محمد زاوي
2-انبعاث الكون
(…)
يخبرنا كتاب العلم بعمر الأرض والذي يبلغ أربعة مليارات ونصف المليار. نِصفُ مليار منها هو زمن الحياة، بما فيها حياة المفصليات والديناصورات والثدييات. فهذه الحيوات الثلاث تشكل نصف مليار فقط من عمر الأرض (4,5 مليار). الإنسان “تطوير من الثدييات” (سيتم الوقوف عند هذا المعنى في فصل لاحق)، وهو بذلك يشكل المرحلة المتأخرة من هذه الحيوات. عمره مقارنة مع العمر الأرضي قصير للغاية، فكيف يعيش معزولا عن تاريخ الأرض، بله عن تاريخ الكون؟!
لم يكن ليصبح للإنسان معنى لو بقيت الأرض جمرة محترقة، لو بقيت كتلة مشتعلة بالنشاط البركاني، قبل أن تتشكل قشرتها الأرضية وغلافها الجوي، وقبل أن يظهر ماؤها بفعل برودها. (الهواء) لم يكن هذا الإنسان “المتعالي” ليظهر على وجه الأرض لولا قابليات الحياة عليها، وأولها الأوكسيجين الذي لم تكن تنتجه أرض لا نبات فيها، أو لعلها كانت تنتجه بكميات ضئيلة جدا.
الإنسان والنبات أصل واحد، تراب يجمعهما ويربطهما بكون قديم، تراب يجعل منهما وحدة لتبادل المنافع -ثنائي الأوكسحين وثنائي أوكسيد الكربون-من خلال عمليتي التنفس والتركيب الضوئي.
(التراب) إن للإنسان علاقة بالتراب، والنبات وسط بينهما. وإن للإنسان علاقة بالكون، والتراب وسط بينهما. من هنا يستمد التراب أهميته في العلم بتاريخ الأرض والإنسان، وفي معرفة الإنسان بنفسه في كون عظيم شاسع.
تختصر التربة ثلاثة عوالم كبرى، تجمعها في مادة واحدة تستوعب فيها: الفضاء والهواء والحياة والماء. القشرة الأرضية مادتها الأولى، الفضاء أصلها الكوني، قبل أن يتسرب إليها الماء ويموج فيها الهواء، وقبل أن تختلط بمادة الحياة النباتية والحيوانية. إنها المكون الخامس من مكونات الكون: الفضاء، التراب، الهواء، الماء، النار.
وهي متعلقة علاقة علمية بها جميعا، صخرها من فضاء، متفاعلة مع الهواء، تسرِّب الماء وتمتلئ به (تتبلل به)، قابلة لحرارة النار حسب قواعد “الانتقال الحراري”.
هي النتيجة النهاية لتفاعل قوى الكون، تستوعب الإنسان وتستمد من مادته الحيوية والعضوية، تنزل عند الإنسان وترفعه، تأخذه منه وتعلقه بأصلها. المادة التي فيها قديمة، كما أن المادة التي في الإنسان قديمة.
(النار) النار التي تحرِق، تلك التي اكتشفها الإنسان فجعلت منه كائنا حيا عاقلا قادرا على التفكير (اللحم المطبوخ كان له دور كبير في تطوير الجهاز العصبي للإنسان)، تلك المادة الوسيلة التي اكتشفها الإنسان قبل (…)، تلك المادة المفيدة التي تؤلم، تعين وتحرِق؛ يجب البحث في تاريخها الجيولوجي، يجب معرفتها بركانا يلتهم الأرض، حمما تتقاذف في الكون، قبل معرفتها وسيلة للعيش والترهيب في عالم الغيب.
فلعلها تشغل حيزا من التركيب العضوي للإنسان، قبل أن تشغله في لاوعيه. فليس عبثا أن تستمر النار طقسا في الدين والسلوك، وليس عبثا أن تُبهِر المتفرجين بمختلف أعمارهم وأفكارهم (“النار في التحليل النفسي”، غاستون باشلار).
إن النار قدر طبيعي للإنسان، يشرق ويغرب عليه كوكبها كل يوم. إنه يعرفها نورا، لكنه نورُ نارٍ في حقيقته، نور نار صهرت مادة الأرض قبل أن تتعرض للبرودة، واستمرت بين ثنايا البرودة تنذر بالاشتعال بين الفينة والأخرى. لو اندثرت نهائيا، لما حافظت على قابليتها في الأرض. هي أمامنا وبين أيدينا جزء من كل، ظاهرة من ظواهر الكون القديمة.
إنها في المعرفة تحدّ كبير، اختبار للأجساد والأنفس، تحملها في الشهادة منجاة منها في الغيب. لا تخشاها أجسام العارفين، يتعرضون لها في الشاهدة، حتى لا تكون النجاة منها غاية لهم في الغيب. النار ظاهرة كونية، وجدت لها في الأجساد والأنفس والعرفان أصداء شتى.
(الفضاء) للأرض علاقة بالشمس والقمر، بكل الأجرام والكواكب؛ وكلها تجري ل”مستقر” وفي “مستقر” لها. علائقها لا تفرز ظواهر الطبيعة فحسب، بل ظواهرها وظواهر الإنسان أيضا.
الإنسان الذي يرى الشمس يأخذ منها، والإنسان الذي يرى القمر يأخذ منه. فإذا اكتملت الشمس في عينيه وبلغ حرُّها الشديد مبلغا في جسمه، كانت حاله غير ما تكون في مغيبها وانخفاض حرها.
وكذلك هو القمر، إذا اكتمل في العين كان له تأثير على الجسم والنفس غير الذي يكون له هلالا لا يكاد يُرى في سماء شاسعة.
بعض هذه الحقائق يثبته كتاب العلم، وبعضها غائب عن منطقه وربما لا يبحث فيه. فقد اغترب معظم العلم الحديث عن مقولات قديمة في “حكمة الشرق”، فذاب الكلي في الجزئي بدل أن يقع العكس.
إنها علاقات في الفلك يجب أن تُدرَس، لا في تأثيرها المتبادل في التجاذب والحرارة وغيرهما من التأثيرات المادية فحسب، وإنما في تأثيرها على الإنسان بما هو جزء من الكل الكوني.
الفضاء خَلق واحد، والإنسان خلق منه. وإذا كانت عناصر المجرة الواحدة تؤثر في بعضها البعض، فإن تأثير المجرات في بعضها البعض أمر وارد.
(الماء) يجب أن نبحث عن الدوافع التي جعلت الفيلسوف الإغريقي طاليس يقول إن “الماء هو أصل الحياة”. فهل هي فلسفة مشرقية عرفها طاليس في مصر، أم أنها تأمل عرفه طاليس بما وجده من حاجة الأحياء إلى ماء؟! وأيا كان أصل مقولة طاليس فإن القرآن قال بنفس معناها: “وجعلنا من الماء كل شيء حي”.
السؤال الغامض هنا والذي يحتاج إلى بحث هو: كيف كانت الخلية الحية من ماء؟ وليس هذا محل الإجابة عليه (انظرا الفصل اللاحق)، فنكتفي بمحاولة في الإجابة على سؤال: كيف يتحدد التاريخ الجيولوجي للماء؟ وبعده على سؤال: كيف يعطي هذا التاريخ الدين فلسفة كونية؟
كانت الأرض كتلة مشتعلة، وببرودها إلى درجةٍ ما ظهر الماء. الماء إذن متأخر في التاريخ الجيولوجي للأرض، فقد أطفأها ممهدا لشروط الحياة عليها. لو بقيت مشتعلة لاستحالت الحياة عليها، ولولا الماء لما تخلقت في أحشائه الخلايا الحية الأولى (الكائنات الحية الأولى). في الإنسان حقيقة من هذه الحقائق، تتأجج ناره فيُطفؤها بالماء، يقترف الخطيئة فيمحوها بالصلاة “كما تطفؤ الماء النار”.
النار حقيقة، الخطيئة (الكره، الغضب، الحقد، الحسد، الغيرة، الأوار الشهوي، الشره في الملذات، الخ) من الحياة، لكنه أقرب إلى الفناء منه إلى الحياة الطيبة. والفناء حياة، يطوي الفاسد ويُخرج الصالح من صلبه، يشعل النار في الأجسام لتعيش أرواحها.
يرى أصحاب العرفان (الصوفية) أن الإنسان حقيقة مركبة من الفضاء والنار والتراب والماء والهواء. فيها منها يعيش، وهو خلق منها كما تقدم. فكما هي تركيب في ذاته، يجب أن تكون كذلك في ذهنه وفلسفته.
إنه يستمد “حياته الطيبة” من الإلقاء بنفسها فيها مادة ومعنى، وبإدخال الكون في جوفه وهو فيه (أي أن الكون فيه كما قلنا). إنه بذلك ينبعث كما ينبعث الكون كل يوم، ينتج حقيقته على منوال الحقيقة الكونية.
وإذا كان هناك من يرفض هذا النوع من التأمل بذريعة تنافيه مع الإيمان بالله (أصل الأصول كلها)، فإن هؤلاء الرافضين سرعان ما يدافعون عن نجاعة الدين في الربط بين العبد ومولاه حتى لا يكون شذوذا عن العالم و”الوجود الطبيعي” والفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وإذا كان الأمر كذلك فلِم الاعتراض على منهج خاص في البحث: إيجاد الغيب في عالم من الانسجام الكوني؟!