د. سالم الكتبي
تابع الجميع خلال الفترة القليلة الماضية أنباء التفجيرات والحرائق التي تجوب محافظات إيران ومنشآتها الحيوية الحساسة بشكل شبه يومي، ولعل آخرها الحرائق التي اشتعلت في قوارب داخل حوض لبناء السفن في ميناء “بوشهر” جنوب إيران، وانضمت إلى قائمة طويلة من الحوادث التي تضمنت انفجارات وحرائق في منشأة للصواريخ ومحطة للطاقة وعيادة طبية ومجمعاً نووياً ومرافق أخرى حيوية بينها منشأة نتانز ركيزة برنامج ايران النووي ومنشأة بارشين المحورية في برنامجها الصاروخي، واكتفى نظام الملالي ووسائل إعلامه بوصفها جميعاً بـ “الغامضة”!
البعض يرى أن هناك حملة “تخريب” ممنهجة تتعرض لها المنشآت الايرانية، وتعددت الرؤى والتصورات وأيضاً الشكوك والاتهامات لهذه الجهة أو تلك بتدبير هذه ال”حملة” والوقوف ورائها، ولكن اللافت من بين كل ذلك هو حالة الوجوم والصمت المريب التي يواجه بها الملالي هذه الحوادث التي دمرت كل ما حاولوا ايهام مؤيديهم به طيلة السنوات الماضية على صعيد الردع والدفاع عن المصالح والحدود الايرانية، بعد أن اخفقوا في الدفاع عن مؤسسات حساسة يفترض أنها تتمتع بأقصى درجات التأمين والحماية في إطار استراتيجيات الأمن الداخلي الايراني!
المؤكد من تحليل الشواهد أن الملالي يعرفون جيداً الجهة التي تقف وراء هذه الهجمات المتتالية، التي لا تستهدف تدمير القدرات الايرانية فقط بل تركز على تدمير صورة النظام الذهنية وتقويض هيبته في عيون أنصاره ومؤيديه في الداخل والخارج، وبالتالي يصبح من البديهي أن يطرح معظم المراقبين تساؤلات عن رد الفعل الايراني المحتمل.
وفي السعي لتفنيد هذه التساؤلات ومحاولة ايجاد ردود عليها يرى فريق من الخبراء والمحللين أن نظام الملالي لن يقوم بالرد على هذه الهجمات في الوقت الراهن، وأنه سيكتفي ـ على أقصى التقديرات ـ ببعض عمليات سرية انتقامية مضادة بحيث يتنصل من المسؤولية عن وقوعها في حالة اتهامه بذلك. والسبب في احجام الملالي عن الرد المباشر أو حتى غير المباشر الذي يمكن ايجاد دلائل تثبت مسؤوليتهم عنه، أن الملالي يراهنون في المرحلة الحالية على تفادي أي مخطط يقود إلى انهيار النظام الذي بات على شفا النهاية بفعل الأزمات المعيشية المتدهورة والأزمات المعقدة التي تلاحق الشعب الايراني على المستويات كافة، الصحية والاقتصادية والأمنية والمعيشية والاجتماعية وغير ذلك.
السبب أيضاً في الاحجام عن خوض أي مواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع من يعتبرهم الملالي “أعداء” له، هو الرهان على عامل الوقت بالنسبة للولايات المتحدة واسرائيل على حد سواء، حيث يعتقد الملالي أن فرص الرئيس ترامب في الفوز بولاية رئاسية ثانية تتراجع بسرعة، وأن من الأفضل بالنسبة لهم ممارسة الصبر الاستراتيجي وتفويت الفرصة على محاولات الاستدراج الهادفة لخوض صراع عسكري قد يكون فيه طوق الانقاذ الذي يعبر الرئيس ترامب من خلاله إلى ولاية رئاسية ثانية.
المعنى إذن أن نظام الملالي قد يكون استقر على “تجرع كأس السم” (بحسب التعبير الشهير للخميني) الذي اعتاد عليه في أزمات عدة سابقة، من أجل الفوز ببقاء النظام ونجاته من ضربة عسكرية أمريكية قد تؤدي إلى انهياره. وتجرع كأس السم هنا قد ينسحب على أي عمليات قد تنفذها جهات وأطراف أخرى تحظى بدعم أمريكي مباشر أو غير مباشر، باعتبار أن هذه الأطراف قد تكون مكلفة باستدراج الملالي إلى صراع عسكري تتدخل فيه الولايات المتحدة في مرحلة لاحقة من أجل حماية حليف لها يخوض صراعاً عسكرياً مع ملالي إيران!
يدرك الملالي أيضاً أن هذه العمليات التخريبية قد تهدف كذلك إلى إجبارها على تقديم تنازلات والتفاوض مع الجانب الأمريكي من أجل منح الرئيس ترامب انتصاراً سياسياً يدعم فرص فوزه بولاية رئاسية ثانية، ولكن هذا الأمر لن يحظى بالتأكيد بموافقة الملالي ما لم يصلوا إلى قناعة واضحة تفيد بأرجحية فرص فوز الرئيس ترامب في الانتخابات المقبلة، بحيث يمكن أن يقدموا ما يعزز فرصه الانتخابية، وفرصهم التفاوضية في التوصل إلى شروط أفضل لأي صفقة محتملة بعد الانتخابات.
قناعتي الذاتية أن الملالي يعتمدون منذ فترة طويلة على استراتيجية الحروب بالوكالة، وبالتالي ليس علينا أن ننتظر أي رد إيراني مباشر أو غير مباشر على الهجمات التخريبية أو غيرها، ما لم تقع هجمات عسكرية مباشرة أي حرب تقليدية صريحة ضد إيران، وعلينا أن نتذكر أن كل الهجمات التي تعرض لها نظام الملالي تقريباً تم الرد عليها من خلال وكلاء وأذرع ايران الاقليمية، عدا عملية مقتل الجنرال قاسم سليماني، التي تم الرد عليها على استحياء بعملية عسكرية صاروخية محسوبة ودقيقة وحذرة للغاية لدرجة إبلاغ الجانب الأمريكي بتوقيتها وحجمها قبل تنفيذها بساعات والغرض من ذلك واضح، وهو الالتزام بقواعد اللعبة الحاكمة للصراع الايراني ـ الأمريكي في هذه الظروف.
أما من يتحدث عن الرد على إسرائيل في حال ثبوت مسؤوليتها عن الهجمات على إيران، فهو أيضاً يبالغ لأن الجانب الاسرائيلي ينفي رسمياً المسؤولية عن هذه الهجمات وفي ذلك ما يجنب الملالي حرج الرد وخوض صراع عسكري مكشوف يحرص الجانبان على تفاديه والالتزام أيضاً بقواعد الاشتباك وتبادل الرسائل والاعتماد على تكتيكات الحرب الهجينة من الجانب الاسرائيلي والحرب بالوكالة من الجانب الايراني.
باختصار، الملالي يمارسون لعبة التقية السياسية مجدداً ويختفون بانتظار ايجاد مبررات يقدمونها للشعب الايراني، والحقيقة أنهم يسعون لكسب الوقت بانتظار محصلة سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، ولكن المؤكد أن نظامهم يتآكل من الداخل ببطء شديد بحكم فقدانه مقومات الاستمرار والبقاء الطبيعي في ظل غياب أي مشروع تنموي أو رؤية مستقبلية تحقق طموحات الشعب الايراني.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=8707