القراءةُ ورطةٌ والكتابةُ فاجعةٌ. سيصاب القارئ باستغراب كبير من عبارتي الورطة المضافة إلى القراءة، والفاجعة المضافة إلى الكتابة، لن أستطيع تحديد مقياس الاستغراب وشدته، إنما سأجعلُ نفسي مكانه (القارئ) كقارئ لهذه المقالة فأتساءل سؤالين يفرضان نفسهما، الأول: ما المقصود بالورطة في القراءة؟ والثاني: ما مَظْهَرُ الفاجعة في الكتابة؟ سؤالان مَخْلَصُهُمَاإزالة الاستغراب واللبس، وتقريب القارئ من مقصد الورطة ومَظهرِ الفاجعة، وفي الأصل إن السؤالين يشقان طريقاواحدا لتحقيق مهمة عويصة وشديدة، أساسها السعي إلى توريط القارئ في ورطة لا مخرج لها، وإيقاعه في دائرة فاجعةٍلا نجاة منها. فالقراءة والكتابة فعلان متواشجان لا ينفصلان، قلَّما تجدهما يتمثلان في قارئ أو كاتب معين، هما فعلان صَعْبَا التحقق، بوصفهما فعلين معقدين يستمدان من بعضهما البعض، غايةَ الإسهامِ في إنتاج أدب لا متناه، وخَلقِ نصوصٍ خصيبةٍ ومتناسلةٍ، لا نهائية في قراءتها، ولا ملل في إعادة تفكيكها وقطعها وتفتيتها، والعمل على جمعها وتمديدها وابطائها، هي عملية قرائية معقدة تضم القراءة والكتابة في آن، ويتداخل فيها الخيالي بالواقعي، والأدبي بالفكري، ومن ثمةانتساب الفعلين إلى اللانهائي، وهاته العملية المعقدة هي سر الورطة وسبب الفاجعة.
أولا: ورطة القراءة:
بالحديث عن ورطة القراءة نورد عبارة وردت في مرايا القراءة لخالد بلقاسم على النحو التالي: “القراءة ورطة غريبة لا خارج لها”. يتحقق من هذه العبارة أن القراءة تحجبُ نفسها عنا دائما، وتختبئ في العتمة، وتظل ساكنة فيها، وتركن في المتاهة، وتمنو فيها، ولا تعطيك نفسها بسهولة، إنها رافعة رأسها، تتعالى ولا تُظِهر إلا قبسًا من قبساتها اللامتناهية، وإذا تمثل هذا القبسُ القرائي في القارئ فقد عثرت فيه القراءة على بعض أسرارِ نهرها الكبير،القراءة بهذا ليليةٌ، والليل في الثقافة العربية يوحي بالرعب والخوف والمعاناة، وعدم الأمن، وكانت العرب تقول: “وعند الصبح يحمد القوم السرى”، والمأثور شعرا ما جاء في قول إمرئ القيس:
وَلَيلٍ كَمَوج الْبَحْرِ أَرْخَى سُدُولَه عَليَّ بِأَنواعِ الهُمُومِ لِيَبْتَلِي
الليل هو الوجهُ الحقيقي للمعنى والقراءة، وجهٌ منذورٌ للانتساب إلى الغياب، الذي تغيب فيه القراءة، باعتبارها ورطة غريبة لا خارج لها، والغريب هو ما نخشاه دائما، ولا قدرة لنا على مواجهته ما لم نكشف غرابته، وما يكون غريبا يكون بعيدا، وقد سمي الغراب غرابا لبعده عن الناس وغرابة شكله، ونقول غروب الشمس معناه بعدها عن وجه الأرض، وجاء في مقاييس اللغة قول العرب: “هل من مغربة خبر؟”، يريدون بذلك خبرا أتى من بعد، ومعناها في اللسان خبر أتى من بلد آخر، ويقال: أَغْرِب عني، أي تباعد، والغرباء الأباعد، والغريب هو الغامض من الكلام، وجاء في الحديث: “طوبى للغرباء”، ونتمثل هذه المسائل في ورطة القراءة الغريبة التي لا خارج لها، وكون، معناه أنها غريبة وبعيدة عنا، ولن تقترب منا ما لم تتحقق فينا شروط القراءة، وما لم تجد فينا قبسها، وعثرت فينا على بعض أسرارها.
ورطة القراءة متجلية أساسا في عدم وجود مخرج للنجاة منها. إذا دخلت إليها فلا خارج لها، تُدخِلك في متاهاتها المظلمة، وتعذبك في عتمتها الليلية، وتظل في عالمها المجهول غريبا، ولكي تتجاوز الغرابة لا بد أن تكون مألوفا، بالاقتراب منها وكسر التباعد بينك وبينها، ومن الضروري أن تزيل غرابتها، وأن ترفع رأسها، فدخولك عالم القراءة، بمثابة نشوب حرب لا تهدأ نارها. إنك تتورط في حرب لا دراية لك بقوانينها وحيلها، ستستسلم حتما؛ لأنك دخلت إلى مكان غريب تجهل أسراره، ولا تعقل تجلياته وأماكنه.
لا خيار أمام القارئ الذي تورط في عالم القراءة، إلا الانتصار أو الهزيمة، فالانتصار معناه الحياة، والحياة في القراءة هي حيوات لا متناهية، والهزيمة في عالمها موت وذل ومهانة وضياع، وليس غريبا أن يقع هذا، لأنه يستحيل مواجهة شيء غريب لا يُظهر لك غرابته ومجاهيله. ومهمةُ الإظهار تُحمَل على عاتق القارئ، لكي يتمكن من تجاوز الورطة، وجعل القبسِ القرائي مضيئا في المتاهة التي يسكن فيها.
وإذا استطاع القارئ أن يضيء قبس القراءة، سيتمكن من إدراك وجهها الحقيقي، بوصفها ليليةً وغريبة، وسيتأتى لهأمر العثور على نهرها الكبير، ومن ثمة ستعثر فيه هي على سر من أسرارها، وعليه، “فتَحقُّق القراءة، الذي ليس سوى تجلِّمن تجلياتها اللانهائية، معناه بزوغ قارئ خليق بهذه الصفة، إنّه بزوغ نادر قلّما يستوي، وكلّما استوى، يكون، في الآن ذاته، قبسا من لا نهائية القراءة، وتجسيدًا لدمغة قارئ عثر، داخل المشترك الذي يجمعُه بمن تحقّقت فيهم صفة القارئ، على ما يؤمّن تفرّده، استحقاق الصّفة متوقّف على الدمغة الذاتيّة” مرايا القراءة، ص6.
القُرّاء نادرون وقليلون جدا، وأقصد بهم الذين استطاعوا النجاة من الورطة الغريبة، وتجاوز عقباتها، فقد تجلّت فيهم لا نهائية القراءة، وأصبحوا خلقين بتلك الصفة، التي ترفع رأسها وتتعالى عنهم، ويتجسد فيهم تجلّ من تجلياتها اللانهائية، ويمسون قارئين مستحقين لصفة دمغة القارئ، فأولئك هم الفائزون، الذين يحملون على عاتقهم مهمة شديدة ومعقدة، وهي جعل النصوص المقروءة نصوصا تحيا حيوات لا متناهية، بكشف كل ما خبا فيها، وفتحها على احتمالات مجهولة، تظل حية وغريبة في آن، مما يحقق لها الحياة في المستقبل، بوصفها قادمة منه. هي كتابات غير محصورة بزمن الكتابة، دائما ما تبقى منفتحة على آفاق ممتدة، وبالأحرى الانتساب إلى أزمنة اللانهائية.
والقراء المتورطون في ورطة القراءة كثيرون، وأولئك هم الخاسرون، لا تنظر إليهم القراءة، ولا ترحب بهم، ولن تسلهم نفسها، يظلون منتكسين ومرعودين ومرعوبين ومهانين، لا يجدون لذة ومتعة في القراءة، ولا يصلون إلى حد الارتعاش، وكأنهم يأخذون مع القراءة قبلة من وراء زجاج، لا تُحدث أثرا ولا تحرك مشاعر، هذا هو المقصد من ورطة القراءة، فهي معقدة توقع بقرائها في متاهة النسيان.
ثانيا: فاجعة الكتابة:
الكتابة فعل قرائي لا ينفصل عن القراءة، وهيكما جاء في مرايا بلقاسم، نهر كبير لا مُتناه، يصعب على الكاتب إدراك خواصه، والتطلع إلى الغوص في أعماقه، وتأخذ الكتابة صفة اللانهائي، للمحامل الدلالية التي يولدها القارئ، أي أن كلّ كتابة _كما قال بورخيس_ عبارة عن مسودة، كلما قرأها صاحبها إلا وأعاد فيها النظر بالزيادة أوالنقصان، ففكرة الانتهاء في الكتابة مسألة غير واردة لدى مَنْ عثرت فيهم الكتابة والقراءةُ على أسرارها. والذين يُقرّون بانتهاء مكتوباتهم يسقطون أنفسهم في متاهة النسيان، والذين يعيدون النظر فيما يكتبون يلقون بأنفسهم في فاجعة مهولة، يطرحون فيها سؤال: هل أنا من كتبت هذه الأشياء؟ وهذا ما يشير إليه طه حسين، حيث يقول: إنه لا يعيد قراءة ما كتب، لشعوره بالذعر والخوف، والشيء نفسه عند كيليطو، فإنه يجد حرجا كبيرا في إعادة قراءة صنيعه، خوفا من فاجعة إعادة الكتابة. الكاتب لا يشعر بالراحة والطمأنينة، يظل متتبعا لما كَتب، خشية عدم توفيقه في إثارة القارئ واستمالته، إنه يتألم ويتحسر ويتأزم، يعيش حربا كتابية معقدة.
إن لِفَاجعة الكتابة مظهرا واحدا، يتجلى في أن الكاتب يواجه عدوًّا شرسا، هو القارئ، فأثناء الكتابة يضع الكاتب في ذهنه خطر قارئه، فهو أفجع ما يمكن مواجهته، لأن موت الكتابة موتٌ لكاتبها، والذي يملك حرية الموت ههنا هو القارئ، وإذا ما علم بأسلوب الكاتب وآلياته وحيله فسينقض عليه حتما دون رحمة وشفقة، سيحصره ثم يقتله ويلقي به في مكان الكتاب الميتين. والقتل مرتبط بشعور بالقارئ الملل والكلل من الكتابة المألوفة. وعليه، فأساس الكتابة أن تنفتح على مجهولات متعددة، وأن تتناسل مع احتمالات مغيبة، وأن تتجاذب أطرافها مع خيوط فكرية وخيالية، ومن ثمة، إن الكتابة خصيبة، تتوالد منها كتابات أخرى، وتتحاور مع ثقافات متباينة. مظهرُ الفاجعة أن الكاتب في صراع دائم مع قارئه، وليس كل قارئ له القدرة على المواجهة، بل ينبغي أن تتمثل فيه أسرار القراءة، وأن يتجاوز الورطة الغريبة.
يعيش الكاتب فاجعة دائمة لا منقطعة، ليس أثناء الكتابة فقط، بل هي فاجعة آتية من المستقبل، وساكنة فيه، يبعث صداها قارئ تبدت فيه الدمغة القرائية. فالكلمة أثناء الكتابة حرب مفجعة، يكون بطلها شخص واحدـ، إما كاتبها أو قارئها، الأول يُعِدّ عُدَّتَهُ للمواجهة، ويتسلل إلى الثاني ويستميله، ويقترب منه، والثاني يأخذ مهمة التأويل والنفاذ إلى عمق الكلمة، ويمددها ويفككها، ليولد منها ما لا نهائية من المعاني، ويخصبها لتتولد منها احتمالات مجهولة، ويفتحها على متاهات مضيئة، ويجعلها متناسلة ولا متناهية. إن مهمة الكتابة هي النسج والخياطة من جهة، وإبراز أهمية إعادة الكتابة في قراءة الثقافات وسماع أصدائها الممتدّة من جهة أخرى، وبالعثور على وشائج متواردة في النصّ المقروء ثالثا.
ومجمل القول: إن الورطة في القراءة مرتبطة بقدرة القارئ على تجاوز ورطتها وغرابتها، والوصول إلى إضاءة قبسها الليلي، ومن ثمة الانتساب إلى مشترك الذين وجدت فيهم القراءة أسرارها. والفاجعة في الكتابة متجلية في الحرب المفجعة التي يخوضها الكاتب مع عدوه القارئ الخليق بصفة الدمغة، والقادر على قتل الكتابات أو جعلها حية.
جعفر لعزيز ـ طالب باحث في صف الدكتوراه
Source : https://dinpresse.net/?p=8782