إدريس عدار
في السوق الكبير للأخبار الزائفة لا يوجد أي معنى للمفاوضة حول المعنى، التي تحدث عنها دومينيك وولتون في كتابه “الإعلام ليس تواصلا”، لأن سوبر ماركت الفايك نيوز لا تترك لك الفرصة للاختيار ومساومة التاجر على البضاعة وثمنها، فكثرة العرض تدفعك لشراء ما تحتاج إله وما لا تحتاج إليه..استغل برنار هنري ليفي هذه السوق الكبيرة لعرض بضاعته، غير المقبولة في المشهد الفسلفي والثقافي الفرنسي، إذ وصفه فلاسفة من الوزن الثقيل أمثال دولوز وجاك ديريدا بأنه “خديعة ثقافية”.
وصفت “لوكويي أنترناسيونال” زيارته إلى ليبيا بأنها عودة إلى مسرح الجريمة. ووضعت العنوان على الغلاف مع كاريكاتور يظهر ليفي في صورة عجوز يتكئ على حراب. لقد كان عرّابا للثورات اللقيطة في العالم العربي..ظهر في كل الساحات التي عرفت ثورات ملونة..وعمل ما في وسعه حتى يتم تكرار السيناريو الليبي في سوريا، وهو الذي نظم مؤتمرا لما يسمى المعارضة السورية بباريس..وظهر في كل الساحات التي تتجه نحو الخراب والانشقاق..
ومن أفعاله التاريخية أن قام بتغطية انفصال بنغلادش عن باكستان سنة 1971 وكتب كتابا عما أسماه الانتصار القومي..
هذه الخديعة الثقافية وجدت في العالم العربي من يسير في ركبها من المثقفين والإعلاميين..واليوم سيختلفون حول زيارته لليبيا..لم يتم بعد اتضاح الرؤية بعد أن تنصل مجلس الرئاسة من الزيارة ورفضها أيضا رئيس بلدية ترهونة..الأطراف الإقليمية المتناحرة على الأرض الليبية كانت بالأمس طرفا واحدا..والمثقفون الشغّالون لديها كانوا أيضا صوتا واحدا في دعم برنار ليفي..اليوم سيختلفون..ينبغي أن نعرف أن هذا الاختلاف هو ناتج عن الانشقاق وسط عواصم المازوت، الذي انعكس على الإعلام الداعم والموزع في كل العواصم، وليس اختلافا حول المبدأ..
فعندما دعا إلى التدخل العسكري لمواجهة الجيش السوري وإسقاط النظام في دمشق، كان هؤلاء المثقفون معه، لأن عواصم المازوت لم تكن قد افترقت واصطفت واحدة إلى جانب تركيا..فهو عرّاب الخراب، الذي شوهد سنة 2017 في إحدى مكاتب التصويت من أجل انفصال كوردستان عن العراق..
وعندما ظهر سنة 2013 في أوكرانيا وسط المتظاهرين ضد رئيسها تفاعل معه مثقفونا لأن التظاهرات ضد رئيس حليف لروسيا، الحليفة لسوريا..
لقد اكتسب ليفي قوته من حضوره الدائم في وسائل الإعلام..خصه باسكال بونيفاس بحيز وافر من كتابه المثقفون المزيفون الصادر بدمشق سنة 2013 قال فيه “إذا حصل “مزيفون” على مكان دائم على الشاشات، فلأنهم يقولون ما يكون الجمهور مهيأ لسماعه، وينسلون منزلقين في السائل الذي يحمي جنين الفكر المشترك. تزداد مصداقية “المزيف” كلما مضى أكثر باتجاه الأفكار المسبقة والرياح السائدة، ولولا ذلك لخاطر، كما حدث في حالات كثيرة، بتقديم نفسه على أنه يخالف ما يعتبر سليما بالمنظور السياسي. (بونيفاس..23)
يقول بونيفاس عن ليفي أنه يحظى بدعم كبير من الآلة الإعلامية في فرنسا وغيرها، قائلا إنه لا يبحث عن تنوير الجمهور، ولكن كي يكون في الواجهة قصد تحقيق الأغراض، التي تمت صناعته من أجلها، وتقدم وسائل الإعلام على أنه مدافع عن الحريات، مما يمنحه فرصة كبيرة للظهور على وسائل الإعلام، غير أنه يعتبر من أكبر الإقصائيين، فعندما اختلف معه ريجيس دوبري حول تدخل الناتو في يوغوسلافيا، كتب مقالا تحت عنوان “وداعا ريجيس” وشن عليه هجوما عنيفا متهما إياه بالتعاون مع النازية..
هنري ليفي مدافع شرس عن الحكومة “الإسرائلية”، وسبق أن ترشح لرئاستها، وكل تحركاته في اتجاه تحقيق أهداف دولة العدوان..وصف الجيش الصهيوني بأنه جيش ديمقراطي وأخلاقي، ومنه نقل كثير من المثقفين العرب قصة الدولة الديمقراطية، رغم أنها الدولة الوحيدة في العالم، التي ما زال يوجد بها الاعتقال الاداري..يمكث السجين الفلسطيني سنوات تصل ربع قرن دون محاكمة بقانون الاعتقال الاداري..الدولة التي يوجد بها سجين اسمه نائل البرغوثي دخل السجن عمره 19 سنة واليوم عمره 62 سنة..صمود بطولي في وجه الرطوبة التي هّت بوابة الحديد مرتين..
في الصفحة 47 من الكتاب يتحدث بونيفاس عن الهجوم الذي شنه الفيلسوف دولوز سنة 1977 ضد من سماهم “الفلاسفة الجدد” ومنهم هنري ليفي..
ليفي رجل أجندات ولهذا يلتقي مع تنظيمات يجتمع لديها الجهل بالغباء بالحقد، ويتعلق الأمر بتنظيمات الإسلام السياسي، التي تحالفت معه في سوريا وليبيا، ناسية أنه يقول في كتابه النقاء الخطير بأن الإسلام ليس سوى الصيغة الثالثة لتشكيل كانت الشيوعية والنازية ترجمتيه السابقتين.
لكن هذه الحركات، التي تسمى إسلامية، لا يهمها موقف “الفيلسوف” المخبر ولكن يهمها الوصول إلى السلطة ولو عن طريق تدخل الدول الغربية وتخريب البلدان. وساند ليفي العدوان الإسرائيلي على لبنان..وبعد أن دارت الدورة وجد أعداء المقاومة أنفسهم في لقاء مصلحي تخريبي.
وعنون بونيفاس فصلا كاملا للعرّاب سماه “برنار هنري ليفي، السيد زعيم المزيفين”..قال فيه إنه بنا مسيرته على إدارة الأكاذيب دونما خجل. إلا أنه يقدم نفسه مع ذلك بوصفه النموذج المثالي للمثقف المؤثر في عالم الأفكار، والمخلص للقضايا الأكثر نبلا، عبّر عن التزامه إخلاصا منزّها عن المصلحة..ويعتبر ليفي مثقفا ينير الحقائق للجمهور في حين أنه مضلل إعلامي. يعتبر شخصا عميق الالتزام بالأخلاق في حين أنه يجسد الوقاحة والاستخفاف. يعتبر مدافعا لا يلين عن الحرية في حين أنه مكارثي فتّاك. يعتبر مناضلا عالميا في حين أنه فئوي ضار (بونيفاس 143).
وأضاف “يستفيد ليفي من هذا المعرض الإعلامي الذي لم يحظ به أحد من قبل على الإطلاق، حتى أكثر الكتاب شهرة، يستفيد من وزنه ومن قربه من الأقوياء، ليس من أجل محاولة تكذيب أولئك الذين لا تعجبه آراؤهم، وهو الأمر الذي سيكون من حقه أن يفعله، بل من أجل إسكاتهم، وهو الأمر الذي يصبح تعديا”.
ينقل بونيفاس عن الكاتب الساخر غي كارلييه قوله بعد كلمة ألقاها هنري ليفي في تأبين الناشر جون لوك لاغارديير “برنار هنري ليفي ليس فيلسوفا، وله علاقة بالعالم المادي، إنه سارق للغابة الإفريقية وانتهازي، وبهذه الصفة كتب رثاء لا غاردير الذي كان ناشر كتبه”.
يقول هاشم صالح في قراءته لكتاب نقد الجنون الخالص/ الإفلاس الفكري للمزعومين بالفلاسفة الجدد وتوابعهم لدانييل سالفاتور شيفر “الرجل بارع بدون شك في التحدث أمام الكاميرا بكل ثقة بالنفس وبأسلوب جذاب تماما ودون اي تلعثم او خوف او وجل. وكثيرا ما يتحدث بدون أوراق او بطاقات صغيرة: اي شفهيا وارتجاليا. وهنا نصل الى لب المعضلة: فالمشكلة تكمن في ان المفكرين الحقيقيين كثيرا ما يفشلون عندما يظهرون على الشاشة. أما المثقفون السطحيون فينجحون كل النجاح! من رأى ميشيل فوكو او جيل ديلوز او بيير بورديو او كاستورياديس او جاك دريدا او بول ريكور او سواهم على شاشة التلفزيون؟ نادرا او قليلا جدا بالقياس الى أهميتهم الحقيقية في مجال الفكر. أما برنار هنري ليفي فيمكن ان يظهر كل يوم اذا شاء وينجح في كل مرة. وعندئذ يتوهم الناس أنّه مفكر فرنسا الأول ! نقول ذلك على الرغم من أن أهميته الفكرية، أو قل أهمية كتبه ومؤلفاته، هزيلة جدا بالقياس الى فلاسفة فرنسا الحقيقيين” (موقع الأوان بتاريخ 8 دجنبر 2013).
لقد دون برنار هنري ليفي مغامرته في ليبيا في كتاب “الحرب دون أن نحبها…يوميات كاتب عربي في قلب الربيع الليبي”..قال فيه كل شيء إلا وظيفته الأساسية وهو يقوم بهذه الرحلات..دائما يكتب من موقع صنعه له الإعلام وهو المدافع عن الحريات..لكن أخفى في مذكراته آثار الجريمة التي عاد إلى مسرحها اليوم في ظل انشقاق وسط الفاعلين الإقليميين، الذين كانوا سنة 2011 على “مصلحة” رجل واحد، وكانت تركيا مثل قطر والإمارات في صف الإخوان المسلمين وبقايا الجماعة المقاتلة بقيادة عبد الحكيم بلحاج..اليوم يعود والمصالح قد تفرقت برعاة الربيع الليبي..إنها عودة إلى مسرح الجريمة لكن ليس بهدف التحقيق ولكن استكمال الوظيفة بعد أن تغيرت التعاقدات.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=8930