عبد الله لعماري محام بالدارالبيضاء
المرحوم الحاج الحسين برادة، القائد المؤسس للمقاومة والقائد المؤسس لجيش التحرير.
في الهزيع الأخير من الليل، وعلى مطالع فجر ذات جمعة من شهر مارس 2020، غادرنا إلى دار البقاء، الرجل الذي أطلق الشرارة الأولى للكفاح الفدائي المسلح من أجل تحرير المغرب من العبودية والقهر الإستعماري البغيض، رفقة القائد الشهيد الزرقطوني، والذي كان فقيدنا رفيقه الحميم وخليله وصفيه وأمين أسراره.
غادرنا الرجل الذي تعرفت عليه قبل سنوات، فاتخذته بمثابة الأب الوالد، وأحللته مكانة في قلبي مقام الأب الوالد، وتوتقت بيننا علاقة من الحب العميق، لا أصبر على زيارته الدائبة التي واظبت عليها، ولايصبر هو على هذه الزيارة، والتي كان يستعجلني إليها ويحثني عليها كلما تراخيت عنها، ومثلما كنت أذوب إشتياقا إليه، كان يشرق فرحا وسعادة بمقدمي إليه، وكلما هممت بتقبيل يديه تبجيلا وتعظيما، كان الأسرع إلى الإنحناء على كبره وهرمه لتقبيل يدي، فكنت أقول له كلما تمنع، دعني أقبل اليد التي حملت السلاح فأعتقت أجدادنا وآبائنا وأمهاتنا من نير الرق والذل والهوان والعذاب للجبروت الإستعماري، فكان يقابلني بقول كنت أكاد أهوى من وقعه ، فيقول وأنا دعني أقبل اليد التي كافحت في المغرب المستقل، وأفنى صاحبها زهرة شبابه في السجون، كان له تقدير خاص للمعتقلين السياسيين خلال سنوات الرصاص.
كلما كنت أزوره كان لايدعني أنصرف حتى ينصرم النهار بطوله، وتمر الساعات مفعمة بالإكرام وجميل الإحتفاء و بالفيوضات من الإبحار في محيطات التاريخ والدين والسياسة، وكان فقيدنا العزيز وهو في عقده التاسع ذاكرة ثاقبة دقيقة التفاصيل، ولسانا عربيا فصيحا ذربا سلسبيلا، وكان فكرا متوهجا يسأل عن واقع المغرب ويحلل ويقترح. يراجع معي مقالاته وكتبه التي يؤلفها ويناقش معي بعض مقالاتي.
ورغم كبره الذي بلغه عتيا، ورغم أمراضه، كان لايسأم في حضرتي من الحديث، يسترفد منه المتعة والإنشراح ورغد الحياة، لكنه كان يحب ٱن يتوقف فترة بعد أن نصلي صلاة العصر،فكان يغمض عينيه ويروح في غيبة سابحا في فضاء ما، ومرددا لأوراد ما من الذكر والدعاء، ولما دعاني فضولي لأسأله، أجابني بأنه يقرأ المأثورات من الأذكار التي كان قد ألفها الشهيد حسن البنا وردا يوميا لجماعة الإخوان المسلمين، وأخبرني أنه ماتركها منذ أن حفظها سنوات الستينيات. هكذا كنت أكتشف في الرجل العقل المفكر واللسان الذاكر والقلب العامر بحب الله المنتظر للقاء الله في كل الأحيان.
في حياة المرحوم الحاج الحسين برادة تلمس ٱيات من آيات الله واسراره الخفية الحكيمة، ففي سنوات العشرينات من عمره وهو يؤسس ويقود ويخوض العمل الفدائي المسلح، كان يضع روحه على كفه، وينتظر الموت والشهادة في كل لحظة وحين، وكان هو ورفاقه يحرصون على الموت فشاء الله أن يوهب الحياة وأن يعمر عمرا مديدا بلغ به إلى العقد التاسع منه.
ولما كان في قيادة المنظمة السرية للمقاومة، والتي كان قائدها وعقلها المدبر الشهيد الزرقطوني وكان رديفا له، وعضده الأيمن، وكان كلما تشكلت قيادة جديدة إلا وكان الفقيد عضوا فيها، وكانت التشكيلات القيادية تنتهي باعتقال أعضاءها، إلى أن تغيرت أربع مرات، كان فيها يفلت من الإعتقال والإستشهاد بأعجوبة، إلى أن ضيق عليه جيش الإستعمار الخناق، وطارده في كل شوارع ومخابئ الدارالبيضاء، فانتقل إلى الشمال حيث جبال الريف ليؤسس العمل المسلح الرديف والموازي للمقاومة وذلك بتأسيس جيش التحرير.
وفي بقاءه حرا ناجيا من الاعتقال، آية من آيات الله، فقد كان الشهيد الزرقطوني أعد مخططا لتأسيس جيش التحرير لبدء الكفاح المسلح وشن حرب العصابات من الجبال، وعهد به إلى رفاقه، وهو المخطط الذي أفلت به الحاج حسين برادة نحو الشمال حين أفلت من الإعتقال، بكل ملامحه وأشخاصه و إستراتيجيته، وأرسى من خلاله الأنوية العسكرية الأولى لجيش التحرير، وكانت الإنطلاقة الأولى يومي الأول والثاني من أكتوبر 1955، برئاسة الدكتور عبدالكريم الخطيب، وكان قد أجمع القادة المؤسسون والقادة في الخارج على توليه هذه الرئاسة، وقد كان الشهيد الزرقطوني وبنظرته الاستراتيجية البعيدة وتقسيمه للأدوار قد إدخر الدكتور الخطيب لمهام المستقبل حينما أمره بالإختفاء والانتقال نحو الخارج بعد أن انكشف إرتباطه بالمنظمة السرية.
وبعد دحر الإستعمار وحلول عهد الإستقلال تقرر إدماج هياكل جيش التحرير في الجيش الوطني الوليد، إلا أن الحاج الحسين برادة وإن كان لا يعترض على هذا الإدماج إلا أنه كان يشترط عليه، فقد كان يرعى أسر الشهداء وعوائل الجرحى لجيش التحرير، واشترط في هذا الإدماج أن تلحق هاته الأسر والعوائل وأولئك الجرحى حتى تتكفل بها ميزانية الجيش الملكي الناشئ،وقد تسبب له هذا الإشتراط في تداعيات سلبية، لما قد فهم من موقفه خطأ أنه نوع من الإعتراض. وقد ظل الفقيد على سيرته وعهده تجاه هذه الأسر وتجاه الأحوال الإجتماعية لرجال المقاومةوجيش التحرير عندما تأسست المندوبية السامية وكان نائبا لرئيسها الدكتورالخطيب، وظل بعد ذلك الصوت المدافع والمنافح عن أحوال أسرة المقاومة.
ومن مآثر الرجل والتي تميز بها بكل شرف وعلياء وتستحق أن تحفظ له في سجل الخالدين، أنه في المغرب المستقل نأى بجانبه عن المواقع والمناصب السياسيةوالإدارية، وأدبر عن مغانمها ومكاسبها، وقد كان في طليعة النخبة، وله الإمكانيات الفكرية والسياسية وله السابقة في العمل الوطني لخوض غمار العمل السياسي من موقع الريادة والقيادة، ولكنه إختار التكسب من العمل التجاري والأعمال الحرة، وظل على مسافة واحدة من الأحزاب السياسية، بل إنه ظل يسعف شخصيات هذه الأحزاب السياسية بالدعم المادي الذي كان يقدمه بسخاء ويقدمه حتى لأولئك الذين يتعارض معهم فكريا وسياسيا، ولعل مثالا واحدا ينبئ عن مخبر الرجل وطبيعته، فقد كان المتعهد الرئيسي الذي تولى تكاليف إستقبال عودة الزعيم الوطني المرحوم محمد لفقيه البصري ورعاية إستضافة جموع زواره أياما متواليات.
ومن مآثره ومناقبه التي تميز بها وتفرد بها أنه يكاد يكون الوحيد من رجال المقاومة الذي يشغل الساحة الفكرية والإعلامية بكتاباته وسجالاته الصحفية، وأغنى المكتبة التاريخية بمؤلفاته عن تدوين تاريخ المقاومة وأحداثها، والتي حينما كان يؤلفها كان يهديها ويوزعها بالمجان.
Source : https://dinpresse.net/?p=8193