“ثقافة الالتباس” في الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية
محمد الحيرش
كتاب المستعرب الألماني طوماس باور Thomas Bauer حول “ثقافة الالتباس” في الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية هو كتاب على درجة كبيرة من الموضوعية والأهمية. فهو من أعمق المرافعات الفكرية التي تدافع عن ثقافة التعدد والالتباس والتسامح في عديد من المجالات المعرفية التي خاض فيها قدماؤنا. بل إنه ينطلق من أن هذه الثقافة كانت مقبولة، وأن الاختلاف لم يكن من المسائل التي ينفر منها العلماء أو ينبذونها، وإنما يتعايشون معها ويواجهونها بمسؤولية اجتهادية واضحة، في حين لم يكن الأمر كذلك في الحضارة الإغرقية لأزمنة طويلة…
والحق أن موقف باور هذا تدعمه كثير من القرائن والمعطيات، وذلك إلى الحد الذي بات معه الاختلاف موضوعا لمعرفة نقدية انكبت على أصوله وأسبابه ومسوغاته في عديد من العلوم والمعارف، حيث انتشرت تلك المصنَّفات التي تندرج تحت باب “الإنصاف في مسائل الخلاف”، وهي مصنفات أخذت على عاتقها مدارسة أصول المسائل الاختلافية في علوم كثيرة لغوية أو عقدية أو تفسيرية أو غيرها.
عن هذا الكتاب الهام كان الأستاذ حسام الدين درويش من الجامعة الألمانية قد لاحظ خلال حوار معه [نشر مؤخرا بموقع مؤمنون بلا حدود] أن ثمة تقاطعات واردة بين دفاعه عن ثقافة التعدد في تمثلات القدماء للغة والأدب والفكر وبين ما كتبته عن التأويلية العربية القديمة، وبخاصة منها التأويلية القرآنية. وهذا جزء من الجواب:
إشارتك الأستاذ حسام إلى أطروحة توماس باور” حول “ثقافة الالتباس” في الإسلام إشارة لافتة ومثيرة للاهتمام… فعلا هناك بعض التقاطعات العامة بين هذه الأطروحة وبين ما دافعت عنه في أعمالي. توماس باور التفت بعمق إلى أهمية ثقافة التعدد والاختلاف والتسامح في عديد من مناحي الحضارة الإسلامية ومجالاتها. وقد توصل إلى ذلك بالاستناد إلى معرفة تاريخية وفيلولوجية دقيقة ساير من خلالها المجهودات الأصيلة للفيلولوجيا الألمانية في اشتغالها الموضوعي بالآثار الفكرية والأدبية والعلمية للإسلام على امتداد عصوره الكلاسيكية. في حين ركزت من جانبي على تجليات التعدد والاختلاف والتسامح في مجال مخصوص هو المجال المتعلق بالتفسيريات والتأويليات. وهنا لا بد من تدقيق، وهو أن كتاب باور ظهر في ألمانيا سنة 2011 في الوقت الذي كنتُ ناقشت فيه أطروحتي لنيل دكتوراه الدولة حول التأويلية القرآنية بإشراف أستاذنا الدكتور عبد السلام المسدي سنة 2009، وسلَّمتها في العام نفسه إلى دار الكتاب الجديد المتحدة لتصدر في 2012.
ولم أطلع على “ثقافة الالتباس” إلا بعد ذلك في بعض القراءات القليلة المنجزة عنه باللغة الفرنسية، ثم بعدما تُرجم إلى العربية سنة 2017؛ في حين لم يُترجم إلى الإنجليزية إلا بعد ذلك في 2021 وإلى الفرنسية في 2025.
إلى جانب هذا، يمكن القول كذلك بأن هناك تقاطعًا ضمنيًّا مرتبطًا بالتلقي، فباور قدَّم مرافعة قوية وغنية ضد التمثلات الغربية النمطية السائدة حول الإسلام؛ أي ضد تلكم التمثلات التي لا ترى في الحضارة الإسلامية سوى التنميط والأحادية والعنف كما غدت تتجسد لدى طوائف من الأصوليات الحديثة والمعاصرة. بينما استحضرت من جهتي المشتغلين العرب بالدراسات التفسيرية والقرآنية أساسًا، سواء أكانوا من التقليديين أم من الحداثيين، وأعدت النظر في عديد من مسلماتهم واعتقاداتهم حول المنجز التأويلي القديم الذي اختُزل إما إلى حالة من الجمود والاجترار كما هو الشأن عند معظم التقليديين، وإما إلى حالة من العقم والانحسار في منظور كثير من الحداثيين. فكان عليَّ أن أُبرز في مقابل ذلك أن العقل التأويلي المُستَتِر خَلْفَ خبرات القدماء الفهميَّة بالوحي هو عقل على درجة بالغة من الثراء والحيوية والانفتاح؛ لأنه تحدد عندهم لا بما هو عقل مغلق ومطابق أداتيًّا ومعياريًّا لذاته، وإنما بما هو عقل مِراسِيٌّ منفتح ظلت مساطرُه وآلياته تنمو وتغتني وتَتكوثَر كلما كان الوحي موضوعا لخبرة من الخبرات الفهمية المتواترة”.
المصدر: صفحة الكاتب على منصة فيسبوك
التعليقات