محمد جناي
يأتي مفهوم النقد في المعاجم العربية بصفة أساسية في مجال التعاملات المالية،فالنقد ماهو خلاف النسيئة -أي البيع بأجل-ويقال:انتقد الدراهم بمعنى قبضها،ولكن هناك معنى آخر- ورد أيضا في هذه المعاجم -أقرب إلى مانقصده في هذا المقال بالتفكير النقدي ،إذ يقال :نقد الدراهم وانتقدها، أي أخرج منها الزيف ،وناقده :أي ناقشه في الأمر.
ويمكن القول بصفة عامة بأن النقد يعني امتحان شيء ما من جهة قيمته،وهذا يعني أن النقد ليس مجرد بيان العيوب وكشف القصور -كما هو شائع لدى عامة الناس- وإنما هو أيضا إبراز الإيجابيات، وعندئذ يمكن أن يكون النقد موضوعيا ونزيها وهادفا[1].
ولقد أصبحت ملكة التفكير النقدي من ضروريات الحياة المعاصرة ، إذ إنها مفتاح النجاح في مجتمع المعرفة ،سواء في التداول مع القضايا اليومية ،أو في الدراسة النظرية والعملية، أو في أداء مهمات العمل الروتيني، أو في البحوث وابتكار ما ينفع الفرد والمجتمع، أو في التعايش الاجتماعي والمواطنة والمشاركة الفعالة في التنمية الاقتصادية . ولقد تطورت تعاريف التفكير النقدي عبر العقود القليلة الماضية ،نظرا لتزايد الاهتمام به مع التحول إلى مجتمع المعرفة .
من تلك التعريفات:
* القدرة على تحليل الحقائق ، وتوليد وتنسيق الأفكار ،والدفاع عن الآراء الشخصية أو الجماعية، والمقدرة على عقد مقارنات بين الاختيارات، والاستنباط ،وتقييم جوانب حلقات النقاش ، وحل القضايا العارضة
* عملية فكرية منظمة للقيام بتصور وتطبيق وتحليل وتركيب وتقييم معلومات متجمعة أو متولدة من مشاهدة أو خبرة أو تأمل أو استنباط أو اتصالات ،وذلك للحصول على قناعة أو خطوات العمل[2].
ويمكن القول أيضا بناء على ذلك كله بأن التفكير النقدي يعني عدم القبول بشيء إلا بعد اختباره والتأكد من صحته ،وفي هذا المعنى يقول القرآن الكريم :{ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْماَۢ بِجَهَٰلَةٖ فَتُصْبِحُواْ عَلَيٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَۖ }( الحجرات :6 )
ولا يخفى على أحد مايمارسه الإعلام الدولي الموجه في عالمنا المعاصر من ضغوط رهيبة على عقول الناس في كل مكان بهدف نشر مفاهيم وقيم اجتماعية وأخلاقية وثقافية معينة في العالم النامي على وجه الخصوص،حتى يسهل توجيهه إلى الأهداف التي تريد القوى العظمى تحقيقها.
وفي كثير من الأحيان تتعارض هذه المفاهيم والقيم مع الخصوصيات الحضارية للمجتمعات النامية بصفة عامة والمجتمعات الإسلامية بصفة خاصة،الأمر الذي يهدد الهوية الحضارية لهذه المجتمعات، وحتى يمكن التمييز بوضوح بين ماهو ملائم لنا وماهو غير ملائم ،فإن ذلك يتطلب عقلية نقدية لا تأخذ أي شيء على علاته ،وإنما تبحث وتدرس وتقارن وتختار مايلائمها ،وترفض مالا يتفق مع خصوصياتها الحضارية والدينية[3].
وفي الواقع ، إن التفكير النقدي بدأ في العصر الجاهلي في صورة الشعر الذي ولع به العرب والذي كان بمثابة الأداة الإعلامية التي تعبر عما يختلج في نفس الشاعر من مشاعر وما يختلج في نفسه من خواطر ، سواء عن نفسه أو عما يجري حوله ، والمعلقات شاهد على ذلك ،بل إن من الأمثال العربية “النقد صابون القلوب”.
وظل الشعر ردحا طويلا معبرا عن التفكير النقدي للشخص في ضروب الحياة المختلفة ، وتعبيرا عن الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية والفلسفية المختلفة، ولعل مأنشده محمد الأنصاري، شاهد على قيمة التفكير النقدي بين الشعراء:
ولولا العقل يشفعه انتقاد. لما عرف الغناء من السخيف[4].
ولا شك في أن العقلية النقدية ليست منغلقة على نفسها ، وإنما هي عقلية متفتحة، لا ترفض شيئا لمجرد الرفض أو لأنه آت من جانب جهات لا تريد لنا الخير ، فالرفض أو القبول لديها ينبني على أسس ومبادئ ،ولايأتي عشوائيا ،بل يكون بعد الدراسة والبحث والتقييم الموضوعي،وقد كان الفيلسوف العظيم ابن رشد خير نموذج لهذه العقلية النقدية المتفتحة ،فقد قرر أن الاطلاع على مالدى الآخرين يعد واجبا شرعيا ،ثم أضاف قائلا : “ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم،فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه،وماكان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم”[5].
ومن هنا تأتي ضرورة تعليم أبناءنا وبناتنا التفكير النقدي حتى يكونوا قادرين على التمييز بين الخير والشر والصواب والخطأ،وبذلك نوفر لهم الحماية من الانسياق وراء دعاوى التطرف والجمود والانغلاق ،أو أي دعاوى أخرى هدامة ترمي إلى محو هويتهم الحضارية ،فواقع الحال يبين لنا أن طريقة التعليم التقليدية التي تعتمد على مجرد الحفظ والتلقين لاتنتج لنا إلا أناسا من أصحاب الشخصيات الباهتة التي لالون لها ولاطعم،أي تنتج لنا شخصيات متواكلة واستسلامية.
أما التفكير النقدي فإنه ينتج شخصيات فاعلة لها رأي ولها فكر ولها نظرة فاحصة في الأمور،وهذا يعني إثراء المجتمع لأعضاء عاملين يدفعون بعجلة الحياة إلى الأمام،وينهضون بمجتمعهم على جميع المستويات ،والتوصل إلى هذا المستوى يتطلب بطبيعة الحال تغييرا في المناهج الدراسية وفي طرق التدريس.
ومجالات النقد كثيرة ومتنوعة ،وتشمل جميع مجالات الحياة ،فقد يكون النقد موجها إلى أوضاع المجتمع أو إلى أي مجال من المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية أو غيرها من مجالات ملتصقة تمام الالتصاق بحياة الناس وحاجاتهم اليومية أو العامة ،وقد يكون النقد موجها إلى الأعمال العلمية أو الفنية أو غيرها ،وكل ذلك مطلوب بطبيعة الحال لإظهار الحقائق أمام الناس، وهذه الممارسة للنقد على كل هذه المستويات تعني حيوية المجتمع وتفاعله مع الأحداث والأفكار[6].
وصفوة القول وهي أن أي أمة تريد أن تتقدم وترتقي في سلم التحضر لابد لها من تشجيع التفكير النقدي على جميع المستويات ،فإن ذلك من شأنه أن يحرك المياه الراكدة ويوقظ العقول التي تم تصديرها بشكل أو بآخر فأصبحت عاجزة عن التفكير بصفة عامة والتفكير النقدي بصفة خاصة ،وبممارسة التفكير النقدي نستطيع أن نغير ثقافة المجتمع ونبعث فيه الحيوية والطموح والانطلاق إلى آفاق التقدم ،وهذا ماتحتاجه أمتنا وماتمليه علينا مسئوليتنا.
ــــــــــــــ
الهوامش
[1]: الفكر الديني وقضايا العصر لمحمود حمدي زقزوق رحمه الله الجزء الأول صفحة :75
[2]: سلسلة “نحو مجتمع المعرفة” – كتاب مؤسسات التعليم العالي وشحذ التفكير النقدي والابتكار – الإصدار العشرون جامعة الملك عبد العزيز
[3]: نفس المصدر السابق (الفكر الديني وقضايا العصر لمحمود حمدي زقزوق رحمه الله الجزء الأول صفحة :77)
[4]: كتاب مؤسسات التعليم العالي وشحذ التفكير النقدي والابتكار إصدار جامعة الملك عبد العزيز .
[5]: في (فصل المقال ) صفحة 28
[6]:الفكر الديني وقضايا العصر :80
المصدر : https://dinpresse.net/?p=8240
يوسف صديقمنذ 5 سنوات
لا شك أن القراءة الناقدة لمختلف مظاهر الحياة اليومية المعاصرة كفيلة بالإسهام في بناء عقلية جمعية قادرة على البناء والتعمير لا الاقتصار على الاستهلاك والتهليل.