محمد علي لعموري
عنوان أقتبسه للتو بعد مشاهدة لقطة مؤثرة لطفل لعب بطولة في فيلم درامي رائع عنوانه ” الثلاثة الأيام التالية” The next three days ، فيلم لا يهمني ذكره في هذا المقال إلا من خلال مشهد الطفل الذي هرب مع والديه إلى فنزويلا التي لا تربطها أية معاهدة مع الولايات المتحدة الأمريكية لتسليم المجرمين والمبحوث عنهم ، هناك حيث هربت تلك الأسرة التي اتهمت فيها الأم بقتل امرأة وهي بريئة، وحكم عليها بالمؤبد فقام زوجها بترتيب أمر تهريبها بطريقة ذكية ومحكمة.
الفيلم شاهدته عدة مرات لكن الذي حرك لدي هذه المرة الإحساس الإنساني لكتابة هذه السطور ، هو ذاك المشهد الرائع للإبن الذي سيكون ممتدا ظنا من أمه أنه نائم بعد أن هربا
واستقرا في منزل معين ، فما كان من أمر الطفل إلا أن قبل أمه على جبينها واستدار لينام.
مشهد يلخص وشائج العلاقة الوثيقة التي تجمع أي طفل بأمه، وتعبر عن حب ذفين لا ينقضي متى طال الزمان وكبر الولد ، لأن الإنسان من طبيعته أن يحتفظ بكل الذكريات البعيدة التي تعود لطفولة عاشها مع والديه ، وحفرت في ذاكرته ووجدانه كل معاني الإنتماء للأهل الذين سهروا على رعايته ومنحه كل الحب الذي كان يحتاج إليه.
المشهد إياه قد يمر عليه أي مشاهد للفيلم كما لو كان عابرا نظرا لتكاثف الأحداث المثيرة للفيلم ما بين الإعتقال والحكم وتوفر كل الأدلة التي تدين المتهمة/البريئة، ومحاولة الأم الإنتحار ، وتخطيط الأب لتهريب زوجته من المستشفى بعد تزوير نتائج تحليلها بكونها تعاني من داء السكري ليتم نقلها تحت الحراسة من السجن إلى المستشفى ، لتبدأ أحداث الهرب ، والمرور على حديقة الحيوانات لجلب الطفل، والتمكن بالتالي من اجتياز الحاجز المروري بإقالة رجل مسن لتمويه شرطة الطريق السيار، وكذلك حاجز المطار بعد أن
لعبت الزوجة على نفسية الشرطي الذي يطابق وجه المسافرين مع وجوه المبحوث عنهم التي تظهر على الحاسوب…الخ
كل تلك الأحداث لم ولن تمنع عن أي مشاهد لبيب يلتقط أدق التفاصيل من أي يتأثر لمشهد لقاء الطفل بأمه عبد بوابة حديقة الحيوانات وهو يلتزم الصمت دون أن ينبس ببنت شفة، ولعله كان معاتبا لها على غيابها عنه طول تلك الفترة بعد أن أخفى الأب عنه أمر اعتقالها.
والمشهد الثاني والأخير هو تقبيله لها بكل حب صادق حقيقي طفولي لا تشوبه شائبة، وهنا أود أن ألفت القارىء الكريم أن الطفولة المحترمة والمقدسة في بلاد الغرب تبدو من أساسيات بناء جيل المجتمع الغربي الذي يعرف كيف يتعامل مع الطفل منذ فترة الحمل حتى يصبح راشدا قادرا على الإعتناء بنفسه بعيدا عن جناحي الأبوين ، بعد أن يكونا قد أعداه لمهمة الرجل الصالح لمجتمعه ، وقل نفس الشيء بالنسبة للمرأة.
وحتى لا يفهم من العبارة أننا نستهلك نفس الخطاب الذكوري، فإن كلمة ” الرجل” كما تحيل عليها مقولة الكاتب الفرنسي جورج بوفون ” الرجل هو الأسلوب” إنما تعني الإنسان بجنسيه الأنثى والذكر.
أعود لدلالة عنوان هذا المقال وعلاقته بموضوع الفيلم وهل هناك من رابط؟ لأقول أنه في اللحظة التي تأثرت فيها بمشهد الطفل وهو يقبل أمه التي كان يفتقدها لفترة ، كانت روحي مشدودة لترجمة كل معاني هذه العاطفة الأمومية التي تجمع كل طفل ؛سواء كان ولدا أو بنتا؛ بأمه في علاقة لا يشعر بها إلا اثنان : أحدهما عاشها بالفعل وذاق معانيها، وآخر لم يعشها ولكنه يهفو لتجريبها والمرور من مسلكها الجميل والذي يعطي للحياة معنى.
هذا لا يعني أن الذين حرموا نعمة الأمومة والأبوة لن يكونوا سعداء ، لأنهم سيمرون من تجارب الفهم والتمثل والتماهي مع وضعيات كثيرة تعاش هنا وهناك في الحياة ، فتجعلهم يتدخلون كإنسانيين للمساهمة في فهم هذه الجزئية أو تلك من حياة الآباء والأمهات.
فمدير المدرسة أوأستاذها الأعزب حتى لو لم يكن له أولاد فلن تعوزه الخبرة والدربة في مجال التعليم أن يكتسب من التلاميذ/الأطفال كيف يعيش تلك العلاقة الأبوية كما الآباء لكن في دور تربوي يجعل إطار التربية مليئا بمعاني الحب والتقدير لسن الطفولة، للإسهام في إعداد شباب المستقبل القادر على حمل الرسالة بنفس المنهج العلمي الذي يصنع شخصية الطفل السليمة والمتزنة.
أطفالنا في بلادنا العربية ما أحوجهم إلى الكثير كي يكونوا بناة للوطن ووطنيين ومحبين لأهلهم وذويهم ، لأن التربية عندنا تنقصها النجاعة العلمية والعاطفة المتوازنة والمنضبطة لقواعد بناء الطفل السليم الخالي من الأمراض والعقد النفسية، ومن الحرمان الأبوي، ومن الهشاشة والفقر المدقع، ومن الظروف المحيطة المشحونة بالعنف الأسري…وكلها عوارض تدمر شخصية الطفل وتؤهله ليكون عنصرا فاشلا ضمن منظومة مختلة تعيد للأسف إنتاج عاهات لا تصلح إلا لتكون مادة للإشتعال وللإنفجار في وجه المجتمع، ولتصبح خريجة السجون والإصلاحيات بدل المعاهد والجامعات.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13439