محمد جناي
كانت الهيئة العلمية للإفتاء بالمجلس العلمي الأعلى، قد أفتت في 12 مارس الماضي، بضرورة إغلاق أبواب المساجد في المملكة خلال كل الصلوات اليومية الخمس وصلاة الجمعة، مع استمرار رفع الأذان. بلاغ المجلس العلمي الأعلى قال إن “هذا الإجراء لن يستمر، وستعود الأمور إلى نصابها بإقامة الصلاة في المساجد بمجرد قرار السلطات المختصة بعودة الحالة الصحية إلى وضعها الطبيعي”.
كذلك، شدد المجلس على أن الفتوى “تأتي نظرا للضرر الفادح الناجم عن الوباء الذي يجتاح العالم، واعتبارا لما صدر من توجيهات من الجهات المختصة، بما فيها وزارة الصحة، بهدف الحرص على الوقاية من الفيروس بإغلاق أماكن عامة وخاصة”.
وتزامنا مع قرار تعليق حضور المصلين للصلوات و التروايح وانطلاقا من الإجراءات الإحترازية التي تتخذها المملكة للحد من انتشار فيروس “كورونا المستجد” أثيرت عدة تساؤلات ولعل أهمها وهي أن هذا الوباء لم يقتصر تأثيره وامتداداته فقط على الصحة والمجتمع والاقتصاد والسياسة ،بل ذهب بعيدا ليؤثر حتى في العبادات وأدائها ،ولذا لم يكن مستغربا أن تتنادى معظم دول العالم إلى منع صلوات التراويح و الجمعة والجماعة في المساجد،تجنبا لتفشي الوباء ،وحفظا لأرواح وصحة المصلين،وتأسيا بما تواتر عن النبي «صلى الله عليه وسلم ».
ولهذا جعلت من الحقل الديني، ساحة نقاش محتدم بين من يعتقدون بضرورة الاجتهاد وتطوير الفكر الديني ومن يرون أن طريقة الترخيص “بالصلاة عن بعد” لا بد أن تأخذ في الاعتبار أحكام الشريعة ومقاصدها .
وبالمناسبة، ليس الفضاء الديني الإسلامي وحده هو من يشهد وقائع هذه المعركة الحامية، بل إننا نجدها في اليهودية وبين اليهود، وفي المسيحية وبين المسيحيين، وكثير منها يتعلق بشعائر التعبد وأداء الصلوات الجماعية في الكنائس، وهو النقاش الحاد نفسه الذي نشهده بين مسلمين كثيرين بشأن الصلاة في المساجد في الظروف الراهنة وكذا جواز الصلاة عن بعد.
ومع توق المسلمين لأداء صلاة الجمعة جماعة ومعها صلاة التراويح دون تقارب وتلاصق في الصفوف،بدأت الآراء تطرح هنا وهناك، متعرضة لمسائل فقهية كثيرة فرضتها ظروف كورونا، مطالبة ببعض التجديد والجرأة في تناول غير المألوف.
وكما هو معلوم فصلوات الجمع والجماعات شعائر عظيمة من أجل شعائر الإسلام، شرعها الله سبحانه وتعالى؛ إظهارا لشعار الإسلام، ولاجتماع وتلاقي المسلمين، وتأكيد وحدتهم، وتعاونهم على الطاعة والعبادة.
ولهذا فلأصل في العبادات التوقف؛ فيحرم القول بجواز أي عبادة حتى يرد الدليل الصحيح الصريح على جوازها، ومن ذلك الصلاة خلف إمام في التلفاز أو غيره. (1)وفي هذا الصدد نسجل استدلال بعض أهل العلم مؤخرا على جواز صلاة التراويح هذا العام بكلام للإمام مالك رضي الله عنه تعالى في موضعين من المدونة:
وهذا نص ما استدلوا به:
الموضع الأول: “الصلاة أمام القبلة بصلاة الإمام:
قال: وقال مالك: ومن صلى في دور أمام القبلة بصلاة الإمام، وهم يسمعون تكبير الإمام، فيصلون بصلاته، ويركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، فصلاتهم تامة، وإن كانوا بين يدي الإمام، قال: ولا أحب لهم أن يفعلوا ذلك، قال ابن القاسم: قال مالك: وقد بلغني أن دارا لآل عمر بن الخطاب وهي أمام القبلة كانوا يصلون بصلاة الإمام فيها فيما مضى من الزمان، قال مالك: وما أحب أن يفعله أحد ومن فعله أجزأه”.
والاستدلال بهذا الكلام لا يصح من وجوه:
• أن الكلام عن قوم دورهم مجاورة للمسجد؛ بحيث يتمكنون من سماع التكبير ورؤية أفعال الإمام فيأتمون به، وهذا غير متحقق فيمن صلى خلف وسيلة من وسائل الاتصال السمعي أو البصري.
• قول الإمام مالك: “ولا أحب لهم أن يفعلوا ذلك” يبين أنه كان رحمه الله تعالى يكره ذلك، فكيف سيكون جوابه لو سئل مثل مسألتنا هاته، لا شك أن كراهته ستكون لها أشد، والله أعلم وأحكم.
• فعل آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا وجه للاستدلال به؛ لأنه يتعلق بدار أمام القبلة قرب المسجد.
• قول الإمام مالك: “وما أحب أن يفعله أحد” يدل كذلك على كراهته للاقتداء من دار خارج المسجد.
الموضع الثاني: “في الصلاة فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام:
قال: وقال مالك: لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد، والإمام في داخل المسجد، قال: وكان آخر ما فارقنا مالكا أنه كره أن يصلي الرجل خلف الإمام بصلاة الإمام على ظهر المسجد، قال: ولا يعجبني هذا من قوله، وقوله الأول به آخذ”.
والاستدلال بهذا الكلام لا يصح كذلك من وجوه:
• اختلاف الصورتين: فالكلام هنا عن مأموم فوق سطح المسجد يأتم بالإمام داخل المسجد، فها هنا قد تحقق الاجتماع في الزمان والمكان؛ لأن سطح المسجد يظل جزءا من المسجد، أما صورة المسألة موضوع البحث فتتعلق بمأموم يأتم بإمام قد فصل بينهما المكان بعشرات أو مئات وربما آلاف الكيلومترات.
• قوله: “وكان آخر ما فارقنا مالكا أنه كره أن يصلي الرجل خلف الإمام بصلاة الإمام على ظهر المسجد” يدل على أن آخر عهد الإمام مالك رحمه الله تعالى كراهيته لذلك.
وإن كان ذلك كذلك فكراهيته لمن صلى بصلاة إمام عبر التلفاز أو المذياع ستكون أشد.
• “ولا يعجبني هذا من قوله، وقوله الأول به آخذ”، هذا قول عبدالرحمن بن القاسم، وقوله رحمه الله تعالى لا يغير من قول الإمام مالك رحمه الله تعالى شيئًا. انتهى
وقبل الختم أقدم بعض النقولات عن أهل العلم في عدم جواز الصلاة خلف المذياع أو التلفاز:
أولها : قال لحسن السكنفل رئيس المجلس العلمي لعمالة الصخيرات تمارة، إنه لا يجوز أداء صلاة التراويح وراء إمام في التلفاز أو المذياع لغياب استحضار اللحظة فيها ولأنه يشرط اتحاد المكان، داعيا الذين يتحدثون في هذا الموضوع ويطلبون فتوى فيه بسبب تعليق الصلاة بالمساجد إلى أداء الصلاة بشكل فردي أو جماعي مع الزوجة والأبناء في المنزل بما يحفظون من قرآن، حتى لو كانت سورة واحدة فقط.
وأضاف السكنفل، أن الأصل في صلاة التراويح أنها “كانت تصلى بشكل فردي عندما سنها الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان قد جمع الناس في الليلة الأولى والثانية وصلى بهم، وغاب عنهم في الثالثة، وعندما سألوه عن غيابه أجابهم بأنه يخشى أن تفرض عليهم، حتى جاء عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وجمعهم على إماما واحد”، مشيرا إلى أن ما يعطي للتراويح تلك الروحنيات هو “الإخلاص الداخلي واستحضار الانسان لشعور أنه في اتصال مع الله وليس الشكليات الخارجية
ثانيا: سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بمصر: ما حكم الصلاة مع الراديو، أو آلة من الآلات المتصلة بالإذاعة التي يسمعونها من الراديو، وهم في أبعد مكان؟
بعد أن ذكرت اللجنة مجموعة من الأدلة على عظم شأن الجماعة، وأنها شعيرة من الشعائر الإسلامية – قالت: “ثم إنه قد تقع صلاته على أحوال لا تصح معها صلاته عند جماعة من الفقهاء؛ مثل: كونه منفردًا خلف الصف، مع إمكان دخوله في صف لو كان بالمسجد، وكونه أمام الإمام وقد يعرض ما لا يمكنه معه الاقتداء بالإمام؛ كخلل في جهاز الاستقبال أو الإرسال، أو انقطاع التيار الكهربائي وهو في أمنٍ مِن هذا لو صلى في مكان يرى فيه الإمام والمأمومين؛ لهذا نرى أنه لا يجوز أن يصلي في بيته منفردًا، أو في جماعة مستقلة عن جماعة المسجد، أو مقتديًا بإمام المسجد عن طريق الإذاعة”.
صفوة القول ، أسعد أيما سعادة بأي صوت محرض على استيعاب المتغيرات، وتجديد الخطاب الديني والشرعي تبعا لذلك، غير أني أتمنى على من يخضون في هذا الباب، أن لا يقدموا النتيجة على البرهان، والخلاصة على البحث، والفتوى على الحيثيات.
ـــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1):ناصر عبد الغفور مقال بحثي بعنوان “حكم صلاة التراويح خلف التلفاز أو المذياع”. منشور بشبكة الألوكة بتاريخ :3/5/2020
المصدر : https://dinpresse.net/?p=8222