سعيد الكحل
مدونة الأسرة تهم كل فئات المجتمع
اعتبارا لكون مدونة الأسرة تهم المجتمع المغربي بكل فئاته، شأنها في هذا شأن الدستور، فإن المطلوب من كل الفاعلين السياسيين والمدنيين ألا يجعلوها مجال التجاذب والتقاطب والصراع. ذلك أن تطبيقات المدونة لا تنحصر فيما هو أسري محدود، بل تتعداه إلى مناحي الحياة العامة للشعب المغربي، سواء في بعدها الاقتصادي أو السياسي أو القانوني، أو الأمني، أو النفسي، أو الاجتماعي. إذ ما يحدث داخل الأسرة من اختلالات تكون له تداعيات مباشرة على المجتمع والدولة معا. فالإبقاء على الاختلالات التي أبان عنها تطبيق المدونة خلال عقدين من الزمن من شأنه أن ينعكس سلبا على الاقتصاد الوطني ومستوى الإنتاجية والمردودية. ومطالبة الهيئات النسائية والحقوقية بضمان المساواة بين الجنسين وتطبيقها في الحياة الاجتماعية والإدارية والاقتصادية، لا تأتي اعتباطا ولا “تآمرا” على الأسرة والدين كما يزعم الإسلاميون، بل نابعة من دراسة الواقع والإصغاء لضحايا الاختلالات التي أبان عنها تطبيق المدونة.
ففي مقالة، بتاريخ 29 نوفمبر 2018، تحت عنوان “مكاسب الاقتصاد من إدماج المنظور الجنساني: أكبر مما كنتم تظنون ” للسيدة كريستين لاغارد (شغلت منصب مدير عام صندوق النقد الدولي وتشغل حاليا رئيسة البنك المركزي الأوربي)، وجوناثان أوستريJonathan D. Ostry (نائب مدير إدارة البحوث بالصندوق)، يوضحان تأثير اللامساوة بين الجنسية على الاقتصاد والإنتاجية كالتالي: “يتحمل الاقتصاد تكلفة كبيرة بسبب عدم المساواة في الفرص بين النساء والرجال، إذ إن عدم المساواة يعوق الإنتاجية ويفرض عبئاً على النمو..أن الحواجز التي تحول دون دخول النساء سوق العمل – كالتشوهات الضريبية والتمييز والعوامل الاجتماعية والثقافية – أكثر تكلفة مما أشارت الأبحاث السابقة وأن مزايا سد الفجوات بين الجنسين أكبر مما كان يُعتَقد في السابق.
ولذلك، ينبغي لصناع السياسات أن يركزوا على إزالة هذه الحواجز بصورة عاجلة”. ولعل أبرز الحواجز التي تعوق الرفع من إنتاجية النساء تتمثل في منظومة الإرث التي تكرس التمييز والظلم في حق النساء كالتالي:
1 ـ بخصوص التمييز: يتجسد في قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين التي لم تعد تتناسب مع تطور المجتمع ومشاركة المرأة في تكوين ومراكمة الممتلكات الأسرية. إذ تتولى المرأة وحدها إعالة 1.7 مليون أسرة بما فيها الأسر التي تضم الذكور العاطلين عن العمل. فالفتيات اللائي يعملن في الفلاحة والنسيج والصناعة (خاصة الكابلاج) ينفقن على أسرهن ويساهمن إما في تسديد أقساط الدين المتعلق باقتناء المساكن أو في تمويل بنائها، فيما الأخوة الذكور إما يدرسون أو عاطلون عن العمل. أما الذين وجدوا وظيفة أو شغلا فسرعان ما يقررون الزواج والاستقلال عن عائلاتهم. كل هذا الجهد الذي تبذله الإناث في تكوين ممتلكات الأسرة ومراكمتها لا يتم اعتباره حين وفاة الأب بحيث يلجأ الأخوة إلى تقسيم الإرث وفق قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين.
وهذا يتنافى مع مقصد الشريعة في العدل كما يتنافى مع الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب والمتعلقة بإلغاء كل أشكال العنف والتمييز ضد النساء. فالمدونة لم تأخذ بالاجتهاد الفقهي المغربي المتمثل في “حق الكد والسعاية” الذي يضمن نصيب الأفراد في التركة على قدر مساهمتهم في تكوينها أو تنميتها. لهذا سيكون مطلوبا من أعضاء اللجنة المكلفة بإصلاح المدونة بلورة مقترحات تأخذ في الاعتبار الأطر المرجعية التي تضمنتها الرسالة الملكية، وفي مقدمتها: الانسجام مع الدستور والمواثيق الدولية. ويمكن للجنة، كأضعف الإيمان، أن توصي باعتماد الوصية للوارث مع حمايتها من الطعون أمام القضاء. والاستمرار في العمل بمنظومة الإرث الحالية التي تحرِم الإناث من جزء هام من حقوقهن في التركة هو خرق للدستور وللمواثيق الدولية.
2 ـ بخصوص الظلم الفظيع: ويتجلى في “قاعدة التعصيب” التي تُحرم الإناث في الأسر التي لم تُرزق ولدا ذكرا، من جزء مهم من التركة التي خلّفها الأبوان وقد يكنّ ساهمن فيها، وتعطيه للأعمام أو أبنائهم وإن نزلوا. وليس أفظع من هذا الظلم الذي شرعنه الفقهاء رغم عدم أصل له في القرآن أو السنة النبوية باستثناء حديث مطعون في راويه ومشكوك في سنده، وصيغة الحديث (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) الذي ضعّفه كثير من الأئمة والفقهاء لكون راويه عبد اللّه بن طاوس مجروحا، وكذا إنكار ابن عباس لروايته أو الإفتاء به.
فقد روي عن ابن عباس وطاووس والد عبد اللّٰه تكذيبه، وتبرؤهما من هذا الخبر، روى ذلك أبو طالب الأنباري قال: حدثنا محمد بن أحمد البربري، قال: حدثنا بشر بن هارون، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثني سفيان، عن أبي إسحاق، عن قارية بن مضرب قال: جلست عند ابن عباس وهو بمكة فقلت: يا ابن عباس حديث يرويه أهل العراق عنك وطاووس مولاك يرويه: أن ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال: أمن أهل العراق أنت؟ قلت: نعم قال: أبلغ من وراءك أني أقول: إن قول اللّٰه عز وجل (آبٰاؤُكُمْ وَأَبْنٰاؤُكُمْ لٰا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ) وقوله (وَأُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ) وهل هذه إلا فريضتان وهل أبقتا شيئاً؟ ما قلت هذا، ولا طاوس”. وفي المقابل أفتى ابن عباس بالتركة كلها للبنت عند عدم وجود الابن الذكر.
بل الثابت أن الرسول (ص) جعل التركة كلها من نصيب الإناث إذا انفردن كما هو بيّن من الأحاديث النبوية والوقائع التي أقرّها عليه السلام كالتالي:
ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم “من ترك مالا فلورثته ومن ترك كَلاّ فإليّ” وفي لفظ “من ترك دَيْنا فإليّ ومن ترك مالاً فللوارث” إذن المال للورثة من ذوي الأرحام.
ــ قصة سعد ابن أبي وقاص حيث رُوِي أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: “إني قد بلغ مني الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلاّ ابنة لي، أ فأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: لا، فقلت: بالشطر (أي النصف) قال:” لا” قلت: “بالثلث،” قال: “الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس.” يدل هذا الحديث على أن الابنة تحوز ما زاد على النصف والثلثين، وذلك لا يكون إلاَّ على جهة الرد.
ـ حديث عمرو ابن شعيب عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ورّث بِنت المُلاَعِنة من أُمّها أي ورّثها جميع المال ولا يكون ذلك إلا بطريق الرَّدّ.
ـ حديث وَاثِلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “تحوز المرأة ميراث لقيطها وعتيقها والابن الذي لُوعِنت به”. وجه الدلالة هنا هو: أن النبي جعل ميراث ولد الملاعنة لأمه، وهذا يقتضي أن يكون جميع ميراثه لها، ولا يكون لها الجميع إلا بالردّ.
ـ ما روي أن امرأة قالت: يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية فماتت أمي وبقيت الجارية فقال (صلى الله عليه وسلم): (وجب أجرك وعادت اليك الجارية). فرجوع الجارية كلها إليها دليل على جواز الرد وإلا فليس لها إلا النصف فرضاً. إذ لولا ما قضى به الرسول لتم بيع الجارية وأخذ العصبة نصف ثمنها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=20657