في مثل هذا اليوم رحل الحسن الثاني

محمد علي لعموري
المغرب
محمد علي لعموري23 يوليو 2020Last Update : الخميس 23 يوليو 2020 - 12:37 مساءً
في مثل هذا اليوم رحل الحسن الثاني

ammouri  - دين بريسمحمد علي لعموري
كان اليوم يوم جمعة استثنائي، فجأة أديع القرآن في القناتين المغربيتين ، فليس من عادة القناتين الرسميتين بث القرآن بعد الظهيرة ، ومع ذلك لم ينتبه أحد أن هناك خطبا ما وقع بالقصر الملكي العامر.

ظن الناس الأمر عاديا ، حتى أنا الذي كنت جالسا بمقهى أصيل وجميل بحي الأحباس قرب القصر الملكي بالدار البيضاء رفقة صديق لي ، لم أدرك حجم ما ينتظرنا من خبر صاعق سيحبس الأنفاس.

تركت الصديق وذهبت لمقهى شعبي ؛ أرابط في قبوه بالساعات لقراءة كتب المفكر الجزائري محمد أركون ؛ وحين فرغت من القراءة صعدت لأجد الخبر يذاع في قناة الجزيرة التي كانت تخطف الأضواء وقتها من خلال برنامجها الإتجاه المعاكس ، وكانت حلقة البرنامج مخصصة لمستقبل عملية السلام بعد رحيل الملك المغربي الحسن الثاني.

لم تصدق أذناي ما سمعتاه فطرحت السؤال على النادل فأكد لي الخبر لأنطلق على الفور إلى البيت وفي حلقي غصة وعلى قلبي غمة وحزنا دون أن أتمكن من درف الدموع. لما وصلت إلى البيت وجدت والدي قد علما بالخبر وقد انتابهما صمت فيه حزن ودهول. بعد لحظات وقبل آذان المغرب ستنطلق في الأحياء مسيرات نسائية تهتف باسم الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان بمثابة الأب لجميع المغاربة.

مازلت أذكر هتافات النساء التي تلهج بالقول : ” مات أبانا أيها اليتامى “…

وحتى في لحظة مفصلية مثل هذه ، والحزن يعم البيوت والشوارع أبديت ملاحظتي اللغوية مع نفسي أنه كان من الصواب القول ” مات أبونا أيها اليتامى ” ثم في الحين التمست العذر كون نساء الحي لا يعرفن سيبويه ومع ذلك فقد كون جملة مفيدة تعبر عن حزنهن الذي قد ينسي صاحبه كل ملاحظة لغوية ليس ها هناك موضع لها سوى المعنى الذي يعبر عن الحرقة وعن الحزن وعن رفض فكرة موت ملك عمر لسن السبعين وحكم لمدة ثمانية وثلاثين عاما حتى ظن الناس أنه خالد.

الشخصيات العظام لا تموت وتصنع مجد خلودها بكل ما أوتيت من أسباب السلطة والمال والفكرة.

نحت الملك الحسن الثاني إسمه بمداد ذهبي ما زالت الأقلام الجادة والوازنة تكتب عنه ، بل سيكتب عنه الذين لم يشهدوا فترة حكمه الكثير مما كتب عنه من عاصروه. ومنهم من عارضه وسجن في عهده ولكنه لم يملك سوى أن يعجب به وبأسلوبه في إدارة حكم البلاد وتدبير ملف القضية العربية بواقعيته السياسية التي لم يلتفت إليها أحد من الزعماء العرب في بداية حكمه لحداثة سنه ولميله إلى النموذج الرأسمالي في الإقتصاد والنموذج الرئاسي في الحكم ذي النكهة السلطانية التي طبعت سمات ملكيته مع تطعيمها بحداثة الخطاب والشكل مع الإبقاء على روح السلطنة وروح الحكم العاض على التحكم في كل تفاصيل الحياة السياسية المغربية.

ففي فترة تعرضه للضربات من جهة الصحافة الفرنسية المدفوعة دفعا من قوى التدخل في المحميات السابقة ، والتي لم يكن يروقها أن يستفرد الحسن الثاني بأسلوبه الخاص المستقل عن ماما فرنسا ، كانت تلك الصحافة تكتب عنه بشكل مغرض حتى أنه صرح ذات مرة بأن ما كان يزعجه هو انتظار الخصوم موته قائلا على سبيل البسط أنهم يهتفون ” وما زالت البطة على قيد الحياة” كما في مسرحية إنريك إبسن ” البطة البرية”.

عاش الملك الحسن الثاني حتى ملأ الدنيا وشغل الناس واعتقل الخصوم وحكم بلاده بقبضة ملك قوي بعد تجارب الغدر التي تعرض لها ، وبعد المحاولتين الإنقلابيتين الفاشلتين ، وصراعه مع قوى سياسية قوية لكنه كان أقوى منها.

تكالبت عليه قوى المعسكر الإشتراكي العربي في فترة زحف الإيديولوجيا الإشتراكية إلى كل من مصر والجزائر وليبيا ، لكنه كان ذا حدس سياسي ثاقب. فبعد أفول نجم الإشتراكية وسقوط جدار برلين وعودة الدفء إلى العلاقات المغربية الفرنسية في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك ، حاور الملك الراحل الصحافة الفرنسية وتطرق لتدخل الفرنسيين في الشأن الداخلي المغربي ووجه نقده لهذه الوصاية المرفوضة ، ونبه إلى أنه ملك عنيد يرفض الإملاء من أحد ، مما جعله يضحي بعلاقة ممتازة كانت تجمعه والجنرال دوغول ، وأنه كان محط سوء فهم من طرف الرأي العام الفرنسي ، وأن فراسته السياسية قد مكنته من الإنتصار على خصوم الداخل والخارج من الماركسيين الذين أبان سقوط جدار برلين وتفكك الإتحاد السوفياتي عن فشل فكرويتهم وصواب نموذجه السياسي والإقتصادي.

قبل وفاته بحث عن إنجاز سياسي أخير بهندسة إنتقال سياسي غير مسبوق في الوطن العربي باستدعاء المعارضة لتحكم إلى جانبه تمهيدا لانتقال الملك إلى خلفه ووارث سره من بعده.

مات الملك ، عاش الملك تقاليد مرعية منذ قرون..

سيبقى الحسن الثاني في الذاكرة السياسية المغربية ببطولاته سواء إلى جنب والده محمد الخامس من أجل تحرير الوطن من الإستعمار الفرنسي ، أو من خلال وضع لبنات الدولة العصرية مع الإحتفاظ بخصوصية الحكم الملكي القوي ، أو من خلال استرجاع ما تبقى من استعمار بالأقاليم الجنوبية بتنظيم مسيرة خضراء سلمية الهدف منها تحرير بقية الوطن من الإستعمار الإسباني دون إراقة قطرة دم واحدة.

وأخيرا إعطاء الفرصة للمعارضة لكي تحكم تحت عهدته قبل أن يودع هذا العالم وقد سجل التاريخ إنجازاته التي لا ينكرها إلا متطرف.

Short Link

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.