الدكتور حمزة النهيري
يطلق الفكر الإسلامي و يراد به كل ما أنتجه العقل الإسلامي من العلوم في تاريخ الإسلام، و هو مصطلح لم يكن متداولا عند العلماء السابقين و لم تَجْرِ عباراتهم على و صف العلماء و الفقهاء بالمفكرين و إن كان العالم و الفقيه و كل مشتغل بالعلوم النظرية مفكرا بالقوة و الفعل.
و الفكر يُعَرَّفُ بأنه حركة النفس في المعقولات(1) ، فكل ما يُجَالُ فيه النظر فهو فكر، و ممارس هذا العمل العقلي يسمى مفكرا.
ويعتبر علم أصول الفقه من أهم ما أنتجه العقل الإسلامي منذ مجيئ الإسلام و انتشاره في الآفاق و ظهور حركة التأليف و العلم في العالم الإسلامي.
وقد عرف العلماء علم أصول الفقه بتعريفات عديدة لا تخرج عن تعريف الإمام ناصر الدين البيضاوي الشافعي 685ه(2)، حين عرفه بالقواعد العامة و الأدلة الإجمالية و كيفية الاستفادة منها و حال المستفيد(3)، فالحديث عن علم أصول الفقه هو حديث عن أدلة الفقه الإسلامي، أي القواعد التي تنظم الفقه الإسلامي من حيث البناء والأسس ومن حيث الاجتهاد و النظر، فأحكام الفقه الإسلامي يمكن تقسيمها إلى أحكام منصوص عليها ثابتة لا تتغير، وهي المعروفة في الدرس الأصولي بالمعلوم من الدين بالضرورة(4)، و إلى أحكام متغيرة و هي التي ينظر فيها الفقهاء و يستعملون قواعدهم الأصولية المختلفة في الاستنباطات الفقهية و النوازلية، و لذلك لا تسمى المسائل المجمع عليها و المتفق عليها مذهبا، بل المذهب هو اختيار الإمام المجتهد في المسائل المختلف فيها، فلا يقال مذهب مالك و الشافعي و جوب الصلاة و الحج لأنهما مسألتان منصوصتان متفق عليها لا خلاف فيهما بين الفقهاء قاطبة، إنما ينسب للمذهب ما ليس فيه قَطْعٌ كاختلافهم في حكم انتقاض الوضوء باللمس أو في حكم تقصير الصلوات في السفر و غير ذلك من مسائل الخلافيات التي تُلْفَى في كتب الخلاف العالي(5).
وقد امتزجت مصنفات علم أصول الفقه بعلوم شتى كالعقيدة و اللغة و النحو و المنطق و الفلسفة، و ذلك للتكامل المعرفي الذي يربط هذه العلوم كما هو مقرر في نظرية المعرفة الإسلامية القائمة على التكامل و التداخل.
ورغم أن هذا العلم موضوعه الأدلة و الأحكام(6) إلا أن المصنفات الأصولية لم تخل من الحديث عن العقائد نظرا لارتباط هذا العلم بالعقائد و الاجتهادات الكلامية التي كانت سائدة بين المفكرين الإسلاميين(7)، فكان استمداد هذا العلم من علوم أخرى معروف ومقرر، و أهمها علم الكلام الذي أسسه مفكروا المسلمين من المعتزلة والأشاعرة(8) والماتريدية و غيرهم، ولذلك اصطلح أهل هذا الفن على وجود خمسة مدارس أهمها مدرسة الجمهور ومدرسة الفقهاء الأحناف(9)، والمدرسة الأولى هي المدرسة التي يمثلها علماء المعتزلة والأشاعرة و الماتريدية و الظاهرية(10) وأصحاب المذاهب الفقهية(11)، والمدرسة الثانية هي مدرسة الفقهاء الأحناف وهي تمثل في مجملها طرائق مختلفة في النظر والاستدلال و الفكر.
أما المدارس الأخرى فهي التي تُعْنَى بتخريج الفروع على الأصول(12) أو الجمع بين طريقة المتكلمين و طريقة الفقهاء(13) أو مدرسة ربط أصول الفقه بالمقاصد الشرعية و هي الطريقة التي أبدع تحرير مسائلها الامام الشاطبي في كتابه الموافقات في أصول الشريعة.
و لأجل ذلك فإن المفكرين الإسلاميين معنيون بمعرفة علم أصول الفقه وجوبا و ضرورة، لأن هذا العلم هو قانون الاستدلال وضابطه، ولا يمكن أن يوجد مفكر إسلامي ليس له إلمام بهذا الفن.
ولذلك كان الفكر الإسلامي يضم حقولا معرفية أصيلة أنتجها علماء المسلمين من دونها لا يمكن الحديث عن فكر إسلامي.
وهذا المكون للفكر الإسلامي يضم ثلاثة علوم:
-علم أصول الفقه الذي يضبط قانون الاستدلال الفقهي و الكلامي.
-علم العقائد الذي يضبط أحكام المعتقد و قواعد الاعتقاد التي جرى الخلاف فيها بين المفكرين الإسلاميين.
-علم الأديان الذي يعد فرعا من فروع علم الكلام و العقيدة و هو اليوم يفرض نفسه في حقل المعارف الإنسانية نظرا لاختلاف الأديان و وجود حوارات و صراعات بين مختلف أهل الملل و النحل(14).
يخوض المفكرون الإسلاميون اليوم صراعات في مجالات معرفية متعددة، فقد ظهر في عصرنا الحديث عن موقف الإسلام من العلمانية و الحداثة والأيديولوجيا و الفكرانية(15) والتراث و فلسفة الدين والديموقراطية و الحرية..، وهي مفاهيم لا يمكن الخوض فيها دون معرفة تامة بعلم أصول الفقه الذي يضبط قانون الاستدلال وإجراءاته العملية.
و لذلك نجد أغلب المفكرين الإسلاميين و العلمانيين اليوم خاضوا في هذا العلم، نذكر على سبيل المثال أسماء بارزة خاضت في هذا العلم مما يدل على أصالة هذا العلم في الفكر الإسلامي المعاصر و أهميته البالغة في بناء المفاهيم المعاصرة.
(حسن حنفي(16)-طه عبد الرحمن- حسن الترابي(17)-حمدي ذويب(18)-جورج طرابيشي(19) – عبد المجيد الشرفي(20)- حسن حنفي- محمد عابد الجابري- فهمي جدعان(21)- محمد شحرور(22))و غيرهم كثيرلا يحصون كثرة(23).
يقول الدكتور الجابري متحدثا عن الإمام الشافعي باعتباره واضع علم أصول الفقه في تاريخ الفكر الإسلامي من خلال كتابه الرسالة: “إن القواعد التي وضعها الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي، عن قواعد المنهج التي وضعها ديكارت بالنسبة لتكوين الفكر الفرنسي خاصة، والعقلانية الأوروبية الحديثة عامة” وقد أطلق الجابري على هذه القواعد الأصولية اسم “العقلانية العربية الإسلامية”.”(24)
و لا يخفى على الباحثين في حقل المعارف الإسلامية أهمية كتاب الرسالة للشافعي (204ه) إذ يعتبر هذا الكتاب النص المؤسس لعلم أصول الفقه قبل أن يظهر الإمام الباقلاني (404ه) من خلال كتابه التقريب و الإرشاد والإمام أبو الحسين البصري( 436ه) من خلال كتاب المعتمد في أصول الفقه(25).
ومثل الجابري من المعاصرين الفيلسوف طه عبد الرحمن الذي خصص جزءا من كتبه و مشروعه الفكري للحديث عن أهمية أصول الفقه(26).
بل إن علم أصول الفقه كان محط اهتمام فقهاء القانون و كليات القانون، و لأجل ذلك كان عرفا أكاديميا تدريس مادة أصول الفقه لطلاب الدراسات القانونية.
و قد خصص كثير من العلماء كتبا أصولية يدرسها طلاب القانون، نذكر على سبيل المثال لا الحصر كتاب أصول الفقه للعلامة الأزهري أبو زهرة و كتاب علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب الخلاف وهما كتابان كانا و ما زالا محط اعتناء طلاب الدراسات القانونية في كليات الشريعة و القانون.
كما يمكن أن نذكر في هذا الصدد اعتناء الدراسات اللسانية بعلم أصول الفقه نظرا لارتباط هذا العلم الوثيق بعلوم اللغة(27).
كما لا يغيب عنا اعتناء المستشرقين بهذا العلم نظرا لأصالته في الفكر الإسلامي و نذكر على سبيل المثال أصول الفقه المحمدي للمستشرق الألماني جوزيف شاخت(28).
إن الحديث عن أصالة علم أصول الفقه في الفكر الإسلامي هو حديث عن مكانة هذا العلم في الدراسات الفكرية المعاصرة، فإن كان المتقدمون قد خاضوا في كتبهم الأصولية معارك كلامية دارت رحاها حول قواعد علم الكلام المعتزلي و الأشعري(29)، فقد أصبح تخصص الفكر الإسلامي يفرض على الباحثين في حقل الدراسات الأكاديمية المعاصرة الإلمام بهذا العلم المِلِّي الشريف(30)، فكان علم أصول الفقه علما أساسيا في هذا الحقل المعرفي فلا نستغرب ظهور دعوات إلى تجديد علم أصول الفقه من مختلف التيارات والطوائف(31).
لأجل ذلك أردت في هذا المقال المختصر الإلماع إلى أهمية هذا العلم و أصالته في الفكر الإسلامي-القديم و المعاصر- وضرورة الاعتناء به في مختلف التخصصات الشرعية، فإذا ادعى الغزالي في المستصفى بأن من لا يعرف علم المنطق فلا ثقة في علومه، فيمكن الادعاء بأن من لا يُلِمُّ بعلم أصول الفقه فلا وجه لتسميته بالمفكر الإسلامي ولا انتساب له لهذا الحقل المعرفي المعاصر.
وصلى الله و سلم على سيدنا و نبينا محمد و على ءاله و صحبه و سلم تسليما كثيرا.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ أنظر رسالة الحدود للتفتزاني ص 15.
(2) ـ منهاج الوصول ناصر الدين البيضاوي.
(3) ـ منهاج الوصول للبيضاوي.
(4) ـ أنظر حاشية التوضيح و التصحيح لمشكلات التنقيح للعلامة الطاهر ابن عاشور مبحث الإجماع.
(5) ـ كتب الخلاف العالي ككتاب المغني لابن قدامة و كتاب بداية المجتهد و نهاية المقتصد لأبي الوليد ابن رشد.
(6) ـ أنظر كلام صاحب المراقي الأحكام و الأدلة الموضوع في شرح البنود.
(7) ـ يظهر ذلك في الكلام عن التحسين و التقبيح العقليين و تكليف المعدوم و التكليف بالمحال و غيرها من المسائل الكلامية.
(8) ـ صدر لي تحقيق كتاب العلامة القاضي الديباجي كان حيا سنة478 الذي شرح به كتاب التمهيد للباقلاني و قد أوسعه مباحث أصولية رغم أنه مصنف في علم الكلام و العقيدة حيث شرح من خلاله كتاب الباقلاني العقدي المعروف بتمهيد الأوائل و تحرير الدلائل.
(9) ـ و للأحناف عبارات خاصة في تعاريفهم و من أهم كتبهم في أصول الفقه كتاب تقويم الأدلة في أصول الفقه للدبوسي 430ه.
(10) ـ الظاهرية منهج فقهي قائم على الحكم بظواهر النصوص التي تسع الأحكام ويعتمد نظرية معرفية يقينية قائمة على إنكار القياس المؤدي للظن في الاستنباط الفقهي و أهم رجالاته الامام ابن حزم الذي شهر المذهب، وهو مذهب سني معتمد في تاريخ المذاهب الفقهية السنية يحرم التقليد ويدعو إلى الاجتهاد.
(11) ـ أنظر الجامع لمسائل أصول الفقه الدكتورعبد الكريم النملة ص7.
(12) ـ مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للعلامة التلمساني المالكي.
(13) ـ و هي طريقة ابن السبكي في جمع الجوامع.
(14) ـ علم مقارنة الأديان من العلوم الأصيلة في تاريخ الفكر الإسلامي أنظركتاب الفكر الإسلامي في الرد على النصارى عبد المجيد الشرفي.
(15) ـ يطلق طه عبد الرحمن مصطلح الفكرانية على مفهوم الأيديولوجيا مقابلا به مصطلح عبد الله العروي.
(16) ـ خصص له كتابا ضخما سماه من النص إلى الواقع محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه مكون من جزأين(تكوين النص-و بنية النص).
(17) ـ له رسالة مشهورة في تجديد أصول الفقه.
(18) ـ مفكر علماني كتب في الاجماع حاول جاهدا إنكار حجية الاجماع متعسفا في استعمال الأدلة لخدمة أطروحته العلمانية.
(19) ـ من خلال مشروعه النقدي نقد نقد العقل العربي.
(20) ـ عبد المجيد الشرفي مفكر تونسي علماني له كتاب الفكر الإسلامي في الرد على النصارى وبحوث حول أصول الفقه أنظر الإسلام بين الرسالة والتاريخ الصادر عن دار الطليعة، و ثلاثية لبنات الصادرة عن دار المدار الإسلامي .
(21) ـ من خلال كتابه المهم أسس التقدم عند مفكري الإسلام و قد صدر بطبعات عديدة آخرها طبعة الشبكة العربية للأبحاث.
(22) ـ من الانتقادات الموجهة للمهندس محمد شحرور محاولاته التجديدية للفقه الإسلامي من خلال القفز على قواعد هذا العلم، و قد كتب في ذلك كتابه نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي فقه المرأة حيث ظهر في كتابه تسيب منهجه الاستدلالي الفوضوي و خوض في الفقه الاسلامي من غير دراية بأصوله مما شكل له تخبطا في المنهج الذي نتج عنه آراء فقهية شاذة.
(23) ـ و بحكم تخصصي في علم أصول الفقه من خلال الكتابة فيه و ممارسة التدريس لمتونه، فقد فتح عيني على دراسات فكرية نذكر منها سؤال الدين و الأخلاق في الغرب الإسلامي بين مشروعي طه عبد الرحمن و عبد الله الجابري و العقائدية في الحوار الإسلامي العلماني من خلال أعمال طه عبد الرحمن و عبد الله العروي و كتاب المنهج الأصولي للإمام المتكلم أبي بكر الباقلاني المالكي الأشعري.
(24) ـ أنظر تكوين العقل العربي 89ص .
(25) ـ وبعدهما ظهر البرهان للجويني و المستصفى للغزالي و هما يعتمدان على الباقلاني و قد تناولت في كتابي المنهج الاصولي مقالة ابن خلدون حول مدار كتب هذا العلم و قمت بنقدها لأنها اهملت و اغفلت كتاب التقريب و الارشاد للباقلاني و هو معتمد الجويني و الغزالي، صدر الكتاب عن دار الخزانة الأزهرية.
(26) ـ أنظر تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن وكتاب مداخل تجديد علم أصول الفقه عند طه عبد الرحمن للدكتور أحمد مونة.
(27) ـ نذكر في هذا الصدد كتاب دراسات تداولية في أصول الفقه -العموم و الخصوص- للباحث سعود الزدجالي الصادر عن دار الفارابي.
(28) ـ طبع في دار المدار الإسلامي كما أن للمستشرق المعاصر وائل حلاق دراسات جديدة في أصول الفقه تستحق الدراسة و النظر.
(29) ـ و قد جرت محاولات معاصرة إلى تخليص علم أصول الفقه من المباحث الكلامية العقدية في ثوبيها المعتزلي و الأشعري و نسبتها إلى مصطلح أهل السنة و الجماعة و هي محاولات متهافتة تفتقر إلى المنهجية العلمية لأنها أقصت و أغفلت نظرية التكامل المعرفي في العلوم مع محاولة الانتصار لعقائد أهل الحديث.
(30) ـ نسبة إلى الملة الإسلامية و هو مصطلح جرى تداوله عند الفيلسوف أبي الحسن العامري في كتابه الإعلام عن مناقب أهل الإسلام.
(31) ـ ظهرت دراسات عديدة تحاول بيان ماهية التجديد الأصولي و قد ناقشته في كتابي المنهج الأصولي للإمام الباقلاني .
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14807