بقلم الاستاذ منتصر الخطيب/ تطوان
تقديم
عرف المغرب على مر تاريخه المديد أوبئة ومجاعات حسب ما تفيدنا به المصادر التاريخية، ومن خلال هذه الوثائق تبرز لنا بعض الرسائل التي تفضل بنشرها علماء المغرب ورجالاته إسهاما منهم في معالجة ما يترتب عن وضعية الأوبئة من مواقف، إلا أن أغلب هذه الوثائق لا زال مخطوطا في المكتبات العامة والخاصة.
ولقد كان من الأمور التي سعت العقيدة الإسلامية إلى وضع ضوابط لها، مسألة الإيمان بالقضاء والقدر وخاصة زمن الأوبئة والأمراض والجوائح التي تصيب البلاد والعباد، وذلك لسرعة تفشي الفهم الخاطئ والتأويل الفاسد لتصريف أمر الله بهذه المصائب، وسعت كذلك شريعته إلى بيان مشروعية الاحتراز من الأمراض والجوائح والأخذ بقدر من أسباب الوقاية دون الخروج من المدن المصابة أو الفرار من الوباء بالتفرق في الشعاب.
ومن خلال اطلاعنا على مجموعة من هذه الرسائل المؤلفة في الموضوع يبرز لنا موقفان اثنان عبر عنهما جملة من هؤلاء العلماء؛ أي في الموقف الذي اتخذوه عند انتشار الطاعون بمختلف مناطق المغرب وفي فترات تاريخية متتالية. ويتعلق الأمر بموقفين اثنين على وجه الخصوص لتحديد الموقف الشرعي من إشكالية العدوى ومشروعية الوقاية في الإسلام، وقد تجلى الموقفان ما بين التسليم لمجاري القضاء والقدر، أو بالتعامل بمرونة مع نصوص الشرع الآمرة بالاحتراز والوقاية. ويجب التذكير هنا إلى أننا لن نقوم بتقييم رأي القائلين بموقف دون آخر، وإنما غايتنا هنا بسط الموقفين فقط من خلال بعض النصوص المتوفرة أمامنا لاستجلاء تفاعل العلماء مع نوازل العصر، ولكل مجتهد نصيب كما يقال.
وسأخصص المقالة الأولى لبيان الموقف الأول القاضي بالتسليم لمجاري القضاء والقدر، وهو الموقف الذي تبناه كل من الشيخ أحمد ابن عجيبة الحسني والفقيه محمد الحضيكي.
موقف الشيخ أحمد ابن عجيبة:
الموقف الأول لأحد رجالات منطقة الشمال وهو الشيخ أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني- المتوفى سنة 1224هـ/ 1809م – والذي عاش في فترة حرجة من تاريخ مغرب القرن الثاني عشر زمن نزول الوباء بمختلف مناطق المغرب. حيث ساهم بعلمه وجهده – كما باقي العلماء كل من موقعه وثغره- في محاربة الفهم الخاطئ لتصريف الله لقضائه وقدره، وقد عرف أحمد ابن عجيبة بكثرة تآليفه وتنوعها، فقد ألف في علم التفسير والقراءات وعلم الحديث والرجال والفقه والعقائد واللغة والسلوك وغيرها، ومن تلك المؤلفات رسالته الشهيرة المسماة “سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر”(1)، لما حل الوباء بمدينتي تطوان وطنجة ونواحيهما عام 1214هـ وفق ما ذكره مؤرخو تطوان الفقيه محمد داود في تاريخ تطوان وأحمد الرهوني في عمدة الراوين وعبد السلام السكيرج في نزهة الإخوان وغيرهم، والتي رام من خلالها الإسهام في ترسيخ المفاهيم العقدية التي تعتبر أن إصلاح عقائد الناس سبيل إلى إصلاح المجتمع ككل.
رسالة سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر:
هذه الرسالة سماها ابن عجيبة: “سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر” عالج فيها إشكالية بيان الفهم الصحيح لمعنى القضاء والقدر في المنظومة العقدية الإسلامية، هذا المفهوم الذي داخله نوع من التأويل الفاسد بعد تفشي وباء الطاعون بمدينة تطوان والنواحي، وخروج الناس بأقوال تناقض عقيدتهم وتفسح المجال لدعاوى العدوى والطيرة المنهي عنهما شرعا, فكان تأليفه هذا مساهمة منه في الرجوع بالناس إلى الصواب اعتمادا على شرح بعض النصوص الدينية، وبيانا للمطلوب منهم فعله في مثل هذه المصائب.
ومضمن هذه النازلة أنه لما حل وباء الطاعون بمدينة تطوان وضواحيها عام 1213و1214 أفتى بعض العلماء بإغلاق أبواب المدينة في جهات أخرى تحفظا من العدوى، ولما انتشر الوباء بكثافة نصحت السلطات المحلية بموافقة علماء المدينة الناس بالفرار، لكن ابن عجيبة الذي وعلى الرغم من فقده لبعض أبنائه بسبب هذا الوباء إلا أنه لبث في بيته ولم يفر، وكتب رسالته للتنديد بموقف العلماء الذين اعتقدوا إمكانية الإفلات من الموت بالفرار، يقول في ذلك: (..هذه نبذة يسيرة تعين على الخوض فيه، وتسكن القلوب للرضى بمجاريه؛ حملني عليه أني رأيت كثيرا ممن يشار إليه بالعلم والعمل قد ضل عنه وأضل، وجعل يدافع المقادير بما يقدر عليه من الأسباب والحيل، وقد قيل: زلة عالِم يضل بها عالَم، فقد رأيت كثيرا من العلماء زمن الوباء يأمرون بغلق أبواب المدينة ويفرون من الدخول على المرضى خوفا من الموت، وهذا الذي حملني على تقييد هذا التأليف).
ومجمل أبواب هذه الرسالة وقوفه على بيان وتفسير حقيقة القدر والقضاء وما يتعلق بذلك، حيث عرفه بقوله هو: (عبارة عن تعلق عين علم الله بالكائنات قبل وجودها، فلا يظهر في عالم الشهادة شيء من الخلائق إلا وقد سبق في علمه وقدره السابق، ولا يصدر من خلقه قول ولا فعل ولا حركة ولا سكون إلا وقد سبق في علمه وقدره كيف يكون.. فنقول على هذا: قدر الله كذا وقضاه وأراده وشاءه بمعنى واحد..وهذا مقتضى الأدب والله تعالى أعلم).. وقد استدل على ذلك بجملة من النصوص الشرعية من مثل قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) أي بقدر سابق، وقوله سبحانه: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها)؛ مبينا أنه ما أصاب الناس من مصيبة من شر أو خير في الأرض بالجدب والقحط أو الغرق إلا في كتاب وهو اللوح المحفوظ، ولذلك وجب
التسليم لذلك فقال: (فلا تحزن على شيء لم يكن لك أو انقضى أجله عندك..).
وقد ذكر في هذه الرسالة جملة من التوجيهات الواجب اتخاذها في مثل هذه الفواجع فقال: (ومما يتأكد على الإنسان في زمن الوباء الرضى والتسليم والصبر على مفارقة الأحباب، إنما الصبر عند الصدمة الأولى ففي الله خلف من كل تلف، لا سيما في هذا الزمان الصعب.. فمن مات حبيبه في هذا الزمان فلا يتأسف عليه، ومن أحس بانتقال روحه إلى الله فليفرح بلقاء الله وملاقاة رسول الله (ص) ومن تقدمه من أولياء الله..).
وقد بين ابن عجيبة ما تصل إليه عقول الناس إذا اعتقدوا ما سبق من القول بأنهم إن فروا من دار الوباء سلموا، وهو القول المتعلق بالعدوى والطيرة المنهي عنهما شرعا، حيث يقول (أما العدوى فهو انتقال المرض من محل لآخر كما يزعمه الفلاسفة والطبائعيون؛ وهو باطل عند أهل التوحيد). وقد ساق مجموعة من الآي والأحاديث في دفع توهم العدوى والطيرة، من مثل قوله تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، ومن مثل قوله عليه السلام في التحذير من وهم العدوى والطيرة: (لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هام).
لكنه عاد وبين أن ذلك لا يتنافى مع اتخاذ الأسباب والتداوي، وأنها سبب للشفاء فقال: (وفي الحديث: ما نزل الله داء إلا أنزل له دواء، فالتداوي لا ينافي التوكل، إن كان يرى الشفاء من الله..)، والإقدام كذلك على جملة من التوجيهات التي تتماشى وتجربته الصوفية حث الناس على الذكر والدعاء، فقال: (وأما التحصن بالدعاء فلا بأس به عبودية، مع اعتقاده أنه لا يزيد في العمر شيئا، وفائدته؛ التأييد واللطف ونزول الصبر والرضى عند أوقات الشدة).
موقف الشيخ محمد الحضيكي:
هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن سليمان الجزولي المعروف بالحضيكي، من أجل علماء سوس ومن أبرز من أنجبتهم من النجباء. كان مولده سنة 1118هـ، وكانت وفاته سنة 1189 هـ وقد امتدحه وأثنى عليه غير واحد من المؤرخين، وعدوه من فطاحل سوس بالنظر إلى كثرة مؤلفاته وتنوعها؛ حيث ألف في الفقه والحديث ومصطلحه والسيرة النبوية والتصوف وغيرها من الفنون.
وسنقف على رصد موقفه زمن الوباء من خلال جوابه على فتوى وردت عليه من بعض طلبته في موضوع وباء الطاعون الذي حل ببلادهم – إن صح أن هذا الوباء الذي سئل عنه هو الذي حدث سنة 1160هـ أو في سنة 1164هـ، لأنه وقع في هاتين السنتين معا، كما ذكر ذلك المختار السوسي في كتابه المعسول-(2).
وملخص السؤال هو: هل للمرء أن يمكث في دياره زمن الوباء أو يفر إلى خارجها؟ مع طلب بيان من أصيب بالوباء هل يعتبر شهيدا أم لا؟ أو حصلت له الشهادة ولو فر من هذا الأمر لأحواز بلده.
وجاء جواب الحضيكي متضمنا مجموعة من التوجيهات الدينية سواء في الجانب العقدي أو في الجانب التشريعي يشبه إلى حد قريب ما سطرناه قبل في موقف ابن عجيبة.
وهكذا ابتدأ الجواب بالتذكير بوجوب اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه قائلا: (فهنيئا لمن اتبع أوامر ربه وخالف هواه..). ثم انطلق في تقرير مسألة الفرار من أرض الوباء قائلا: (وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الفرار من الوباء، ولا يتقرب إلى الله ورسوله بالمنهي عنه، وكل من أمر بالفرار فقد أمر بمخالفة الشرع وأعان الشيطان في ضلاله وإضلاله).
مبينا – رحمه الله- التوجيه العقدي الذي ارتضاه والمتمثل في التسليم بمجاري القضاء والقدر فقال: (وقد قدر الله الحركات والسكنات والأجل والأرزاق والأنفاس، ولن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، ولا ملجأ ولا منجى إلا إلى الله، ولا ينجو منه هارب، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. والرضا بقضاء الله واجب، والإيمان بالقدر واجب خيره وشره).
هذا مع تذكيره بما أعد الله للصابرين في الدنيا والآخرة حيث قال: (ولا شك أن الأجر على قدر الصبر والقيام بالوظائف الواجبة لا تنحصر ولا تعد، وناهيك بالشهادة التي لا يعدلها شيء من الأجور، وفضائلها كثيرة منها أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، يأكلون ويشربون في الجنة، وأنهم يغفر لهم كل ما أذنبوا إلا ما هو حق..)، إلى غير ذلك من وافر الجزاء الذي وعدوا به.
والموقف الأخير المستفاد من هذه الرسالة هو معارضة الحضيكي للقول بالفرار من أرض الوباء والخروج إلى الأحواز والشعاب حيث قال: (وأما الفرار من الوباء على ما هو المفعول في هذه البلاد من التفرق في الشعاب وتضييع المأمورات في المرضى والموتى فحرام بالإجماع لا يحل ولا يقول أحد من المسلمين بإباحته).
هذه إذن جملة من مواقف بعض علماء المغرب في كيفية مواجهة الأوبئة والجوائح جامعة بين طرفي هذا الدين في عقائده وشرائعه، وهو الموقف الأول القاضي بالتسليم بمجاري القضاء والقدر، مع الاستعانة بالتحصن بالتداوي والدعاء وعدم الفرار من أرض الوباء احتسابا وتصبرا، وسنتطلع في مقالة قادمة الموقف الثاني الذي اجتهد أصحابه في تقرير الاحتراز والوقاية من الوباء.
ــــــــــــــــــ
الهوامش:
1 ـ رسالة: سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر- طبعت ضمن مجموع تحت عنوان: “الجواهير العجيبة من تآليف سيدي أحمد ابن عجيبة”- عبد السلام الخالدي
2 ـ المعسول- المختار السوسي- ج/3- ص: 185
المصدر : https://dinpresse.net/?p=8159