سعيد الكحل
محنة لبنان ليست وليدة اليوم ولا هي نتيجة الانفجار المدمر لبيروت ومرفئها في عز الأزمة الاقتصادية والسياسية الخانقة، لكنها تتعمق أكثر وتتشعب بسبب تضارب مصالح القوى الإقليمية التي حوّلت لبنان إلى ساحة للصراع المفتوح على حساب استقرار الوطن واستقلاله . وضعٌ جعل لبنان دولة طوائف تتلقى الحماية والدعم من دول أجنبية لا تهمها مصلحة لبنان أو تقوية اقتصاده ونسيجه المجتمعي. الأمر الذي ينتج عنه اختلال التوازن واتساع الفجوة بين الطوائف مما ينعكس مباشرة على أداء الحكومة فيصيبها بالشلل ، فيفتح المجال للقوى الخارجية للتدخل وإن اقتضى الأمر ممارسة الضغوط على الأطراف اللبنانية من أجل الوصول إلى التوافق حول القضايا الأساسية مثل تقاسم السلطة ، وتعيين الرئيس وتشكيل الحكومة.وهذا ما أشارت إليه الباحثة ماريا جويل زاهر بأن (الحماية الخارجية كانت دائماً ضرورية – وربما تكفي – لتأمين السلام والاستقرار الداخلي، حتى من دون دعم جميع الطوائف اللبنانية).هذا هو وضع لبنان/ الدولة التي تفقد السيادة والسلطة بسبب تغوّل الطوائف ولا يمكن حله في المدى المنظور.
لكن ما ينبغي على الدول العربية استخلاصه من الوضع اللبناني حتى لا تتكرر مآسيه في أوطان أخرى هو:
1 ــ تحصين الجبهة الداخلية بتوفير مناخ الديمقراطية وضمان شروط العيش الكريم وكذا التصدي للتقاطبات السياسية الحادة التي تقود إلى الصراع المدمر للدولة والمجتمع. فالصراع السياسي الذي يتجاوز حدود التنافس على خدمة الشعب والوطن إلى السعي لتدمير الأحزاب المنافسة أو التهديد باللجوء إلى الأرض المحروقة في حالة الخسارة الانتخابية أو عدم الاستجابة للشروط غير المتوافق بشأنها ، هو صراع مرفوض من أساسه ومفروض في الدولة أن تحمي الحياة السياسية من مخاطره .
2 ــ التصدي الصارم للنزعات الطائفية والمذهبية التي تستهدف تماسك النسيج المجتمعي عبر نشر فتاوى التكفير وثقافة الكراهية والبغض ضد فئات من المواطنين لقناعاتهم الفكرية أو خلفياتهم الإيديولوجية أو انتماءاتهم الحزبية أو العرقية أو الدينية . فالمجتمعات العربية ليست بحاجة إلى هذه النزعات الطائفية أو المذهبية ولا إلى إحياء الخلافات المذهبية التي أحدثت الفتن بين المسلمين في عصور خلت ، بقدر ما هي بحاجة إلى جهود التنمية وإشاعة ثقافة الحوار والتعايش وقيم المواطنة.
3 ــ تجريم التحريض على التكفير والكراهية الذي يقسم المجتمعات إلى طوائف متنافرة ومتناحرة، ويمزق نسيجها الثقافي كما يعصف بأمنها واستقرارها . لهذه الغاية بات من الضروري وضع التشريعات اللازمة لردع دعاة التكفير والكراهية والتفرقة وتشديد العقوبات ، خصوصا وأن دولا بعينها (تركيا وقطر) أسستا حديثا قناة فضائية موجهة خصيصا إلى شعوب المغرب العربي لزعزعة أمنها عبر إذكاء الطائفية والعرقية ودعم تنظيمات الإسلام السياسي قصد تمكينها من الوصول إلى الحكم بكل الطرق بما فيها الدعم المسلح كما هو الحال في ليبيا وسوريا والعراق واليمن.
4 ــ حل كل الجمعيات أو التنظيمات التي تثبت ولاءاتها وارتباطاتها بالقوى الخارجية، إذ لا يمكن لأي قوة خارجية أن تؤثر على الحياة السياسية لأي دولة إلا إذا كانت هناك تنظيمات وأطراف تدين بالولاء لها بدل الوطن. فمشكلة لبنان لا تختلف عن مشاكل العراق وسوريا وليبيا واليمن من حيث كون الأطراف المتناحرة تحولت إلى أدوات لتدمير الأوطان متحكم فيها خارجيا.فهي لا تخدم مصلحة الوطن بقدر ما تخدم مصالح وأجندات القوى الخارجية. إن الأوطان ، في هذه الحالة، لا تفقد فقط قرارها السياسي بل أيضا سيادتها واستقرارها. لذا على الدول العربية أن تعيد حساباتها وتغير تعاملها مع التنظيمات المذهبية والدينية التي ارتبطت إيديولوجيا وسياسيا بفترة الحرب الباردة. فالاستقرار السياسي بات يقوم على الديمقراطية والتنمية المستدامة .وعلى هذه الدول أن تدرك أن إستراتيجية التنظيمات الطائفية تقوم على خلق مجتمعات موازية داخل المجتمعات العربية ، لها ولاءاتها وقيمها وارتباطاتها وأهدافها مناقضة ومقوضة للهوية الأصلية للمجتمعات وعلى استعداد لتدميرها متى توفرت لها القوة والأدوات والدعم السياسي والعسكري والمالي الخارجي.
5 ــ حماية المال العام عبر القضاء على الفساد بكل مظاهره ومحاكمة المفسدين مهما كانت مواقعهم داخل الدولة .فالإفلاس الاقتصادي والسياسي وجهان لعملة واحدة وقد يؤديان إلى انهيار الدول التي تعجز حكوماتها عن التصدي الحازم لأسبابهما ، أو يدفعان الشعوب إلى فقدان الثقة في كل الطبقة السياسية .حينها يفقد مفهوم الخيانة الوطنية معناه وبُعده الأخلاقي لدى شريحة من المواطنين ، مما يُسوّغ لها الاستنجاد بالقوى الدولية لحمايتها أو إنقاذها (عشرات الآلاف من اللبنانيين وقعوا عريضة يطالبون فيها فرنسا بإعادة فرض الانتداب على لبنان، فيما طالبت شرائح أخرى من الرئيس الفرنسي عدم تسليم المساعدات الإنسانية إلى الحكومة وتقديمها مباشرة إلى السفارة حتى تضمن وصولها إلى المتضررين من الانفجار ).
6 ــ إشاعة قيم المواطنة والتعايش والحوار وقبول الاختلاف والتربية عليها بما يضمن وحدة الشعب ويحمي هويته باعتماد إستراتيجية تعليمية وثقافية تعزز مشاعر الانتماء للوطن وتذكي روح الإخلاص في خدمته والدفاع عنه.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=9203