ذ. محمد جناي
أمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم كريمة على الله تعالى ، كرمها الله وشرفها على سائر الأمم فخصها بخصائص وشرفها بمزايا وأكرمها بمكارم لم تكن في الأمم السابقة. ومن جملة ما من الله تعالى على هذه الأمة رفع الآصار والأغلال والتي كانت على الأمم السابقة ،وإن كانت داخلة في المقدور والطاقة.
ونفى الله تعالى تكليف عباده مالايطيقون وماليس بوسعهم وقدرتهم ،فليس ثمت حكم مما شرعه الله تعالى خارجا عن طاقة ووسع العباد ،بل كل ماكلفوا به في طاقتهم وقدرتهم. قال الشاطبي في الموافقات :”ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به ،فما لا قدرة للمكلف عليه لايصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا”.
ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية في أصولها وكلياتها وفروعها وحزئياتها لتحقق مقصدا عظيما وهو أن هذا الدين دين اليسر والسماحة،حتى قال الإمام الشاطبي في الموافقات : ” أن الأدلة على رفع الحرج على هذه الأمة بلغت مبلغ القطع “.
ومن خلال جمع الأدلة من الكتاب والسنة يمكن القول أن الكتاب والسنة النبوية الصحيحة قد دلا على أن الإسلام دين اليسر من خلال النقاط التالية:
الأولى: وصف الإسلام بدين اليسر والسماحة
حيث تظافرت الأدلة عل نعت ووصف دين الإسلام أنه دين اليسر والسماحة ومن ذلك:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلاغلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا”. وحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: “قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم :أي الأديان أحب إلى الله ؟قال “الحنفية السمحة “. وحديث أبي أمامة رضي الله عنها وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :” إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصراية ، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة “. وحديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة “. وحديث محجن الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره،إن خير دينكم أيسره”.
قال الشاطبي : وقد سمي هذا الدين “الحنيفية السمحة لما فيها من من التسهيل والتيسير “. وقال ابن حجر: “أحب الدين أي خصال الدين؛ لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ماكان منها سمحا -أي سهلا- في هو أحب إلى الله “.
الثانية : رفع الحرج في هذه الشريعة
وقد جاءت الأدلة الشرعية مقررة ومؤكدة نفي الحرج في أحكام هذه الشريعة . ومن تأمل هذه الأدلة لنفي الحرج يجد أنها وردت على سبيلين :
الأول : سبيل العموم في بيان حال الشريعة وأنها جاءت بكلياتها وقواعدها وأحكامها نافية لكل حرج .
الثاني :.على سبيل تعليل آحاد الأحكام فعند عرضها ومافيها من التيسير يأتي التعليل أن هذا الحكم إنما لرفع الحرج في هذه الشريعة ،فيفيد عموم نفي الحرج بالتعليل وإن جاء لمناسبة خاص.
الثالثة: رفع العنت في هذه الشريعة
جاءت الأدلة بنفي العنت ( الضيق والشدة وهو الوقوع في أمر شاق) في الشريعة كما قال الله تعالى : فِے اِ۬لدُّنْي۪ا وَالَاخِرَةِۖ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ اِ۬لْيَتَٰم۪يٰ قُلِ اِصْلَٰحٞ لَّهُمْ خَيْرٞۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ اُ۬لْمُفْسِدَ مِنَ اَ۬لْمُصْلِحِۖ وَلَوْ شَآءَ اَ۬للَّهُ لَأَعْنَتَكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ *.
قال ابن قتيبة : وَلَوْ شَآءَ اَ۬للَّهُ لَأَعْنَتَكُمُۥٓۖ ) أي ضيّٓق عليكم وشدد ،ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم . فدلت الآية على أنه سبحانه لم يشأ ذلك رحمة وتيسيرا منه.
الرابعة : اليسر والسماحة من مقاصد الشريعة
يسر الإسلام وإظهار سماحته ورفع الحرج من أتباعه من أظهر المقاصد لهذا الدين ، حيث جاء بيانه في كتاب الله تعالى نصا صريحا كما في آيات كتاب الله الكريم .
قال الله تعالى :*يُرِيدُ اُ۬للَّهُ بِكُمُ اُ۬لْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ اُ۬لْعُسْرَۖ*. وقال تعالى : * مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ*. وقال تعالى :*يُرِيدُ اُ۬للَّهُ أَنْ يُّخَفِّفَ عَنكُمْۖ وَخُلِقَ اَ۬لِانسَٰنُ ضَعِيفاٗۖ*
ومن تأمل هذه الآيات الثلاث وجد أنها دلت على وصف دين الإسلام باليسر والتخفيف ونفت عنه العسر والحرج ،وكلها وصفت ذلك بأن الله يريده لنا ،والإرادة من أقوى الألفاظ دلالة على المقاصد.
الخامسة : الإسلام دين الرحمة
ومن الرحمة بالمكلف التخفيف عنه وعدم المشقة عليه. وإن من أعظم مقاصد الشريعة الرحمة بالخلق، رحمتهم في الدنيا بالسعادة في ظل طاعة الله وفي الآخرة بلقاء الله والفوز بجنته، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم إنما كانت لتحقيق هذه الغاية، فما كانت إلا رحمة من الله للعالمين قال الله تعالى : وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةٗ لِّلْعَٰلَمِينَۖ* .
السادسة : هديه صلى الله عليه وسلم حب اليسر وعمله والأمر به
جاءت الأحاديث في السنة النبوية الصحيحة تبين أن من معالم هديه صلى الله عليه وسلم حبه لليسر ،وعمله به هو وأمره أصحابه وعموم أمته بسلوك طريق اليسر والسهولة والسماحة. ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت : “ماخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما “رواه البخاري.
وعند تأمل هذه الحديث وأمثاله مع شروح أهل العلم لها يدرك ماجبله الله عليه صلى الله عليه وسلم من حب اليسر والتيسير واختياره له دائما ،وأمره لأصحابه وأمته به عموما وعماله ومبعوثيه وسفرائه خصوصا ، ومعالجته صلى الله عليه وسلم للحوادث والمواقف باليسر واللين والسماحة. قال القاضي عياض في شرح حديث عائشة رضي الله عنها (فيه الأخذ باليسر والأرفق ،وترك التكلف وطلب المطاق ،إلا فيما لايحل الأخذ به كيف كان ).
السابعة: تركه صلى الله عليه وسلم أمر أمته بأوامر مع محبته لها خشية المشقة عليهم
جاء في سنته صلى الله عليه وسلم محبته لبعض من وجوه الخير والبر لعظيم نفعها وكبير مصلحتها ،ثم لا يأمر بها أمته لخشيته أن تصيب أمته المشقة من لزومها ومن ذلك : حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(لولا أن أشق على أمتي ،أو على الناس ،أو على المؤمنين لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ). رواه البخاري
فهذا الحديث وغيره من الأحاديث واضحة الدلالة أن مافعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به أمته أمر إيجاب مع محبته له إنما كان سبب امتناعه هو خوف المشقة على أمته ،كما قال ابن بطال شارحا “فامتنع من أمرهم بذلك لوجود المشقة بهم عند امتثالهم أمره “.
الثامنة :يسر الشريعة ظاهر في قواعدها العقدية والأصولية والفقهية
هذه القواعد مستقرأة و مستوحاة من الكتاب والسنة النبوية الصحيحة ،فهي من وحي الشريعة الناطق بأصولها وفروعها، فمن هذه القواعد :
القاعدة الأولى : الأصل في العبادات التوقيف
ومعنى القاعدة أي أنه لايشرع ولاينسب إلى الشرع تكليف بعمل فعلا أو تركا ،إلا أن يكون قد شرعه الله تعالى في كتابه أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا يصح أن ينسب إلى الله ورسوله إلا ماصدر عنهما من خلال الكتاب والسنة ،كما لايجوز أن يتعبد لله تعالى إلا بما شرعه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
القاعدة الثانية : الأصل في المعاملات الحل
ومعنى القاعدة أن الأصل في المعاملات المالية وغيرها التي تجري بين العباد الحل وعدم المنع حتى يأتي دليل شرعي معتبر دال حرمتها.
وهذا الأصل في الحل عام في حل أصلها وصفتها وشروطها.حتى يأتي دليل يحرم ويمنع المعاملة في أصلها أو يمنع منها وصفا أو شرطا.
القاعدة الثالثة : الأصل في المنافع والمأكولات والمطعومات الحل.
ومعنى القاعدة أن كل ماخلقه الله تعالى على الأرض من المنافع والمطاعم والمآكل والمشارب وغيرها الأصل أنه مباح العين والتملك و الانتفاع للخلق بكل صور الانتفاع، لايجوز لأحد أن يحكم بحرمة شيء منها إلا بإقامة الدليل المخصص بإخراج ذلك الشيء من عموم الحل الأصلي إلى خصوصية التحريم لذلك الشيء.
وأخبر الله تعالى فضلا منه ومنة ونعمة أن كل ماخلق على هذه الأرض أنه لنا، ولايكون لنا إلا وهو مباح الاستمتاع به والانتفاع به فقال سبحانه:* هُوَ اَ۬لذِے خَلَقَ لَكُم مَّا فِے اِ۬لَارْضِ جَمِيعاٗۖ*.
وجاء الإنكار في كتاب الله تعالى عن من رصدوا أنفسهم محرمين لما أحل الله على خلقه فقال سبحانه:*قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَ۬للَّهِ اِ۬لتِےٓ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ اَ۬لرِّزْقِۖ *.
وختاما:
نقول إنه لا يجب على الإنسان شيء إلا إذا كان تحت قدرته، وأما ما لا يقدر عليه فإنه غير مكلف به. وبعد.. فهذه نظرات في بعض من وجوه عظمة التشريع الإسلامي، وموافقته مقتضى الفطرة البشرية، وما تتصف به من توسّط بأتباعها بين الغلو والجفاء، آخذة بأبنائها طريقاً لا يقطعهم عن نيل مقاصدهم البشرية، ولا يقعدهم عن تبتلاتهم الروحية، مشبعة حاجة الجسد والروح في تناسق مبهر واتساق فريد.
ـــــــــــــــ
المصدر :كتاب -يسر الشريعة المعالم والضوابط – تأليف عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم العويد
المصدر : https://dinpresse.net/?p=9557