان السماوية وضمان حرية المعتقد، فيما تمثل الكنيسة الكاثوليكية مركزا عالميا للمسيحية، تتمتع بثقل كنسي ودبلوماسي يجعلها شريكا طبيعيا لكل مرجعية دينية ذات طابع مؤسسي.

وقد رسخ المغرب، من خلال مؤسسته الدينية، رؤية استراتيجية لهذه العلاقة منذ أواخر القرن التاسع عشر حين بعث السلطان الحسن الأول سفيره إلى البابا ليون الثالث عشر سنة 1888، وتكرست هذه الرؤية أكثر في عهد السلطان محمد الخامس الذي أرسى أولى معالم الاعتراف المتبادل بين الدولة المغربية الناشئة حينها والكرسي الرسولي، وذلك بالتزامن مع استقلال المغرب وبداية تشكل الخارطة الدبلوماسية الحديثة.

إلا أن التحول الحقيقي في مسار هذه العلاقة حدث مع الملك الراحل الحسن الثاني، الذي عمل على نقلها من مستوى البروتوكول إلى مستوى الرمز، حين وجه دعوة رسمية للبابا يوحنا بولس الثاني لزيارة المغرب سنة 1985، ليكون أول بابا يدخل بلدا إسلاميا بدعوة من ملكه، وأول زعيم ديني كاثوليكي يلقي خطابا في بلد عربي أمام جمهور قارب الثمانين ألفا من المواطنين المسلمين.

وتكمن أهمية تلك الزيارة، وما تلاها من خطوات تأسيسية، في إرساء منطق جديد في العلاقات بين الإسلام والمسيحية، يفوق الحوار العقدي أو التسامح المذهبي، إلى الاعتراف المتبادل بشرعية كل مؤسسة في تدبير المرجعية الدينية ضمن مجالها، مع الحرص على بناء قنوات تواصل مؤسساتي تحصن العلاقة من التوترات السياسية والاصطفافات الإيديولوجية.

وهذا ما عبرت عنه بوضوح زيارة الملك محمد السادس للفاتيكان سنة 2000، التي مثلت أول تأكيد رمزي على استمرارية التوجه الانفتاحي للمؤسسة الملكية تجاه الفاتيكان، وكرست في الآن ذاته ثنائية المرجعية: الدولة كفاعل سيادي، وإمارة المؤمنين كمؤسسة شرعية ذات وظيفة دينية تتفاعل مع المؤسسات العالمية من منطلق أخلاقي وإنساني وليس فقط سياسي.

وتظل اللحظة المفصلية الأبرز هي زيارة البابا فرنسيس للمغرب سنة 2019، والتي مثلت ذروة مسار رمزي ممتد، وأطلقت تحولات نوعية في مضمون العلاقة بين الطرفين، وكان لقاء البابا بالملك تجسيدا حيا للتفاعل بين سلطتين روحيتين، لكل واحدة منهما سرديتها الخاصة في تدبير الإيمان والاختلاف والسلم.

وإذا كان توقيع “نداء القدس” أبرز تجليات هذا التلاقي، فإن ما تضمنه خطاب أمير المومنين من إشارات قوية حول حرية الاعتقاد وحماية غير المسلمين داخل المملكة، قد شكل مساهمة تأسيسية في النقاش العالمي حول دور الدين في بناء المواطنة الجامعة وصيانة التعددية.

لقد أدركت المؤسسة البابوية، منذ وقت مبكر، طبيعة مرجعية إمارة المومنين، واعتبرتها مؤسسة دينية استثنائية قادرة على الجمع بين المشروعية التاريخية والقدرة العملية على إنتاج سياسات دينية مرنة، وقد عبر الفاتيكان عن هذا الإدراك مرارا، حيث يبدى إعجابه بالمكانة التي تمنحها إمارة المؤمنين للأقليات المسيحية واليهودية، وبالدور التأطيري الذي تقوم به في إفريقيا، والعمل على توفير نموذج ديني مغربي يستلهم الروح الإسلامية الأصلية ويترجمها في مؤسسات واقعية.

وبالرغم من أهمية التراكم الرمزي الذي تكرسه علاقة إمارة المؤمنين بالفاتيكان، فإن المجهود المؤسسي لتثمين هذه العلاقة لا يزال محدودا من حيث إنتاج مشاريع فكرية أو وثائق مرجعية، ففي الوقت الذي تحولت فيه “وثيقة الأخوة الإنسانية”، التي وقعت خلال زيارة البابا للأزهر الشريف، إلى مرجع معتمد في العديد من المؤسسات الدولية، لم تشهد العلاقة المغربية ـ الفاتيكانية بلورة إطار مماثل من حيث التوثيق أو التنزيل الفكري المنظم، بما يتيح تفعيلا استراتيجيا مؤسسيا لهذا التعاون الديني.

وهنا تبرز الحاجة الملحة إلى انخراط المؤسسات الدينية والعلمية بالمغرب في مجهود تأصيلي وتوثيقي متواصل، يواكب المسار العملي الذي تطوره الدولة المغربية على مستوى الدبلوماسية الدينية، بما يعزز الريادة الفعلية التي تكرسها إمارة المؤمنين في تفاعلها مع باقي الفاعلين الدينيين.

وأصبح من الضروري في السياق المغربي التفكير في مبادرة مؤسساتية علمية أو توثيقية تعكس الرؤية الملكية ذات البعد الكوني، وتواكب الدور المتصاعد لإمارة المؤمنين في الحوار الديني والدبلوماسية الروحية العالمية، على غرار تجربة الأزهر مع الكرسي الرسولي.

وبالنظر إلى خصوصية هذه المؤسسة المغربية العريقة، التي تتجاوز وظيفتها السيادية في حماية العقيدة إلى كونها مرجعية فكرية ومجتمعية، فإن بلورة مشروع مؤسسي، توثيقي وتأصيلي يعد خطوة ضرورية لتأطير هذا الدور وتفعيله، من خلال أدوات معرفية وتحليلية تضمن حضوره الأكاديمي في النقاشات الدولية المعاصرة.

إن انتخاب البابا ليو الرابع عشر يأتي في لحظة إقليمية ودولية دقيقة، تزداد فيها الحاجة إلى مرجعيات دينية معتدلة تشتغل كفاعلين غير تقليديين في فضاء العلاقات الدولية، ولا شك أن التنسيق بين إمارة المؤمنين والكرسي الرسولي، إذا ما تمت بلورته في مشاريع مشتركة واضحة المعالم، قادر على أن يلعب دورا استراتيجيا في مجالات حساسة من قبيل المواطنة الدينية، وحماية المقدسات، ومقاومة خطاب الكراهية، ومرافقة الشباب، وتحصين المجتمعات من التطرف.

لكن بلوغ هذا الطموح يتطلب إرادة مؤسساتية مضاعفة من الجانب المغربي، تنهض على ثلاثة مستويات:

أولا: تطوير الدبلوماسية الروحية للمغرب من مجرد رمزية دينية إلى فعل مؤثر في السياسات الدولية الدينية.

ثانيا: تأهيل المؤسسات العلمية والدينية المغربية للانخراط في مشاريع بحثية وإعلامية مشتركة مع نظيرتها الفاتيكانية، بما يظهر للعالم أن المغرب لا يكتفي بالانفتاح، بل ينتج خطابا تأصيليا مؤثرا.

ثالثا: بلورة رؤية استراتيجية مغربية للحوار بين الأديان، تنطلق من إمارة المؤمنين كمؤسسة جامعة، وتسهم في تأطير النقاش العالمي حول وظيفة الدين في العالم ما بعد الحداثة، خصوصا وان العالم مقبل على ازمات دينية وهوياتية غير مسبوقة.

وفي ظل الأزمات المتداخلة والمرتقبة التي يشهدها العالم المعاصر، تبرز الحاجة إلى مؤسسات دينية ذات شرعية تاريخية وقدرة عملية على إنتاج معان جامعة تؤطر السلوك الجماعي ضمن أفق إنساني مشترك، ومن هذا المنظور، تلتقي إمارة المؤمنين بالمغرب والكرسي الرسولي بالفاتيكان باعتبارهما مرجعيتين دينيتين تحملان رصيدا رمزيا وتجربة تراكمية تؤهلهما للمساهمة في ترميم الثقة، وتجديد قنوات التواصل، وصياغة رؤية روحية معاصرة تستجيب لتحولات العالم، وتسهم في إعادة بناء الجسور بين المرجعيات الإيمانية والواقع الدولي المأزوم.