عبد الله لعماري محام بالدارالبيضاء
من خلال مجالستي للمرحوم الحسين برادة، وحكيه لي عن رجالات الوطنية والمقاومة وعن محن الشعب المغربي مع ظلم الإستعمار وأعوانه، كان عقله مسكونا وقلبه ووجدانه وكل ذرة في كيانه، بحب وتعظيم ثلاث رجال، لايفتأ ولايفتر عن ذكر مآثرهم ومواقفهم ومناقبهم: المغفور له محمد الخامس، والشهيد الزرقطوني، والمرحوم الدكتور الخطيب، وقد ألف عن كل واحد منهم كتابا.
أما الملك محمد الخامس فإنه يعتبره الأب الروحي للعمل الفدائي والكفاح المسلح ليس فقط كونه أنه ألهب حماس المغاربة للإنخراط في صفوف المقاومة والعمليات الفدائية بمواقفه المنحازة إلى كفاح الشعب المغربي من ٱجل الإستقلال،وما جلب عليه ذلك من خلع الإستعمار له عن العرش ونفيه وإبعاده ، يوم عيد الأضحى 20 غشت 1953، ولكن لأن محمد الخامس كانت له العلاقات السرية والتنسيق الخفي مع مؤسسي العمل الفدائي، وأن الشهيد الزرقطوني تلقى الإشارة للبدء في إعداد إنطلاق العمل المسلح، فكان تأسيسه للمنظمة السرية رفقة الحسين برادة ورفاقهما بتاريخ 7 أبريل 1951 في الذكرى الرابعة لمذبحة درب الكبير بالدارالبيضاء بتاريخ 7 أبريل 1947، والتي كان قد اقترفها جيش الإحتلال الفرنسي ضد المواطنين العزل في الشوارع لمنع وإعاقة محمد الخامس دون الذهاب إلى طنجة لإعلان مطلب الإستقلال من هناك.
ويحكي فقيدنا أنهم كانوا يخفون مبادرتهم عن قادة حزب الإستقلال لكونهم كانوا يرفضون القيام بأعمال العنف، ماعدا الزعيم علال الفاسي في الخارج، ولكن الملك محمد الخامس كان له العلم ومنه الموافقة والإيعاز والدعم، ومنذ سنة 1951، وكان ذلك في غطاء من الخفاء التام إحتياطا من أن تنسب للملك دعمه لما تسميه فرنسا بالأعمال الإرهابية، وهو لم يتخلص بعد من حرب فرنسا عليه لدعمه العمل الوطني ونعته جراء ذلك بملك حزب الإستقلال وملك الكاريان سنطرال.
ويعتبر الحاج الحسين برادة السلطان محمد بن يوسف هدية من الله للأمة المغربية، وآية من آيات الله التي تتجلى ساطعة في الحكم الإلهي في قوله تعالى: ويمكرون ويمكر الله وهو خير الماكرين.
فقد إختارته الإقامة الفرنسية ونصبته على العرش خلفا لوالده السلطان يوسف بعد وفاته واستبعدت إخوانه رغم تجربتهم في الإدارة والحكم، وكان هو أصغرهم وأحدثهم تجربة، ظنا منها أنها إنما إختارت منتوجا للحماية الاستعمارية الفرنسية، تربى في أحضانها وعلى عينها ورضع من ألبانها وعلى ثقافتها، وأنه سيكون دمية بين يديها تفعل به ماتشاء في مصير البلاد والعباد، ولكن حصلت المعجزة، ووقعت نقطة التحول في مصير المغرب، منذ سنة 1930، كان الظهير البربري سببا لذلك، وإنقلب السحر على الساحر الإستعماري، وتحول السلطان الشاب الفتي محمد بن يوسف إلى النقيض من سياسة الإستعمار الفرنسي، وإلى حليف للعمل الوطني ،بل وإلى فاعل أصيل في الحركة الوطنية، يتناغم مع أصداء أعمالها وتتناغم مع أصداء مواقفه. بعد اللقاء التاريخي الخفي مع قادةالعمل الوطني وحصول المعجزة، التي إلتقى فيها الماء على أمر قد قدر، إنطلق ليكون طوفانا للحرية والإستقلال.
ولذلك كان برنامج العمل الفدائي المسلح للمقاومة وجيش التحرير مختصرا في كلمتين: المغرب إلى إستقلاله وبن يوسف الملك الشرعي إلى عرشه، وفرضت هاتين الكلمتين فرضا بأنهار الدماء وقوافل الشهداء، ولذلك كانت أبلغ خطبة وأشجن كلمة وأعمق بواح للمعاني جاد بها الملك محمد الخامس في تاريخ ملكه، هي التي صدع بها عند قبر الشهيد الزرقطوني عند عودته المظفرة وإعلان إستقلال المغرب.
أما الشهيد محمد الزرقطوني وماأدراك ما الشهيد الزرقطوني فحدث عن البحر ولاحرج، لم أجد قط أحدا يحدث عن الشهيد بدقة وعمق وإحاطة مثلما كنت أجده في حكي المرحوم الحسين برادة، عندما كان يحكي لي عن عظمته وعبقريته وإيمانه ، كنت أقشعر من فرط التفاعل، وأشعر بالمعنى الحقيقي لكلمة الفقد والضياع التى تتردد عند وفاة أحدهم، فقد ضاع المغرب بالفعل في عقل إستراتيجي محنك ومقتدر ودقيق ومتوهج كالشهيد الزرقطوني،إذ استطاع بحنكته وفي ظرف وجيز أن يبني شبكة المقاومة ليس في الدآلبيضاء وحدها، ولكن في مدن عديدة في المغرب وأن يلهم رجاله الفعل الفدائي الإستشهادي، وأن يضع لكل شيء حسابه وأن يخترق الجيش والشرطة الإستعماريتين بجهازه الإستخباري، وأن يضع الخطة المستقبلية لجيش التحرير، وكان ينتظر ساعة الصفر لإندلاع الثورة المسلحة، وجاءت ساعة الصفر يوم عيد الأضحي يوم إعتداء الجيش الإستعماري على كرامة وحرية الملك محمد الخامس يوم 20 غشت 1953، فخرج الشعب المغربي عن بكرة أبيه في المدن والقرى صاخبا ساخطا محتجا على المساس بآخر ماتبقى له من كرامة، وذلك بتحريض وتجييش المنظمة السرية ومعها كل الحركة الوطنية، فوقع الجيش الإستعماري في الخطأ القاتل بمواجهة المحتجين بالحديد والنار تقتيلا وحرقا وإعتقالا وتعذيبا، وهنا التقطت المنظمة السرية الفرصة التاريخية الإستراتيجية ، وٱمر القائد الشهيد الزرقطوني رجاله بالبدء في العمل والإنقضاض على الإستعمار جيوشه ورجاله وعملاءه الخونة ومصالحه فتكا وترويعا، وأمر بالإستقطاب والتجنيد وتحويل الشعب المقهور المنتفض إلى خلايا فدائية متحركة وداعمة في كل ربوع البلاد، فكانت آلة التعذيب الجهنمية التي تدور رحاها في معتقلات ومخافر وسجون الإستعمار هي الداعم الأول لصفوف المقاومة، وقد حشدت سلطات الإستعمار سبعين ألف معتقل تسومهم العذاب.
وعلى سيرة القادة العظام، لم يكتف الزرقطوني بالتخطيط وتحديد الأهداف فقط ومن وراء ستار، بل كان في الخط الأول من القتال مشاركا ومتنقلا بين أحياء الدار البيضاء وبين مدن المغرب للتنسيق مع قادة المقاومة وبناء الٱنوية الجديدة للعمل الفدائي، ولأنه كان يضع لكل شيء حسابه فقد أمر القيادات المحيطة به بإلصاق حبة السم تحت الأذن، إستعدادا للإستشهاد وقطع الطريق على أجهزة التعذيب للوصول إلى أسرار هياكل المقاومة، وكان قد أمر الدكتور الخطيب بتدبير وتجهيز هذا السم ليكون بين يدي رجاله.
كان أكبر عطاء قدمه الشهيد الزرقطوني للكفاح المسلح المغربي أنه قدم روحه إستشهادا فداء لتنظيمات المقاومة التي أنشٱها في ربوع البلاد ويحتفظ وحدها بأسرارها وبعض معاونيه كالحاج الحسين برادة الذي انكشف أمره بانكشاف سيارة الزرقطوني التي كانت أوراقها وملكيتها في إسم الحسين برادة.
كان المرحوم الحسين برادة يردد على مسامعي أن له أمنية واحدة في هذه الدنيا لو يتفضل عليه بها وطنه الحبيب، هي أن يسمح له بقبر إلى جانب قبر حبيب روحه وخليله الشهيد الزرقطوني، وفي إحدى جلساتي معه وهو يذرف العبرات في هذا التمني ومن فرط تأثري هاتفت صديقا لي كان يبادلني الاحترام وكان في فترة عزه الذهبي يأمر على أعلى مستوى فيطاع ويقول فيسمع، وهو الأخ إلياس العماري ونقلت له طلبه وربطت له الاتصال بحضرتي فوعده بذلك وأقسم له على ذلك، فكان هذا الوعد الجميل مع أقواله الجميلة المشيدة به باعثا له على الفرح والإنبساط وكأنه وعد بالحصول على كنز عظيم.
يتبع.
Source : https://dinpresse.net/?p=8215