* محمد عسيلة
في إطار الثقافة المغربية العريقة، ولدى المغاربة أينما حلوا وارتحلوا، يشغل الصيام موقعاً استثنائياً كآلية ورافعة لتنمية الروحانية والتقارب من الذات الإلهية. هذا الفعل التعبدي، ذو الجذور التصوفية والدينية العميقة، يُنظر إليه بشكل واعي أو غير واعٍ كمنهج لتزكية النفس وصولاً إلى الحقائق الروحانية الأسمى.
ففي ديار المهجر، تتجسد طقوس الصيام لدى مغاربة العالم في تلاقح بين التقاليد والأعراف والتصوف والموروث الديني، حيث تشكل المساجد المغربية، التي أسسها المهاجرون المغاربة في المجتمعات الأوروبية، منابر للسلام والاعتدال، والأخوة الإنسانية، موفرةً الإلهام والاطمئنان والتوجيه للمؤمنين من مختلف الأجناس كذلك خلال هذه الفترة الروحانية المميزة.
فضمن الإطار التصوفي المغربي، يُعتبر الصيام إحدى الوسائل الجوهرية لتحقيق الاتصال الإلهي وتنقية النفس من الرغبات الزائلة حيث يحظى الصائم بفرصة لتعميق صلته بالذات الإلهية من خلال الإمساك عن المآكل والمشارب، ومحاسبة النفس، ما يمكنه من تركيز ذهنه وقلبه على العبادة والتدبر. فالتصوف المغربي يروج لمفهوم أن الصيام لا يقتصر على الامتناع عن المقومات المادية فحسب، بل يُعد فرصة لتطهير القلب وتعزيز الوصل الإلهي، من خلال توجيه الانتباه نحو البعد الروحاني والتأمل في جوهر الوجود.
في السياق الثقافي المغربي، ولدى مغاربة العالم، يُعد الصيام عموداً فقرياً يخترق كافة الطبقات الاجتماعية والدينية، ممتداً عبر الأجيال. وبهذا تعكس ممارسات الصيام بين المغاربة الإيمان الراسخ والالتزام بقيم الصبر والفداء، والتنافس في الخير وتقديم المساعدات لذوي الحاجة سواء داخل الديار المحروسة او في الوطن الحبيب.
ويُعتبر المسجد، الذي أرسى دعائمه المهاجرون المغاربة مركزاً زاخراً وقبلة لتعزيز هذه القيم، بوصفه مكاناً يجمع العائلات لأداء الصلوات اليومية والاستماع إلى الدروس والمواعظ التي تنادي بالاعتدال والسلام.
إن المساجد المغربية تعتبر إذاً، منارات للسلام والوسطية، تحرص على ترويج قيم التسامح والتعايش السلمي بين أفراد المجتمع، ويقوم السادة الأئمة والخطباء المحليين والمقرئين والوعاظ الذين أرسلتهم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدور حيوي في توجيه المؤمنين نحو الوعي الديني والمسؤولية الاجتماعية، معززين دور المسجد المغربي كمحور للتوجيه الروحي والتعليم.
إن تجربة الصيام تمثل لدى مغاربة العالم إرثاً روحانياً غنياً يجسد انسجام القيم التصوفية والتقاليد الدينية، مؤدياً دوراً محورياً في تعزيز هذه القيم وتوجيه المؤمنين نحو السلام والاعتدال، فضلاً عن كونه ملاذاً للتأمل والتواصل الروحي، ومركزاً لتعزيز التعايش السلمي والتسامح ضمن المجتمعات الغربية.
ولا بد من التركيز وتسليط الضوء على الدور الطلائعي الذي تقوم به المساجد المغربية في المهجر من توفير سقف روحي لبقية المسلمين من دول عربية أخرى التحقت بألمانيا (كنموذج) وكذلك ملاذا لللاجئين والمعوزين للحصول على وجبات الإفطار وملء النفس بالطاقات الروحية في هذا الشهر الفضيل.
ونغتنم هذه المناسبة لنقف جميعا وقفة احترام وإجلال وترحم لهذه المنارات من مغاربة العالم من الاجيال الاولى والثانية التي أنفقت الغالي والنفيس لبناء هذه المساجد والتي سلمت مشعلها للاجيال القادمة الثالثة والقادمة بحول الله لتحافظ على العهد وتستمر الرحلة الروحية التي أبلى فيها المغاربة الأشاوس البلاء الحسن.
فالرحمات على أرواحكم الطاهرة يا فرسان المساجد والسلم والسلام في هذا الشهر المبارك السعيد. لن ولا ننسى فضل إنفاقكم وتضحياتكم لبناء هذه الصوامع والمآذن: مآذن مساجد الوسطية والاعتدال.
________
*أستاذ لمادة اللغة العربية والدين الاسلامي باللغة الالمانية – مسؤول على تكوينات أساتذة اللغات الاصلية بوزارة التعليم الولائية في ألمانيا ـ مستشار لدى نيابة التعليم في قضايا الجودة والتحصيل والمناهج
المصدر : https://dinpresse.net/?p=20924