ذ . رفيق نديري، باحث في سلك الماستر
يعتبر كتاب “بؤس الدهرانية” من أهم الكتب الفلسفية داخل الـمشروع الفكري للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان، حيث صدر سنة عن الشبكة الغربية للأبحاث والنشر(1)، حيث يواصل فيه طه عبد الرحمان نقده للحداثة في واقعها ومشروعها الذي يباشر فصل مختلف مجالات الحياة عن الدين، فبعد كتاب “روح الدين”(2)، الذي محص قول العقلانيين بفصل مجال السياسي عن الدين، أفرد الكتاب الذي بين أيدينا للدعوى التي تقول بفصل المجال الأخلاقي عن الدين، واضعا له اسما خاصا هو <<الدهرانية>>، فاستخرج الصيغ المتعددة التي اتخذها هذه الدعوى ، والتي اختلفت باختلاف تصوراتها لعلاقة الإله بالإنسان، مفصلا الإعتراضات التي تتوجه على هذه الصيغ والتصورات الدهرانية جميعا.
ويتميز هذا النقد بسمتين أساسيتين: أحدهما أنها بني على نظرية فلسفية وضع هذا المفكر المبدع أسسها ومبادئها ومسائلها وهي <<النظرية الائتمانية>> والثاني أنه شمل أيضا المقلدين من مثقفي الأمة لمفكري الدهرانية، فكشف مساوئ العبودية الفكرية التي وقعوا فيها، بدءا من البؤس، في الأفكار وانتهاء باليأس من الإستقلال، وقد استهل كابه بسؤال مركزي، هو ما هو النقد الإئتماني للحداثة؟(3)، حيث يشير على أن من آليات التي وتسلت بها الحداثة في إقامة مشروعها الدنيوي<<آلية تفريق المجموع>>، أو قل <<آليه فصل المتصل>> حيث لما كان الدين يتصل بمختلف مجالات الحياة، وكان اتصاله بهذا يتخذ أشكالا متفاوتة “فقد انبرت الحداثة لهذه الأشكال المختلفة من الإتصال، ليعطل قانون الدين في هذه المجالات الحيوية، حتى تستقل تلك المجالات نفسها تدبيرا وتقديرا”(4).
متى سلمنا بأن العقل ليس ذاتا مدركة، وإنما فعلا إدراكيا، وفي هذا يقول طه عبد الرحمن “جاز لنا أن نقول إن عقل الحداثة ليس عقل ما قبل الحداثة ولا قبلها ولا عقل ما بعدها”(5)، كما نقول “ليس فعل الحداثة فعل ما قبلها ولا فعل ما بعدها”(6)، الفيلسوف المغربي يريد القول من خلال ما جاء به أن الأفعال يغلب عليها التغير، بينما الذوات يغلب عليها الثبات؛ وقد نتصور أن تختلف الأفعال باختلاف هذه الحقب التاريخية، والملاحظ حسب طه عبد الرحمن أن عقل ما قبل الحداثة اختص بكونه يصل الأشياء بعضها ببعض، طالبا تركيبها في مزيج شامل أو تأليفها في وحدة كاملة، حتى أنه يعتبر لفظ العقل بالنسبة لهذه الحقبة مرادفا للفظ الوصل إذ تعقل الأشياء فيها بطريق وصل بعضها ببعض، بل على قدر وصلها يكون عقلها، كأن القانون الذي يحكم الإدراك فيما قبل الحداثة هو عقل القلب على الأشياء لا نقدها”(7).
وفي هذه المسألة المتعلقة بالربط نستحضر الآية الكريمة: (وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، سوره الكهف لآية 14، إذ يستفاد من هذه الآية أن الربط على القلب هو حفظ ما انعقد عليه أو حفظ ما عقله، أي أن هذا الربط عبارة عن تثبيت العقيدة أو تثبيت العقل.
ويوضح ذلك أكثر الفكر الطهأئي بقوله “لا يخفى أن الإنفصال – أو الإنعقال- عن الدين قد يسلك طريقين اثنين:
أحدهما: أن يكون انفصالا عن <أرباب الدين>
والثاني: أن يكون انفصالا عن <أركان الدين>”(8).
فطه عبد الرحمان يقتصر هنا علي المقاربة الدهرانية التي تعادي الدين المنزل، حتي تبين كيف يتعاطى فصلها بين الأخلاق والدين من الحقيقة الإيمانية، حيث يقول في هذا الصدد “أما الدهرانية التي لا تبالي بادين المنزل، شكلا أو جهلا، أو تعاديه، سرا، أو علانية، في ابتداء تضع نفسها خارج مجال الإيمان”(9)، ويأتي طه عبد الرحمان ليوضح ذلك من خلال عدت مسلمات يقول وه طه “نحدد هنا أدنى قد رمت المسلمات التي نبني عليها نظرنا في الدهرانية؛ والخلو عن المسلمات في أي مجال أمر معتذر ، فما الظن بمجال الدين والأخلاق الذي هو أعلق بحياة الإنسان! وندعوها بالمسلمات <النقدية> ويقسمها طه عبد الرحمان إلى ثلاثة:
أولها: مسلمة التبديل الديني؛ مقتضاها أن الدين المنزل يتخذ صورتين حسب طه عبد الرحمان الصورة الفطري، وهي الصورة التي نزل بها هذا الدين، أول ما نزل، إيمانا وأعمالا”
أما الثانية الصورة الوقتية: وهي الصرة التي يتخذها الدين في كل فترة تفصل أهله عن الرسول الذي جاء به.
والمسلمة النقدية الثالثة(10) هي مسلمة التخلف المزدوج، مقتضاها أن كلتا الصورتين المذكورتين للدين: الفطرية والوقتية، تختص بوجه معين من وجوه الصلة بالأخلاق؛ والأصل في الصورة الفطرية أن ينطلق الدين مند داخل الإنسان، متجها إلى خارجه، بينما الأصل في الصورة الوقتية، أن ينطلق الدين من خارج الإنسان متجها إلى داخله، بحيث يورثه، ابتداء، الأخلاق الظاهر، ثم يجعله يبني عليها أخلاق الباطن”(11).
ان القول بثبات الأخلاق الدينية لثبات الإله وسعر بأن الأخلاق الدينية، لا تشكل أخلاقا اجتماعية حقيقية، ولو أن <دوركهايم> يصل في مواضع أخرى بين الديني والإجتماعي ولا قويا(12)، والحال أنه إذا صح أن الأخلاق الإجتماعىة في هذه الأخلاق أهر منها في غيرها حتى لو كان تغيرها أقل ظهورا؛ والشاهد على ذلك تعدد الشرائع والمناهج المنزلة وتعاقبها ونسخ بعدها لبعض، وتواصل تأثيرها في المجتمعات على اختلاف فيما بينها؛ ثم إن هذا القول حسب <طه عبد الرحمن> “يبني مسلمة باطلة وهي أن الثابت لا ويلد إلا الثابت، وليس الأمر كذلك فقد تولد منه التغيير كما يتولد منه الثابت، كما أنه يصح في حق الإله أن يتفرد بالثبات والبقاء، بينما كل ما عداه من الأثار الموجودة تتغير ويفنى”(13)، وبه نستنتج أن <طه عبد الرحمان> ركز أن الثابت في الدين يبقى ثابت وبه يقول “أن القول بتغير الأخلاق حسب النماذج الإجتماعية يسعر بتفوق الأخلاق المتغيرة على الأخلاق الثابتة، والحال أنه لما كانت الأخلاق هي مجال الواجبات والقيم كانت أولى بالثبات منه بالتغيير، لأن الواجب أو القيمة تجعل الإنسان يرتقي عن واقعه، وهذا الإرتقاء لا يحقق له مزيدا من التخلف إلا متى أقام في الرتبة التي ارتقى إليها”(14).
كما أن القول بتقلب الأخلاق في المجتمع الواحد يشعر بأن صورتها الأولى لا تمتاز على غيرها كما تمتاز الصورة الفطرية في الصورة الوقتية للدين، والحقيقة أن الصورة الأولى ربما تضمنت خصالا منتجة وقياما مبدعة جوهرية توالى عليه الزمن، فأخرج الخصال عن انتاجاتها والقيم عن إبداعاتها ومن ثم، فإن التحيز الذي لحق الأخلاق الدينية في شكل تدهير لا يدل ، بالضرورة على مزيد الإنتاجية الخلقية الإبداعية المعنوية، بل قد يدل على النقص، فيهما، مع العلم بأن الإنتاجية الخلقية لا تقاس بالإنتاجية، الخلقية لا الإبداعية المعنوية تقاس بالإبداعية المادية”(15).
ومن أجل تقريب هذا للقارئ أكثر استشهد طه في كتابه هذا <بفيري> الذي يفرق بين <الدين الفلسفي> أو <الدلين الروحاني> و<الدين التاريخي>، أما الدين الفلسفي فهو الدين باعتباره استعدادا <ما ورائيا > أو <ميتافيزقيا> ملازما للإنسانية لا ينفك عنه، وحافظا للصلة القائمة بين المتناهي واللامتناهي لا يقطعها؛ وأما الدين التاريخي فهو بوصفه تنظيما اجتماعيا وسياسيا مرتبطا بلحظة تاريخية مخصوصة، تنظيما يتميز بقانون يتسلط من خارج إرادة الإنسان، ولا تزال أثاره تضمحل حتى يغدو ماضيا للا يعود”(16).
وقد بنى طه عبد الرحمن تصوره على مبادئ خمسة، وكل مبدأ منها يعارض خاصية في واحد على الأقل في التصورات الدهرانية المعروفة؛ سنقف على كل مبدأ لوحده ونفصل فيه أهم القضايا الأساسية المذكورة في الكتاب:
أولها: مبدأ الشاهدية:
إن مقتضى هذا المبدأ الائتماني الأول هو “الشاهدية الإلهية أصل التخلف حسب طه”(17)، إذا كنا الأنموذج الدهراني بصيغه الأربع ينكر الأمرية الإلهية، فإن النموذج الائتماني، على عكسهما يقر بهذه الأمرية باعتبارها الأصل في وجود القواعد الأخلاقية بل يقر بصفة إلهية أخرى تقارنها وهي ما سماه طه عبد الرحمن ب<<الشاهدية>> جاعلا منها أساس علمية التخلف الإنساني، على خلاف الأمر الإنساني الذي يلزم من أمره أو نهيه أمه يراقب بنفسه إقامتها، فإن الأمر الإلهي سبحانه لا تفارق مراقبته أوامره ونواهيه، فهو يأمر ويرى أو يشهد حسب طه :ظاهر الأعمال التي يأتيهما المأمور فحسب، بل يشهد أيضا خفي باطنها حاكما عليها بالصلاح فيقبلها، أو بالفساد فيردها، فلولا شهادة الإله لهذه الأعمال وشهادته عليها، لما تم للإنسان تخلق ناهيك عن كمال التخلف”(18).
ومن خلال ما سبق يمكن أن نستنتج ما مفاده أن الإنسان يتخلق بحصول هذه الشهادة الإلهية التي تأتي بفضلين، حسب تعبير طه عبد الرحمن، <<فضل النظر الإلهي، وفضل الحكم الإلهي>>، ورغم وجود هذه الصلة البينة بين التخلق الإنساني والشهادة الإلهية، فإن الأوامر الإلهية التي هي القواعد المتبعة في التخلق، استأثرت بالإهتمام إلى حد بعيد في حين لم تعتبر الشهادة الإلهية التي هي السبب الحقيقي في الموصل إلى هذا التخلف، وإلا فلا أقل من أن النظر في الأمرية غلب على النظر في الشهادية الإلهية(19)، ومنه فإن الشهادية الإلهية عامة، أي كونها تشمل بنظرها وحكمها جميع الأعمال المخلوقات.
وهكذا يستنتج طه عبد الرحمن في هذا المبدأ، نتيجتين مهمتين، إحداهما: أن القيم والمعاني الأخلاقية تتحول إلى قيم ومعاني جمالية، أي أن التخلق ينقلب إلى تجل، بحيث يصبح الإحساس الوجداني مصدر اتصال، لا مصدر انفصال.
والثانية: أن القيم الجمالية تتحول إلى قيم معرفية، أي أن التجمل ينقلب إلى تعرف، بحيث يصبح الإدراك المعرفي مصدر رحمة لا مصدر قوة(20).
بهذا يكون مبدأ الشاهدية الذي وضعه طه تقف على إمكانية التحول الجمالي للقيم والمعاني الأخلاقية، وظلت تنظر جميعها إلى الأوامر والنواهي الإلهية على أنها مجرد مطالب خارجية تقهر إرادة الإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – طه عبد الرحمان، النقد الانتمائي لفصل الأخلاق عن الدين الشبكة الغربية للأبحاث والنشر-بيروت، الطبعة الثانية، ص2.
2 – طه عبد الرحمان، روح الدين، من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية المركز الثقافي العربي.
3 – طه عبد الرحمان، بؤس الدهرانية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الثانية، 2014، ص 11.
4 – نفسه ص….
5 – طه عبد الرحمان، بؤس الدهرانية، مرجع سابق، ص 28.
6 – نفسه.
7 – ننبه إلى أننا نرجع هنا في استعمال اللفظتين، العقد والنقد، إلى معناهما اللغوي، فالمدلول الأصلي للفعل نقد الشيء هو نقره مختبرا له ذكرها طه عبد الرحمان في البؤس ص 28.
8 – المقصود بأركان الدين الأسس والمبادئ التي تقوم عليها.
9 – نفسه، ص 32.
10 – ليس المقصود بصفة النقدية ان المسلمات المذكورة تدور حول موضوع النقد، وإنما النقد الذي تقوم به للدهرانية يجري على أساسها حسب طه عبد الرحمان.
11 – طه عبد الرحمان، بؤس الدهرانية، مرجع سابق، ص 43
12 – يبدوا أن دوركهايم، بهذا الرأي يخالف أغلب توجهات الدهرانيين، إذ يعتقد هؤلاء أن هناك أخلاقية ثابتة أو خالدة وهي التي ينبغي أن تشكل أساس (الأخلاق الدهرانية)
13 – طه عبد الرحمان، بؤس الدهرانية، مرجع سابق، ص 49.
14 – طه عبد الرحمان، بؤس الدهرانية، مرجع سابق، ص 50.
15 – نفسه، ص 53، بتصرف.
16 – lucfery, et marcel guchet: le rellglux après le religion, pp, 22-30.
17 – طه عبد الرحمان، بؤس الدهرانية، مرجع سابق، ص 94.
18 – طه عبد الرحمان، بؤس الدهرانية، مرجع سابق، ص 94.
19 – نفسه ص95، بتصرف
20 – نفسه ص 94.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=8245