ونسي الأطراف المنتمون لاتجاهات إسلامية، أن الإسلام بحد ذاته ينص على أن يكون للمسلمين إمام يرجعون إليه في تدبير شؤونهم الحياتية والدينية، كما العلمانيون لا يَعون أي خطأ ينزلقون فيه بدعوتهم فك ارتباط المغاربة عن مشروعهم السياسي التاريخي، يقول بعض الباحثين : “إن إمارة المؤمنين كسلطة ومؤسسة، هي دعامة الوحدة الوطنية والضمانة الفعلية والواقعية لتحقيق أمن المغاربة الروحي والسياسي”، فالتنازل عن هذه المؤسسة بمقوماتها واستراتيجياتها إنما هو قصم لوحدة البلاد والإجهاز على أمنه واستقراره.
حتى وإن حاولنا التفكير في إمكانية إلغاء هذا الرابط الروحي بين الملك وشعبه، هل سيكون حال المغرب أحسن من حال أشقائه من بلدان العرب؟ هل سيضمن لنا هذا الانفصال تماسكا من نوع آخر يؤمن للوطن وللمواطنين الأمن والطمأنينة ؟ وفي ظل من؟.
إننا إذا نظرنا إلى كون هذا الارتباط تقاليد لم تعد تواكب العصر، فهي في الواقع لم تظل جامدة في عصر محدد، بل كانت دائما تتجدد بتجدد الحداثة مع الحفاظ على طابعها الأصيل، وظلت برونق طقوسها تبهر العالم بهذا التلاحم الرباني بين الإمام والمأموم، وتخطت حقب الإقطاع التي عرفتها أوربا التي رزحت عهودا طويلة تحت سيطرة المُلاك والإقطاعيين على رأسهم الكنيسة، التي لحد الآن لم تغير دستورها مع توالي الزمن إلا لماما، والتي قام اقتصادها على نظام جبائي، طالما أرهق كاهل أرباب المؤسسات والكنائس التابعة لها، يرأسها البابا الذي يخدم المسيح في مقر مقدس تحج إليه جموع غفيرة من المؤمنين الكاثوليك، وهو في العمق يأوي أكبر المفسدين على الأرض انحرافا وشذوذا، ضاربين عرض الحائط قوانينهم التي تنص على عدم الاعتداء على القاصرين، فبالأحرى خدام الكنيسة من الأحداث.
فكيف تُعتبر الكنيسة الكاثوليكية بروما قطب مسيحيي العالم وتحوز على الاحترام والاعتراف من قبل كل الدول، مسيحية وعربية مسلمة، وهي غارقة في الوساخة والقذارة والانحطاط الأخلاقي وتفشي الرذيلة بين الكهنة والقساوسة، بينما يستنكر بعض رموز وسياسي التيارات الإسلامية والعلمانية بالمغرب، سياسة وخصوصية نظام إمارة المؤمنين الشاملة لكل مؤسسات المجتمع المغربي دينا ودولة؟
وإذا كانت الدعوة إلى التخلي عن هذا الرابط مفاده التخلص من قيود تعرقل مسار النهضة والتقدم على غرار ثورة بلدان أوربا في وجه ماضيهم الغارق في حياة الجهل والتشتت الفكري واللاوعي الديني، فسيكون تقليدا أعمى سيجعل منا انعكاسات لقوم لا تربطنا بهم لا هوية ولا دين، وسننزع عنا مميزاتنا وخصوصياتنا التي اكتسبناها من ديننا وتربينا عليها وأسسنا على نورها مجتمعا وسياسة مرتبطة ارتباطا لا انفصام فيه عن الكتاب والسنة، فالأوربيون كانت ثورتهم ضد الجهل والاستعباد، وأما ثورتنا فلن تكون إلا انسلاخا عن مجدنا وعراقتنا المستنبطة من الدين الإسلامي، وإجهازا على مقومات الشخصية المغربية وإتلافا لمعالمها.
فإذن ما هو البديل؟ هل نعتنق أفكارا غريبة عن حياتنا المعتادة ونتقمص شخصيات مغايرة لطبائعنا، وندين بأديان ليست ديننا حتى نكون في نظر أعداء الوطن من الطرفين، تقدميين وحداثيين ونثور في وجه أعراف ومراسيم تقام مرة في السنة، يستدعى لها فئة معينة من الناس بصفتها طقوس العبودية؟
إن المغرب بتمسكه بإمارة المؤمنين إنما يقف سدا منيعا في وجه التيارات المعادية لأمن واستقرار الوطن، وبهذا يكون انتصر في معركة لم يخضها، بل وقف شامخا يتفرج على النكوص والانهزام في صفوف أشكال وأنماط الأعداء المحيطين به سواء من الداخل أو الخارج، لاسيما وأن نفوذه الروحي تخطى حدود المملكة إلى أدغال أفريقيا، علما أن دولة المغرب ظلت منذ الفتح الإسلامي الرائد الأول والمرجع الأساسي لغالبية دول أفريقيا، باعتبارها مهد المذهب المالكي وأصول الشريعة الإسلامية الأقرب للقارة، وظلت تجمعها بالمغرب روابط دينية وروحية باعتبار أمير المؤمنين ملك المغرب سليل النبي عليه السلام.
وكان دور المغرب كبيرا في انتشار الإسلام بدول جنوب إفريقيا منذ القدم بحكم القرب والمعاملات التجارية، بين القبائل التي كانت تجوب الصحراء والقوافل الوافدة من السودان وغانة، في عهد الدولة المرابطية التي امتد نفوذها حتى غرب السودان، مما سهل إتباع أغلبية الأفارقة للدين الإسلامي على المذهب المالكي السائد بالمغرب، كما ظل هذا الأخير وفيا مع توالي الأحقاب لجيرانه الأفارقة بتعهده إرسال العلماء والفقهاء إليهم، والمساهمة في بناء المساجد والكتاتيب لحفظ القرآن الكريم، واستقبال وفود الطلاب الراغبين في الدراسة بالجامعات العليا في مجال اللغة العربية والدراسات الإسلامية، ورغم محاولة الجزائر غير ما مرة قطع الطريق على المغرب بمحاولتها استقطاب طوائف أفريقية تنتمي للطريقة التيجانية، ظل المذهب المالكي في تخوم أفريقيا امتدادا تاريخيا للمذهب المالكي بالمغرب، الذي اعتبر لمدى قرون طويلة، قطب المسلمين مذهبا وانتماءا، دون فرض أية ضريبة أو جباية على أي دولة تنتمي روحيا للمغرب، على غرار الكنيسة الكاثوليكية بالفاتيكان، المتحكمة برقاب معتنقي ديانتها مع فظاعة ما يروج داخل أرجائها المقدسة !!
ونفاجأ الآن بعد كل هذا التاريخ، باستنكار دعاة التغيير ورافضي الأصول المتجذرة في أعماق المواطن المغربي، لمؤسسة إمارة المؤمنين قطب كافة المغاربة ومسلمي دول أفريقيا، دون استنكار أنظمة بلدان أوربية باعتبارها نموذج الحداثة والتقدم، حيث تعتبر ملكة بريطانيا مثلا رئيسة الكنيسة الأنجليكانية، أي أنها أميرة معتنقي ديانة هذه الكنيسة وتعتبر حافظة الإيمان، كما يعتبر ملك الدانمارك رئيس الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، وانتماؤه للكنيسة شرط من شروط توليه الملك، مثال آخر لمملكة النرويج، حيث من بين بنود دستور البلاد أن الملك هو حامي الديانة الإنجيلية، وهو من يسهر على شؤون الدين والدولة، لكن الاستنكار لم يقع إلا على ملك المغرب لكونه “أميرا للمؤمنين” الضامن لشؤون الدولة والدين، كما اعتبرت مراسيم البيعة طقوسا بالية استعبادية، مع أنه ليس في حاجة لاتخاذ المساجد مراكز للسلطة وإهانة العباد كما هو حال بابا الكنيسة الكاثوليكية.
أمير المؤمنين في النظام المغربي هو حامي حمى الملة والدين، وراعي الشؤون الدينية والروحية للمغاربة وللأمة الإسلامية في بقية بقاع العالم، خاصة دول أفريقيا الغربية، في حين تبقى المؤسسات التابعة له منفذة لسياسته في المجال الديني والروحي من مجالس علمية، وهيئات إسلامية، ولجان مختصة بالإرشاد الديني، وبذلك تكون له أحقية لقب قطب الدول الإسلامية، لما له من دور في جمع الأمة تحت كلمة واحدة وتوحيدها على مذهب واحد معتدل يضمن الأمان والأجواء السلمية لممارسة الشريعة الإسلامية على أوسع مدى تحت كنف واحد، وأختتم بما جاء في خطاب صاحب الجلالة محمد السادس قوله : “… وسنولي تكثيف جهودنا ليظل المغرب وفيا لتوجهه الدبلوماسي ولثوابت سياسته الخارجية التي يمليها عليه تاريخه العريق وموقعه الجيوستراتيجي الذي يتوسط العالم وينفتح عليه، ودوره كقطب للاعتدال والتعايش والحوار والسلم وحسن الجوار..”
بثينة الجحرة
المصدر : https://dinpresse.net/?p=361