منتصر حمادة
تروم هذه المقالة التوقف عند بعض معالم التلقي النقدي العربي لأعمال المفكر وائل حلاق، وحلاق كما هو معلوم، مستشرق كندي من أصل فلسطيني، ولد في الناصرة في فلسطين عام 1955 من أسرة مسيحية، وتخرج في جامعة حيفا ثم انتقل إلى جامعة واشنطن للحصول على درجة الدكتوراه، ويعتبر من مؤرخي الفقه وأصوله في حقل الإسلاميات الأكاديمية في الغرب اليوم، حيث درس في جامعة ماكغيل في كندا بين عامي 1985 و2009، ثم انتقل إلى جامعة كولومبيا في نيويورك أستاذاً للإنسانيات والدراسات الإسلامية في قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا.
أصدر حلاق مجموعة من الكتب حول تاريخ الفقه الإسلامي وفلسفته وما يرتبط به من علوم بشكل عام، علاوة على الفلسفة الإسلامية، وإلى جانب ذلك النظرية السياسية، وقد جعلت منه أعماله الجادة مرجعاً غربياً لدارسي الفقه وأصوله ونظرياته.
ومع أن إصدارات حلاق تهم التراث الإسلامي بشكل عام، منذ ما بعد الحقبة النبوية حتى التراث المعاصر، من خلال اشتغاله على أعمال عدة باحثين ومفكرين، بالتعريف والعرض والنقد، فإن موضوع التلقي الإسلامي، نسبية إلى المجال الإسلامي بشكل عام، يهم المتلقي العربي حصراً، ولا يهم المتلقي التركي أو الفارسي أو المالاوي، من باب حصر مجال القراءة.
ومعلوم أن حلاق اشتهر بداية من خلال عدة أعمال ترجمت إلى العربية، وصدرت عن دار المدار البيروتية، تطرقت لقضايا الفقه والشريعة والمذاهب، وجاءت عناوينها كالتالي: “الفقه والنظريات الفقهية في الإسلام الكلاسيكي والوسيط” (1995)، “تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام” (1997)، و”السلطة المذهبية التقليد والتجديد في الفكر الإسلامي” (2001)، “نشأة الفقه الإسلامي وتطوره” (2005)، و”الدولة المستحيلة” (2012) و”قصور الاستشراق” (2019) و”إصلاح الحداثة” (2020).
في سياق استعرض بعض معالم التلقي العربي لأعمال وائل حلاق، نؤسّس هذه القراءة على محددين اثنين على الأقل: مُحدد السياق الزمني ومُحدد السياق الإيديولوجي.
محدد السياق الزمني
هناك سياق زمني، مفصلي في التحول النوعي الذي سنعاينه في تفاعل المتلقي العربي مع أعمال وائل حلاق، وعنوانه أحداث “الربيع العربي”، التي اندلعت ابتداءً من يناير2011، حيث سنعاين بداية صدور الأعمال التالية:
ــ كتاب “الدولة المستحيلة” الصادر بالإنجليزية في غضون 2012، وصدرت ترجمته إلى العربية في 2014؛ (أنظر: وائل حلاق، الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة والمأزق الأخلاقي للحداثة، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ط 1، 2014.)
ــ كتاب “قصور الاستشراق” الصادر بالإنجليزية في غضون 2018، وصدرت ترجمته إلى العربية في 2019؛ (أنظر: وائل حلاق، قصور الاستشراق، منهج في نقد العلم الحداثي، ترجمة: عمرو عثمان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط 1، 2019.)
ــ كتاب “إصلاح الحداثة” الصادر بالإنجليزية في غضون 2019، وصدرت ترجمته إلى العربية في 2020. (أنظر: وائل حلاق، إصلاح الحداثة، الأخلاق والإنسان الجديد في فلسفة طه عبد الرحمن، ترجمة عمرو عثمان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط 1، 2020.)
وبالنتيجة، وتفاعلاً مع عنوان المقالة، نتوقف عند بعض المعالم والإشارات المصاحبة لتفاعل المتلقي العربي مع هذه العناوين الثلاثة بالذات، من فرط التفاعلات التي عاينها على أرض الواقع المادي والرقمي، ومن فرط التحولات القادمة لاحقاً، وخاصة تلك المرتبطة بالكتاب الثالث سالف الذكر.
موازاة مع صدور “قصور الاستشراق” و”إصلاح الحداثة”، سوف تصدر لوائل حلاق ترجمة عملان اثنان: “الشريعة النظرية والممارسة والتحولات” (2018)، و”القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة”، (2019) حيث سنعاين تواضعاً في التفاعل البحثي والإعلامي مع العملين، باستثناء صدور بعض القصاصات الإخبارية، خاصة أننا إزاء إصدارات تذكرنا بأعمال حلاق الصادرة قبل أحداث “الربيع العربي”.
في أفق استحضار أهمية السياق الزمني على هامش قراءة التلقي العربي لأعمال وائل حلاق، وجب التذكير بأن كتابه الشهير في الساحة العربية، أي كتاب “الدولة المستحيلة”، تزامن صدوره مع تفاعلات أحداث “الربيع العربي”، والتي تميزت بحثياً بصدور عدة كتب تتطرق للأحداث من جهة، موازاة مع كتب اشتغلت على مفهوم أو سؤال الدولة، وسوف نتوقف عند الأعمال الصادرة في المجال الثقافي المغربي، على سبيل المثال لا الحصر، لأنه يصعب حصر مُجمل الأعمال الصادرة عن جميع الباحثين العرب، والتي تطرقت بالتحديد لمفهوم أو سؤال الدولة، مباشرة بعد اندلاع أحداث “الربيع العربي”، دون أن يُفيد ذلك أنه كنا أمام فورة أو تراكم كمي ونوعي في هذه الإصدارات، ولكن نجزم أن الساحة المغاربية والمغربية على الخصوص، تميزت بصدور أكبر نسبة من الأعمال التي تطرقت لهذا الموضوع، ونذكر منها الأعمال التالية:
ــ كتاب “روح الدين” لطه عبد الرحمن (2012)، وهو أول عمل في سلسلة “النظرية الائتمانية” [أو قل “النظرية الأخلاقية المؤسسة على مرجعية صوفية]، عند طه عبد الرحمن، حيث تناول المؤلف في هذا الكتاب قضايا فصل السياسة عن الدين، ومفاهيم “الحاكمية” و”ولاية الفقيه” والعمل الديني المؤسساتي وبدرجة أقل العمل الصوفي.
ــ كتاب “مفهوم الدولة الإسلامية” لامحمد جبرون (2014)، ويتطرق هذا الكتاب لمفهوم “الدولة الإسلامية” ليس انطلاقاً من تجارب معاصرة في دول أغلبية سكانها من المسلمين أو تعد نفسها منفذة لأسس الدولة الإسلامية، بل من خلال التأسيس الفكري لمفهوم الدولة الإسلامية تاريخياً.
ــ كتاب “دولة الفقهاء” لنبيل فازيو (2015)، وسعى الكاتب إلى الخروج عن نمطين من الكتابة لصيقان بما يُصطلح عليه “فقه السياسة الشرعية”: الأول ما وصفه بالقراءة الأرثوذوكسية لتراث فقه السياسة الشرعية، والتي غالباً ما اكتفت بعرض مضمون نصوص الفقهاء. أمّا النمط الثاني من الكتابة فتمثل في القراءة الاستشراقية لتراث الفقه السياسي. (أنظر عرض الباحث يونس رزين في الكتاب تحت عنوان: “من دولة الطوبى إلى دولة الاستبداد: “دولة الفقهاء” لنبيل فازيو”، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 19 مايو 2016.)
ــ كتاب “دولة الإسلام السياسي” لسعيد بنسعيد العلوي (2017)، حيث اشتغل المؤلف على مفهوم أو نظرية الدولة عند دعاة الإسلام السياسي، خلال مدة زمنية تقترب من ستة عقود ماضية، وتختلف في ثلاثة أنواع: نوع أول هو الكتاب الواحد الذي يتوزع فصولاً ومباحث، مع التوقف بالتحديد عند مُجمل كتابات المفكر الباكستاني أبي الأعلى المودودي، ونوع ثان عبارة عن جملة منشورات، وبيانات، وإعلانات، لا ونوع ثالث، هو ثمرة الطفرة النوعية التي أحدثها في عالم التواصل ظهور الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي.
والملاحظ أنه رغم كون هذه الأعمال الأربعة لطه عبد الرحمن وامحمد جبرون ونبيل فازيو وسعيد بنسعيد العلوي ــ دون الحديث عن باقي الأعمال الصادرة في المنطقة التي تطرقت لنفس الموضوع ــ صدرت عن أقلام عربية، وبلغة عربية، على الأقل بعد منعطف أحداث “الربيع العربي”، فإن التفاعل النقدي معها كان متواضعاً مع التفاعل الذي صاحب الكتاب الصادر أساساً عن مستشرق غربي، وبلغة إنجليزية، قبل ترجمته إلى اللغة العربية، ويمكن قراءة أسباب هذا التباين من وجهة نظرنا انطلاقاً من محددين اثنين على الأقل:
أ ــ يرتبط المحدد الأول بعنوان الكتاب المثير للانتباه، ومع أن قضية العناوين المثيرة مسألة جاري بها العمل في أغلب المجالات الثقافية، ولأنه غالباً ما تكون العناوين المثيرة باباً من أبواب التغطية على تواضع مضمون تلك العنوان، فإن الأمر كان مختلفاً مع عنوان “الدولة المستحيلة”، أو قل “الدولة الإسلامية المستحيلة”، لأن الإثارة التي تتضح في العنوان كانت مصاحبة بإثارة موازية ولو نسبية في مضامين الكتاب، وهذا ما تمت تزكيته عملياً من خلال المتابعات الإعلامية والبحثية التي تلت صدور الكتاب. (صدرت أولى المتابعات الإعلامية للكتاب في موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، وهمت النسخة الأصلية للكتاب، قبل صدور الترجمة العربية. أنظر: محمد حصحاص، “الدولة المستحيلة: الإسلام، والسياسة، وأزمة القيم الحداثية” لوائل بهجت حلاق، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 23 يناير 2014.)
ب ــ أما المحدد الثاني، فيرتبط بمجال الاشتغال البحثي لمؤلفه، أي الدراسات الاستشراقية، والتي تعج بعدة أدبيات اشتغلت على مفاهيم أثارت الكثير من النقاشات والتفاعلات، ومنها مفاهيم الدين والسلطة والسياسة والعلمانية والإصلاح … إلخ، مع التذكير بأن العديد من الأسماء العربية سبق لها أن اشتغلت على نفس مضامين “الدولة المستحيلة”، والمفاهيم سالفة الذكر.
محدد السياق الزمني
تتضح معالم السياق الإيديولوجي في تفاعل المتلقي أو قل الناقد العربي في معطيين اثنين على الأقل:
ــ يتعلق المعطى الأولى في مقارنة تفاعلنا الجمعي مع أعمال وائل حلاق الأخيرة، التي صدرت بعد أحداث “الربيع العربي”، أي ثلاثية “الدولة المستحيلة” و”قصور الاستشراق” و”إصلاح الحداثة”، مقارنة مع أعمال حلاق السابقة والتي صدرت قبل أحداث “الربيع العربي”، وخاصة الثلاثية التي تمت ترجمتها إلى العربية وصدرت عن دار المدار الإسلامي، أي ثلاثية: “تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام” و”السلطة المذهبية التقليد والتجديد في الفكر الإسلامي” و”نشأة الفقه الإسلامي وتطوره”. (يرى مدير دار الشبكة العربية للأبحاث والنشر أن وائل حلاق اشتغل “لعقود، في النقد الجذري للمدرسة الاستشراقية الكلاسيكية التي ترى أن الشريعة الإسلامية جامدة ومغلقة ولا مجال فيها للاجتهاد. واشتغل أيضاً في نقد المدرسة الفكرية العربية التي تحاول تحديث الشريعة لتكون متوافقة مع الحداثة”. أنظر: نواف القديمي عن “قصور” وائل حلاق: فضيحة تُعرّينا، موقع “المدن”، 27 نوفمبر 2018.)
ــ يتعلق المعطى الثاني بالتوقف عند أعمال حلاق التي صدرت بعد أحداث “الربيع العربي”، وعقد مقارنات حول طبيعة التفاعل معها.
فمع المعطى الأول مثلاً، ثمة شبه غياب تفاعلي، سواء كان التفاعل تعريفياً أو نقدياً، مع أعمال حلاق السابقة، مقارنة مع التفاعل الكبير مع أعماله اللاحقة، أي أعمال ما بعد “الربيع العربي”، بل لا مجال للمقارنة، رغم نوعية الأعمال السابقة، ومعها نوعية الأعمال اللاحقة بمقتضى العدة النظرية التي يتميز بها حلاق. (على هامش مائدة مستديرة نظمتها الوحدة العلمية لمجلة “الإحياء”، والتابعة لمؤسسة الرابطة المحمدية للعلماء [مؤسسة دينية رسمية]، في موضوع: “ملاحظات حول النقد العربي للفكر الإستشراقي” لوائل حلاق، اعتبر الباحث محمد إقبال عروي، أن صاحب “قصور الاستشراق” “يتمتع بإحاطة معرفية جبارة بعلوم الشريعة وحضارة المسلمين”. أنظر: خالد رابح، تقرير حول ملتقى الإحياء السادس عشر: ملاحظات حول النقد العربي للفكر الإستشراقي، موقع “الرابطة، 1 فبراير 2020، على موقع الرابطة)
وبشهادة العديد من النقاد في المنطقة، وسبق لرضوان السيد أن صنّفَ وائل حلاق في خانة “الجيل الثالث من المستشرقين في القارة الأمريكية”، من المتخصصين في الدراسات الإسلامية، والتراث الإسلامي بشكل عام، من الذين تصدوا معرفياً للخطاب البحثي والسياسي والإعلامي المنخرط في اختزال صورة الإسلام والمسلمين، حيث جاءت الهجمة الأولى من خلال منعطف بحثي تاريخي، عنوانه “الاستشراق” لإدوارد سعيد، مع تسليط الضوء النقدي على لائحة من المستشرقين الغربيين، والأمريكيين على وجه الخصوص، يتقدمهم برنارد لويس؛ وجاءت الهجمة الثانية مباشرة بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001، حيث اختلط بوضوح لدى المراجعين الجدد والإعلاميين والاستراتيجيين الحديث الديني (طبيعة الإسلام والقرآن) بالحديث السياسي والإعلامي.
أما مع المعطى الثاني، فلا مجال للمقارنة بين تفاعل المتلقي/ الناقد العربي مع كتاب “الدولة المستحيلة” و”قصور الاستشراق”، حيث عاينا فورة في التفاعل مع الأول، مقابل تواضع جلي في التفاعل مع الثاني، في انتظار التفاعل الكبير والمتوقع مع الكتاب الثالث، أي “إصلاح الحداثة”، رغم أن “قصور الاستراق” مثلاً، جاء في سياق فورة الأعمال الاستشراقية الصادرة في المجال الثقافي الأمريكي، كما خلُصَ إلى ذلك رضوان السيد بمقتضى متابعاته للإصدارات الاستشراقية من جهة، واشتغاله منذ عقود على هذا الحقل، وخاصة الحقل الاستشراقي الألماني (دار المدار الإسلامي، بيروت، 2016)، حيث اعتبر في هذا السياق أن “النقاش الدائر في الولايات المتحدة في الأكاديميات بشأن الإسلام شديد الحيوية والدلالات، وقد بدأت القراءات النظرية تخرج من ظل إدوارد سعيد بالسلب أو بالإيجاب؛ لكن المسائل السياسية ما تزال تلعب دوراً مهماً؛ وبخاصة بين الدارسين من أصول إسلامية، والآخرين من أصول يهودية. ولعله مما يشير إلى تعقيد المسألة وتركيبها كتاب “قصور الاستشراق”. فأبرز الظواهر الاستمرار في تفكيك خطاب “العلموية” الغربية، وتشكل الرؤية إلى القرآن والإسلام أحد جوانب الاهتمام لهذه الناحية؛ وهكذا فإن التحدي عام ولا يقتصر على مسألة الدراسات الإسلامية”. (رضوان السيد، الصراع على دراسات الإسلام في أمريكا، مرجع سابق، ص 399)
للاشتغال أكثر على بعض أسباب هذا التباين في التفاعل مع أعمال وائل حلاق، نتوقف عند بعض الملاحظات السابقة واللاحقة بخصوص التعامل مع ثلاثة كتب بالتحديد: “الدولة المستحيلة” و”قصور الاستشراق” و”إصلاح الحداثة”.
“الدولة المستحيلة” وفورة المتابعات البحثية والإعلامية
نبدأ بالكتاب الأول، أي “الدولة المستحيلة”، وتقوم الفكرة الأساسية لهذا العمل على [فرضية مفادها] أن مفهوم “الدولة الإسلامية” مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة، كما تلخصه عدة إشارات صريحة في الكتاب، نذكر منها الإشارة التي جاء فيها أن “تاريخ الدولة هو الدولة، إذ إنه لا يجد في الدولة ما يمكن أن يهرب من الزمنية. فهي منتج تاريخي في موقع محدد ذي ثقافة محددة، ألا وهو أوربا، الوسطى والأطلسية، وليس أمريكا الجنوبية أو إفريقيا أو آسيا”. (وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص 66)
سوف تكون هذه الأرضية التي سَطر معالمها وائل حلاق انطلاقاً من مرجعيته الاستشراقية، في صلب المتابعات البحثية والإعلامية التي صاحبت صدور الكتاب، ولو إن التفاعل الصادر عن الأقلام الإسلامية الحركية، كان لافتاً مقارنة مع التفاعل الصادر عن باقي المرجعيات، بما فيها المرجعية السلفية، وإن كان التفاعل الإسلامي الحركي النقدي أمراً متوقعاً، إذا استحضرنا غلَبَة الهاجس السياسي في الجهاز المفاهيمي الإسلامي الحركي، مقارنة مع باقي المرجعيات الدينية الإيديولوجية، أو قل باقي أنماط التديّن، سواء تعلق الأمر بالتديّن السلفي الذي يُركز على العقائد والوعظ أو التديّن الصوفي الذي يركز على العرفان والذكر.
وليس صدفة أن تفاعل الأقلام الإسلامية الحركية مع كتاب “قصور الاستشراق” كان متواضعاً مقارنة مع تفاعل الأقلام ذاتها مع كتاب “الدولة المستحيلة”، ما دام كتاب “قصور الاستشراق” يشتغل على قضايا معرفية، تكاد تصنف في خانة “الترف الفكري” عند أتباع المرجعية الإسلامية الحركية بشكل عام، وبعيدة عن هواجس السلطة والسياسة والدولة وباقي المفاهيم التي يدور في فلكها الأداء الإعلامي والبحثي للخطاب الإسلامي الحركي.
نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار أن المقدمات النظرية الفكرية لكتاب “الدولة المستحيلة”، تتقاطع مع الأرضية المفاهيمية للمشروع الإسلامي الحركي، كما خلُصت إلى ذلك عدة قراءات نقدية، ونتوقف هنا عند ثلاث إشارات:
أ ـــ إشارة أولى للباحث التونسي أنس الطريقي، مفادها أنه “يمكن اختزال رؤية وائل حلاق للكون، وللإنسان في “إيمان وائل حلاق بمفهوم الحاكمية بمعناه المشترك عند دعاة الإسلام السياسي، من منظریه الإيديولوجيين (البناء والمودودي، وقطب) إلى تمثيلاته الخصوصية الوطنية (عبد السلام ياسين، يوسف القرضاوي، راشد الغنوشي، حسن الترابي..)، أي بوصفه تفسيراً للكون”؛ (أنس الطريقي، “الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، مجلة ألباب، تصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، العدد 5، ربيع 2015، ص 121)
ب ــ إشارة ثانية للباحث المغربي احمد جبرون، مفادها أنه “على عكس ما هو متوقع من كاتب مقيم في الغرب، وغارق في تقاليد الحداثة المعرفية، جاءت آراء وائل حلاق منحازة إلى نموذج الحكم الإسلامية، وداعية إليه، لكن ليس من منطلق التجربة التاريخية الخاصة للعالم العربي، والتي تتضح بالاستبداد، وطغيان اللاعقل على العقل، والسطوة الغربية العسكرية والتقنية، بل من منطلق البؤس الأخلاقي للحداثة الغربية، وفراغها الروحي المهدد للإنسانية”؛ (امحمد جبرون، الدولة الإسلامية بين الإمكان والاستحالة، ملف “قراءات في كتب. “الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” لوائل حلاق، 26 نوفمبر 2015، ص 27، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث)
ج ــ وأخيراً، إشارة ثالثة للباحث الفلسطيني خالد الحروب، مفادها أن “وائل حلاق لا يقول ما يقوله سيد قطب، مباشرة ونصاً وتنظيراً. لكن أي قراءة “أصولية” ومتأنية لكتابه تصل بالقارئ إلى نفس المحطة “القطبية”. غير أن أهمية الكتاب، وهي مفارقة كبيرة، تأتي من برهنته على أمر لم يكن احد أهدافه: وهو استحالة خلط الدين بالسياسة. الكتاب يثبت أنه لا مكان لشيء اسمه دولة إسلامية في الزمن الحديث، لأن الدولة الحديثة تتعارض مع الحكم الإسلامي”. (خالد الحروب، سيد قطب متخفياً في كتاب “استحالة الدولة الإسلامية”، موقع “قنطرة” الألماني، 19 أبريل 2018)
“قصور الاستشراق” وتواضع المتابعة البحثية والإعلامية
نأتي للكتاب الثاني، أي “قصور الاستشراق”، حيث كانت قاعدة “لا قياس مع وجود الفارق” من نتائج المقارنات بين التفاعل البحثي الإعلامي للخطاب الإيديولوجي العربي مع “الدولة المستحيلة” و”قصور الاستشراق”، لأن الغلبة في التفاعل كانت لصالح الكتاب الأول مقارنة مع الكتاب الثاني، وهي الملاحظة نفسها التي خلُصَ إليها الباحث السوري محمد تركي الربيعو، عندما اعتبر أنه منذ صدور “قصور الاستشراق”، نلاحظ مسألة قد تبدو محيرة بعض الشيء، إذا ما وضعنا في حسباننا الأهمية التي حظيت بها كتب حلاق في عالمنا العربي. مكمن الحيرة أو الاستفسار هنا، هو أن هذا الكتاب، رغم انتظار القراء والباحثين نسخته العربية، مع ذلك لا نعثر ليومنا هذا على قراءات ونقاشات واسعة حوله مقارنة بكتاب “الدولة المستحيلة” الذي غدا ساحة للجدال والخلاف حول دور الدولة، كما بدا لبعض الباحثين والمثقفين؛ خاصة من أبناء مدرسة ما بعد الاستعمار بمثابة كتاب مقدس، يرفعونه لمواجهة أو تكفير أي سردية أخرى عن الدولة والحداثة” (أنظر: محمد تركي الربيعو، وائل حلاق في قصور الاستشراق: إعادة الاعتبار لصور ودور المستشرق، القدس العربي، لندن، 19 أبريل 2019)، وإن كنا نستثني إحدى المتابعات النقدية التي احتضنتها مؤسسة دينية في المغرب، والحديث محاضرة ألقاها الباحث محمد الناصري في موضوع “ملاحظات حول النقد العربي للفكر الاستشراقي” انطلاقاً من كتاب “قصور الاستشراق”، بمقر الرابطة الرئيسي بالرباط، في مطلع يناير 2020. نتوقف هنا عند إشارتين ذات صلة بالتفاعلات التي تلت المحاضرة:
“مع الإقرار بأن صاحب “الدولة المستحيلة” يتمتع بإحاطة معرفية جبارة بعلوم الشريعة وحضارة المسلمين، غير أنه يكشف أن بعض المعطيات تحتاج إلى استدراك، مدللاً على ذلك بنموذج علمي وآخر حضاري:
أ ــ يقول إن الشريعة اعتمدت في تكاملها على الأعراف والعادات المحلية، وهذه العبارة تحتاج إلى تهذيب، إذ لعل الأصوب الأسلم أن يقال إن من بين خصائص الشريعة أنها راعت مجموعة من الأعراف التي لا تخالف أصول الدين وقيمه.
ب ــ ثمة نزعة تعميمية لوائل حلاق بالقول بأن المجتمعات العربية الإسلامية مجتمعات حديثة بل وحداثية؛ لأن هذه المجتمعات لن تكون كذلك إلا إذا أحدثت تحولاً عميقاً يصل إلى درجة القطيعة على مستوى تصوراتها وتمثلاتها ونظام معرفتها بين العقل والنقل والعرفان، وعلى مستوى مرجعيتها بين الوضعي والمتعالي، وعلى مستوى بنياتها ومؤسساتها بين العقلانية والوظيفية والإعتبارية من جهة وبين الشخصانية من جهة أخرى، وكذا على مستوى ممارساتها الاجتماعية ومنظومة قيمها بين الفردي والجماعي.. دون أن ينفي ذلك إمكانية أيلولتها مجتمعات متقدمة وعصرية انطلاقاً من مرجعيتها وتجربتها التاريخية والحضارية الخاصة في انفتاح على الكسب الكوني في شتى مظانه”. (أنظر التقرير الكامل لمضامين المحاضرة والتفاعلات معها، والذي حرره خالد رابح، تقرير حول ملتقى الإحياء السادس عشر: ملاحظات حول النقد العربي للفكر الإستشراقي، مرجع سابق)
والكتاب كما هو جلي بالنسبة لمتتبعي أعمال حلاق، يُجسد لبنة ثانية في مشروع “نقد الحداثة” الذي انخرط فيه وائل حلاق، مع الاستعانة بأدوات معرفية من عدة مرجعيات، غربية وشرقية، كما سيتضح ذلك مع كتابه الثالث في هذه السلسلة، أي “إصلاح الحداثة”، من خلال التعريف الأول بمضامين قراءة إسلامية انخرطت في نقد وتقويم الحداثة من منظور خطاب “أسلمة الحداثة”.
ميزة كتاب “قصور الاستشراق” أنه يُعيد النقاش مرة أخرى حول مضامين كتاب “الاستشراق” الذي جعل إسم إدوارد سعيد يُصبح مرجعاً عالمياً كلما تعلق الأمر بالخوض في موضوع الدراسات الاستشراقية، ومعلوم أن التفاعلات العالمية، ومنها التفاعلات الإقليمية، العربية والإسلامية، مع كتاب “الاستشراق”، تفرعت على عدة اتجاهات بين التأييد أو الاعتراض، على غرار التعامل مع الأعمال الكلاسيكية التاريخية، وقد اختار وائل حلاق أن ينتصر للخيار النقدي، من خلال استعراض مجموعة ملاحظات نقدية حول مضامين عمل إدوار سعيد سالف الذكر. (هذا نموذج تطبيقي في المقاربة المعرفية لكتاب “قصور الاستشراق”، والتي تأخذ مسافة من المقاربة الإيديولوجية الاختزالية، بصرف النظر عن طبيعة المرجعية الإيديولوجية، وجاء فيها أن “كون سعيد محسوباً على النطاق الثقافي للمنظومة الغربية لا يلغي تقدير موقفه وكتابه الذي وجّه صفعة لذلك التاريخ الأكاديمي، ليس لإسقاط منجزات هذا التاريخ، ولكن لفضح انحيازه المسرف ضد إنسان الشرق وحضارته، وتحويله إلى نسق مادّة لا حركة إنسان، ونهضة روح وعمران، وهو المدخل الذي جعل لكتاب حلّاق هذا الحضور الجديد، والذي يمثّل إضافةً تعني بالتأكيد نجاح إدوارد سعيد لا فشله”. أنظر: مهنا الحبيل، هل أخطأ وائل حلّاق في حق إدوارد سعيد؟، موقع “العربي”، لندن، 3 ديسمبر 2019)
إلا أن هذا الخيار، والمؤسَّس عند وائل حلاق على أرضية معرفية، وإن كان نقاشاً خاصاً أساساً بالمجال الثقافي الغربي، وخاصة المجال الثقافي الأمريكي ــ الأوربي، ويهم بالتحديد النقاشات البحثية النخبوية، فإن العمل ذاته، والموجه هذه المرة للمتلقي العربي، مختلف في التفاعل والاستجابة، من فرط الفوارق في التناول البحثي والإعلامي بين التلقي العربي والتلقي الغربي من جهة، ومن فرط دلالات بعض الرسائل المشوشة على صورة إدوارد سعيد لدى المخيال العربي الإسلامي مقارنة مع الصورة ذاتها لدى المخيال الغربي، وبيان ذلك كالتالي:
أ ــ لقد اشتهر إسم إدوارد سعيد في التداول الغربي من خلال اشتغاله على ثلاثة مجالات على الأقل: الاشتغال البحثي النوعي على موضوع الدراسات الاستشراقية، فكانت إحدى نتائج ذلك أن إسمه أصبح لصيقاً كونياً بمصطلح الاستشراق. (لاحظ حميد دباشي أن الراحل إدوارد سعيد مضى وعيه في “الاستشراق بعيداً نحو شرح شروط السيطرة والتمثيل بالنيابة بدءًا من الحقبة الكولونيالية الكلاسيكي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولاً إلى الوقت الذي كتب فيه دراسته المفصلية في أواسط السبعينات”، مضيفاً أن بعض تصورات سعيد “لا زالت شرعية ومؤثرة، ويتحتم اليوم تحديث ملاحظات إدوارد سعيد وتفصيل مضامينها بالنظر إلى رمزية الأحداث المفصلية التي أدت إلى متلازمة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر”. أنظر: حميد دباشي، ما بعد الاستشراق، مرجع سابق، ص 16. ويُضيف دباشي في موقع آخر من الكتاب: “أعتبر إدوارد سعيد بما قدمه في عالم الأفكار والطموحات واحدة من المفكرين الثوريين ونظيرة لتشي غيفارا وفرانز فانون ومالكوم إكس وعلي شريعتي في ميدان الحروب التاريخية: لقد ترجم الحدود البلدية والبدائية لقضية خاصة في فلسطين بالنسبة لسعيد، إلى لغة عمومية تعبر عن كفاح عالمي أوسع أفقأ بكثير”. حميد دباشي، ما بعد الاستشراق، مرجع سابق، ص 240)
اشتهر إسم إدوارد سعيد أيضاً في مجال النقد الموسيقي، وهذه خاصة غائبة عن التناول البحثي في الساحة العربية، إلا إن استثنينا بعض الأعمال النادرة التي سلطت الضوء عليها، لعل أشهرها ما كانت تقوم به مؤسسة دار الآداب البيروتية (أنظر في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر: إدوارد سعيد ودانيال بارنبويم، نظائر ومفارقات، استكشافات في الموسيقى والمجتمع، تنقيح وتقديم آرا غوزيليمان، ترجمة: نائلة قلقيلي حجازي، دار الآداب، بيروت، ط 1، 2005)؛ وأخيراً، اشتهر أيضاً بالدفاع الصريح عن القضية الفلسطينية ومعها القضايا العربية الإسلامية في عقر المؤسسات الأكاديمية الأمريكية، وخاصة في جامعة كولومبيا حيث كان يُدرس حينه طيلة عقود، وليس صدفة أنه مباشرة بعد إعلان وفاة إدوارد سعيد، أعربت بعض الأصوات الاستشراقية المتعصبة عن سعادتها لرحيل سعيد، بمقتضى الإزعاج النظري والميداني الذي كانت تجسده مواقف إدوارد سعيد في الساحة العلمية والإعلامية.
ب ــ أما في المنطقة العربية، وخاصة في المشرق العربي، فإن شهرة سعيد كانت مرتبطة أكثر بالدفاع عن القضية الفلسطينية والقضايا العربية الإسلامية، أما شهرته في موضوع نقد الاستشراق، فقد بقيت متداولة لدى النخبة البحثية والإعلامية، بينما الحديث عن إدوارد سعيد والنقد الفني أو النقد الموسيقي، فلا نجده إلا عند بضعة باحثين، بتعبير آخر، التلقي العربي لأعمال إدوارد سعيد، يتقاطع مع التلقي الغربي، خاصة عند النخبة البحثية، ولكن الأمر مختلف مع مخيال الرأي العام، في المجال العربي والمجال الغربي، حيث بقيت صورة سعيد في المخيال العربي الإسلامي مجسدة في دفاعه العلمي عن القضية الفلسطينية والقضايا العربية الإسلامية، ولا يمكن لهذا المخيال أن يغيب عن ذهنه، الصورة الشهيرة لإدوارد سعيد إلى جانب أطفال الحجارة في فلسطين، وهو يرمي بحجر ضد القوات الإسرائيلية، وغيرها من الصور الراسخة في هذا المخيال. (أنظر في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر: إدوارد سعيد، الثقافة والمقاومة، حاوره: دايفيد بارساميان، ترجمة: علاء الدين أبو زينة، دار الآداب، بيروت، ط 1، 2006؛ إدوارد سعيد، الإسلام والغرب، تحرير سعيد البرغوثي، تقديم فيصل دراج، دار كنعان، دمشق، ط 1، 2014)
وكما لاحظ ذلك هاشم صالح، في مقدمة عمل جماعي لمفكرين غربيين بعنوان “الاستشراق بين دعاته ومعارضيه”، فإنه “لا يمكن فهم موقف إدوارد سعيد [في “الاستشراق”] إن لم نموضعه ضمن إطار الصراع العربي ــ الإسرائيلي والفلسطيني ــ الإسرائيلي أيضاً”، مضيفاً في سياق الإحالة تبعات هذا الصراع أنه “لا نستطيع أن نلوم إدوارد سعيد على موقفه أو بالأحرى رد فعله المتحفظ بل المعادي للاستشراق. الشيء الذي يمكننا أن نلومه عليه هو التطرف في التطبيق، أي اعتبار المعرفة مجرد خادم مطيع للسلطة، ونفي أي استقلالية ذاتية عنها، حتى لو كانت استقلالية نسبية”. (الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، برنارد لويس وآخرون، مرجع سابق، ص 12)
وواضح أن هذه الجزئيات كانت غائبة في تناول وائل حلاق لمشروع إدوارد سعيد في قراءة الاستشراق، وحتى الإشارات التي تضمنها كتاب “قصور الاستشراق” حول القضية الفلسطينية وتعامل الحداثة الغربية، صرفت النظر عن أي إحالات على مواقف صاحب “الاستشراق” من الملف، وهو فلسطيني الأصل، على غرار وائل حلاق.
“إصلاح الحداثة” والتفاعلات المنتظرة
نأتي للتفاعل العربي مع الكتاب الثالث، أي “إصلاح الحداثة”، ولو إنه حديث الإصدار، والكتاب، الذي تابعنا بعض حيثيات وأسباب الاشتغال عليه منذ بضع سنين، وسبقته إشارة إلى أعمال طه عبد الرحمن في كتاب “الدولة المستحيلة”، يُركز على قضية “الأخلاق”؛ إذ “يخيطها عبد الرحمن في نسيج اشتباكه مع المشكلات المركزية التي ترزح تحتها الحداثة في الغرب والبلاد الإسلامية على السواء، بالنظر إلى الغرب وبلاد الإسلام لا باعتبارها دالات جغرافية، وإنما تشكلات معرفية بالدرجة الأولى”. (وائل حلاق، إصلاح الحداثة، مرجع سابق، ص 10)
ميزة كتاب “إصلاح الحداثة” أنه في سياق اشتغاله على نقد الحداثة، كما عاينا ذلك مع “الدولة المستحيلة” و”قصور الاستشراق”، مع توظيف بعض آراء طه عبد الرحمن المرتبطة بهذا المشروع بالذات، أي نقد الحداثة، ما دامت تخدم الأفق النقدي لوائل حلاق، مع عدم الاشتغال على آراء أخرى لصاحب “روح الحداثة”، لأن وائل حلاق اعتبر أنه غير معني بتسليط الضوء عليها، على الأقل في هذا الكتاب، بل كان المؤلف واضحاً في معرض تقديم الكتاب، عندما أكد أن هذا العمل لا يتضمن أي وقفات نقدية مع أعمال صاحب “سؤال الأخلاق”، بقدر ما يتضمن وقفات مع بعض رؤى طه التي يرى صاحب “إصلاح الحداثة”، أنها تصب في خدمة مشروعه العلمي الذي يروم تقويم الخطاب الحداثي.
في سياق استشراف التلقي المستقبلي للقارئ العربي الإسلامي مع كتاب وائل حلاق حول طه عبد الرحمن، نزعم أنه لن يخرج عن تبني الكتاب وترويج مضامينه من طرف الأقلام البحثية والإعلامية المحسوبة على المرجعية الإسلامية الحركية بالتحديد، على الأقل في الأمور التي يتفق فيه وائل حلاق مع طه عبد الرحمن، وفي مقدمتها الاتفاق على توجيه النقد الأخلاقي إلى المشروع الحداثي.
ولكي نظفر ببعض الأسباب التي تفسر هذا الاحتفال الإسلامي الحركي بكتاب وائل حلاق حول طه عبد الرحمن، فإننا نجد محددات، أهمها تلك التي ترتبط بالجهاز المفاهيمي للمشروع الإسلامي الحركي، ونوجزها في مُحددين اثنين على الأقل: مُحدد “العوز المعرفي” عند المشروع الإسلامي الحركي، ومُحدد “أسلمة المعرفة”.
ومعلوم أن شعار “أسلمة الحداثة” باب من أبواب مشروع “أسلمة المعرفة” الذي تراجع إشعاعه النظري خلال العقدين الأخيرين، رغم إطلاق مجموعة مراكز بحثية في المنقطة، تروم رد الاعتبار للمشروع، ولو من باب إيديولوجي صرف (إخواني وسلفي وهابي على الخصوص).
وحاصل الكلام، أن التلقي العربي لأعمال المستشرق الكندي وائل حلاق جاء متبايناً في الزمان والاشتباك النظري، فبالنسبة للتباين المرتبط بالسياق الزمني، اتضح أن أعماله التي تطرقت لأسئلة الدولة والحداثة في السياقات الإسلامية، والصادرة بعد أحداث “الربيع العربي”، حظيت بتفاعلات أكبر مقارنة مع أعماله التي اشتغلت على التأريخ والتعريف بأسلة الفقه والشريعة والمذاهب الإسلامية؛ أما بالنسبة للتباين المرتبط بالاشتباك النظري، فقد كانت الغلبة للمقاربات الإيديولوجية في تناول أعماله، وخاصة الأعمال المرتبطة بأسئلة الدولة والحداثة، مقارنة مع التناول المعرفي الذي يبقي متواضعاً، رغم تبني وائل حلاق في مقاربات معرفية لمُجمل القضايا التي تطرق إليها، من قبيل قضايا الشريعة والفقه والأخلاق والدولة وغيرها.
عن موقع الدار. بتصرف
المصدر : https://dinpresse.net/?p=8137