دين بريس ـ سعيد الزياني
يعتبر فيلم “Sacré-Cœur: Son règne n’a pas de fin” (قلب المسيح: ملكه لا نهاية له) للمخرجين سابرينا وستيفن ج. غانيل تجربة سينمائية فرنسية تستحق التوقف عندها من زاويتين: فنية ودلالية.
فهو عمل يجمع بين طابع الفيلم الوثائقي والسرد الدرامي (docu-fiction)، محاولا تقديم قراءة بصرية جديدة لرمز ديني مركزي في العقيدة الكاثوليكية هو قلب المسيح المقدس.
ويعيد الفيلم هذا الرمز إلى النقاش العام من خلال لغة سينمائية تستلهم التاريخ وتستعين بالتقنيات المعاصرة في السرد والتصوير.
على المستوى الفني، يعتمد الفيلم بنية تركيبية مزدوجة، تجمع بين المقاطع التمثيلية المستوحاة من حياة القديسة مارغريت ماري ألاكوك، التي شهدت الظهورات الشهيرة في القرن السابع عشر بمدينة باراي لو مونيال، وبين شهادات معاصرة لمؤمنين ولاهوتيين ومؤرخين يناقشون معنى هذه العقيدة في الحاضر.
هذا التناوب بين الماضي والراهن يمنح الفيلم دينامية سردية تحافظ على إيقاع متوازن بين الجانب التاريخي والتأملي، دون أن يسقط في الإطناب أو التكرار.
من الناحية الإخراجية، تتضح رغبة المخرجين في بناء لغة بصرية روحية الطابع، من خلال الاستخدام المكثف للإضاءة الدافئة واللقطات البطيئة والموسيقى التصويرية التي تمزج بين الألحان الكنسية والمؤثرات الحديثة.
هذه العناصر مجتمعة تخلق أجواء تأملية تقرب المشاهد من التجربة الدينية التي يعرضها الفيلم، ومع ذلك، قد يرى بعض النقاد أن هذا الأسلوب يميل أحيانا إلى المبالغة في الرمزية البصرية على حساب العمق التحليلي، خصوصا في المشاهد التي تُظهر الضوء أو اللهب كرموز مباشرة للحب الإلهي.
أما من حيث المضمون، فإن الفيلم يطرح موضوعا لاهوتيا ذا بعد إنساني واضح: هل ما زال الإيمان قادرا على مخاطبة الإنسان الحديث؟
من خلال المقابلات والشهادات، يسعى العمل إلى إثبات أن رمزية “قلب المسيح” ليست عقيدة منغلقة، بل رسالة روحية تدعو إلى الرحمة والمحبة والمصالحة.
ويؤكد المشاركون أن هذا القلب، الذي يُقدم في الفن الكاثوليكي كقلب جريح محاط بإكليل من الشوك، يرمز إلى قدرة الإنسان على التجدد رغم الألم، لذلك يتخذ الفيلم موقفا تجسيريا بين الإيمان والتجربة الإنسانية العامة، بعيدا عن الخطاب الوعظي المباشر.
على المستوى الوثائقي، يعرض الفيلم مادة تاريخية تتعلق بانتشار عبادة القلب المقدس في أوروبا منذ القرن السابع عشر، وتحولها إلى رمز ديني وسياسي في فترات مختلفة من التاريخ الفرنسي، ومع أن هذا الجانب لا يحتل الحيز الأكبر في السرد، إلا أنه يمنح المشاهد خلفية تساعده على فهم تطور الفكرة وانتقالها إلى ثقافة معاصرة تبحث عن معنى روحي في زمن الأزمات.
إنتاجيا، استفاد الفيلم من دعم شركة Saje Distribution المتخصصة في الأعمال ذات الطابع المسيحي، وهو ما يفسر توزيعه الواسع في الصالات الفرنسية (أكثر من 340 قاعة عرض خلال أكتوبر 2025)، وتحقيقه إقبالًا غير متوقع تجاوز 195 ألف تذكرة خلال أسابيع قليلة، هذا النجاح التجاري لفيلم ديني الطابع يُظهر وجود جمهور متعطش لأعمال تحمل مضمونا روحيا، بشرط أن تُقدم بلغة سينمائية محترفة لا وعظية.
ومن زاوية نقدية محايدة، يمكن القول إن الفيلم نجح في إعادة طرح موضوع الإيمان بلغة فنية معاصرة، لكنه لم يخلُ من بعض الحدود البنيوية، فالتوازن بين الجانب التوثيقي والجانب الدرامي لم يكن دائما متقنا، إذ تميل بعض المقاطع إلى الطابع الإنشادي أو العاطفي المفرط، مما قد يُضعف تفاعل المشاهدين الذين يفضّلون الطرح التحليلي أو النقدي.
إضافة إلى أن تصوير الشخصيات المقدسة جاء محافظا ومثاليا، دون مساحة كبيرة للتأمل النفسي أو الجدل الفكري.
وبالرغم من ذلك، يحسب للفيلم أنه يقدّم رؤية جمالية متماسكة تحترم المشاهد من خلال تجنّب الخطاب الدعوي المباشر، وأنه يوظّف عناصر السينما لتوليد إحساس بالسكينة والتأمل أكثر من السعي إلى الإقناع العقائدي.
وربما نجح في جعل الرموز الدينية مادة فنية قابلة للتأويل الإنساني العام، ما يجعله قريبا من جمهورٍ غير مؤمن بقدر ما هو موجه إلى المؤمنين أنفسهم.
ويمكن النظر إلى “Sacré-Cœur” كعمل يوازن بين الوظيفة التعبيرية والرسالة الروحية، ويعيد إدماج الدين في الفضاء الثقافي الفرنسي من خلال السينما، دون صدام مع قيم الحداثة أو معايير الفن المعاصر.
أعتقد ـن هذا الفيلم يشكل نموذجا يستحق الدراسة في سياق العلاقة بين السينما والدين في فرنسا المعاصرة، حيث يلتقي السرد الفني بالبحث عن المعنى في عالم فقد توازنه الروحي.
 
                     
                         تابع آخر الأخبار من دين بريس على نبض
                                تابع آخر الأخبار من دين بريس على نبض
                            

 
    
                 
    
                 
    
                 
    
                