د. حمزة النهيري
سبق أن قلت في مؤتمر التراث إن الجابري ظلم مرتين، فقد ظلمه العلمانيون وظلمه الإسلاميون. أما العلمانيون العرب فأرادوا جعله رأس الحربة التي وجهت إلى جسد الفكر الاسلامي العصي على الكسر.
ظلموه وظلموا أنفسهم حين ظنوا أنه رجل الميدان في الحرب على الفكر الاسلامي والدين الاسلامي. وغاب عنهم أنه ليس كمحمد أركون الذي وجه للجابري لوما على محاولته التخفي في نقد العقل العربي عوض العقل الاسلامي. وهذا في نظري تعسف علماني أركوني على الجابري في رؤاه واختياراته الفكرية.
ولاشك أن الجابري رحمه الله كان علمانيا، لكن علمانتيه كانت جزئية لا تعادي الدين.. والدليل صلاته التي كان يواظب عليها وتصريحاته بأن نقد التراث عنده لايشمل القرءان بل يشمل القراءات التراثية في مختلف الفنون والعلوم وهذا نفسه هو جنس ما مارسه المجتهدون المصلحون على مدى التاريخ كابن رشد والغزالي وابن تيمية وابن الوزير.
ندرك يقينا أن الجابري كان ضعيفا في درك العلوم الشرعية لكن هذا لا يعني أنه لم يملك ناصية اللغة والمنهج التي تمكن من خلالها من مناقشة قضايا كبرى، ومقولته المشهورة ستدوي في ءاذان المفكرين إلى ماشاء الله: التراث نملكه ولايملكنا.
ولم يدع الجابري أنه كان فيلسوفا رغم أنه صاحب أول دكتوراه في قسم الفلسفة بالمغرب وكاتب المنهج الفلسفي المدرسي في أيامه.. ، وهو نفس مايمكن أن يقال عن ابن تيمية والغزالي.. فهما فيلسوفان بالقوة والفعل أي بالممارسة والنقد.
و كأي باحث يحترم المنهج العلمي من غير محاباة عقائدية إيديلوجية، ومن غير عواطف فكرية سيعترف للرجل بمكنته العلمية وبصمته في الفكرين المغربي والعربي، وهو رأي يقال أيضا في عقلاء علماء الشيعة كالمرجع حسين فضل الله الذي كفره غلاة الشيعة لأن كثيرا من مقولاته وأفكاره تتجه نحو مقولات أهل السنة، وإنما هي تنشد الحق وتتطلبه أينما وجد .
فالجابري عبر عن مستويات فهمه للشريعة والتراث من خلال سلوك مناهج الفهم والتفهيم، وسؤال الخطأ والصواب شأن آخر، والتفريق بين مستويات الفهم هو ما قرره الغزالي في بعض مقدمات كتبه كمحك النظر ومعيار العلم والاقتصاد في علم الاعتقاد بل إنه أفنى عمره في تقرير قواعد العلم والتعلم.
أما الاسلاميون فهم أيضا ظلموه حين ظنوا أن كل سطر كتبه يعد انحرافا عن المفاهيم الاسلامية فبمجرد رؤية كتبه يظن الظالمون لأنفسهم أنهم أمام كتب الملحدين و الزنادقة المركوزة صورتهم في المخيلة التاريخية.. بل إن بعض من كتب في نقد الحابري صوره للناس وكأنه طفل مبتدئ يركض في ميدان الفكر والفلسفة بكل سماجة وصلافة، مع احترامنا للأقلام التي حاكمت الجابري إلى قواعد العلم والمنهج العلمي.. ، فإذا كان المسلمون لايرون العصمة لأحد من المسلمين إلا للنبي المعصوم، فينبغي أن يطرد فهمهم للتعامل مع هذا الرجل الذي يجوز عليه أن يصيب ويخطئ فإن قلت بأنه يخطئ ولا يصيب فهذا تحكم وتخرص في الاستدلال ولعب في التأويل..
وكما أسلفت فللجميع الحق في أن يختلفوا مع الآخرين لكن ليس لديهم الحق في أن يخالفوهم بظلم، وهذا مادعوت إليه في منشورات سابقة حول التعامل مع أصحاب الأفكار الجديدة والوافدة، فالتنويه بالاعمال لاينافي جردها ونقدها، أما ادعاء أن الجابري لم يأت بجديد يذكر وأنه مجرد مفكر قام بالسطو على أفكار الآخرين فهذا والله لايستحق الجواب ويكتفى بجواب الحكمة النبوية إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
ولسنا نرفع الجابري إلى مقام العصمة الفكرية، لكن العلم يوجب علينا احترام المفكرين الذي مارسوا الفكر بالفعل والقوة وفتحوا أعيننا على قواعد المنهج والتحرير العلمي رغم اختلافنا معهم.
وهل يمتنع عاقل عن الاشادة بعقل أرسطو ودوره في صناعة العقل الانساني وتشييد مباني الفلسفة..!! فالعلم والعدل هو الشعار الذي ينبغي أن يسود وسطنا الثقافي الفكري و نقيض هذا الفكر هو الجهل والظلم واللامنهج.
والله أعلى أعلم.
Source : https://dinpresse.net/?p=8213