كتبه/د. يوسف الحزيمري
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلاَ أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلاَ وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ)(1). وفي رواية عند أحمد (فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: وَهَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)(2)
هذه شهادة عظيمة من نبي عظيم في حق رجل عظيم له من الفضل والمناقب الكثير في إعزاز دين الإسلام ونصرته بنفسه وماله وأولاده، وكان له السهم الأكبر في بناء الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة، كما كان له فضل مشهود قبل الهجرة في مكة المكرمة، ولذا أخرج أصحاب الحديث هذا الحديث وغيره في مناقب الصحابة، وفي فضلهم، وأولها مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحيه في ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْتَفَعَ بِمَالِ أَحَدٍ مَا انْتَفَعَ بِمَالِ أَبِي بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ(3).
وقول أبي بكر رضي الله عنه: (وَهَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) وفي رواية عند أحمد (وَهَلْ هَدَانِي اللَّهُ وَرَفَعَنِي إِلَّا بِكَ؟)(4) يعني: أنِّي متصرّف حيث صرّفتني، وأمرك جائِز في مالي(5).
عَلَى مَعْنَى أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ قَوْلِهِ فِيهِ(6)، فَكَانَ مُرَادُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَيْ أَنَّ أَقْوَالَكَ وَأَفْعَالَكَ نَافِذَةٌ فِي وَفِي مَالِي مَا تَنْفُذُ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ مِنْ مَالِكِي الْأَشْيَاءِ فِي الْأَشْيَاءِ(7)، وأخرج عبد الرزاق في جامعه: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقْضِي فِي مَالِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا يَقْضِي فِي مَالِ نَفْسِهِ)(8).
قال السندي في حاشيته على سنن ابن ماجه: قَوْلُهُ: (هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَخْ) انْظُرْ إِلَى مُرَاعَاةِ التَّأَدُّبِ وَالتَّوَاضُعِ فِي حَضْرَتِهِ – صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ كَالْعَبْدِ وَكَذَلِكَ الْأَدَبُ فَالنَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ(9)، ولذلك مدحه الله عز وجل في قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 17، 18] قال ابن كثير: أي: وسيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى الذي يصرف ماله في طاعة ربه؛ ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا…وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم…ولكنه [أي أبو بكر الصديق رضي الله عنه] مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة؛ فإنه كان صديقا تقيا كريما جوادا بذالا لأمواله في طاعة مولاه، ونصرة رسول الله(10).
فهكذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذالين لأموالهم في سبيل الله، بحيث يجعلونها رهن إشارة رسول الله وهو إمامهم يتصرف فيها كما يتصرف في ماله لصالح الدولة الإسلامية الحديثة، وروى ابن اسحاق في السيرة أن أبا بكر أعتق من كان يعذب في الله عز وجل سبعة، أعتق: بلالاً، وعامر بن فهيرة، والزنيرة، وجارية بني عمرو بن مؤمل، والهندية وابنتها، وأم عبيس(11)، كما جهز رضوان الله عليه رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة، وكان يؤتي ماله أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله.
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه جهز جيش العسرة بألف دينار، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَنْفَقَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهمّ ارْضَ عَنْ عُثْمَانَ، فَإِنِّي عَنْهُ رَاض(12)، واشترى نصف”بئر رومة” من يهودي ثم اشترى منه النصف الآخر وجعلها كلها للمسلمين في سبيل الله، قال ابن عبد البر: كانت ركية ليهودي يبيع ماءها من المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين، يضرب لدلوه في دلائهم، وله بها شرب في الجنة؟ فأتى عثمان اليهودي فساومه بها، فأبى أن يبيعه كلها، فاشترى عثمان نصفها باثني عشر ألف درهم، فجعله للمسلمين، فقال له عثمان: إن شئت جعلت لنصيبي قربين، وإن شئت فلي يوم ولك يوم، فقال: بل لك يوم ولي يوم، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك، قال: أفسدت علي ركيتي، فاشتر النصف الاخر، فاشتراه بثمانية آلاف درهم، وأصل قصة البئر في الصحيحين(13).
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فَقَالَ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي. قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ» قَالَ أَبُو عَاصِمٍ وَأَرَاهُ قَالَ: «لَا تُورَثُ» . قَالَ: فتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّعِيفِ(14).
وقصة أبي الدحداح مشهورة في التفسير والسيرة والصحاح، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت:{من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} قال أبو الدحداح: يا رسول الله، أو إن الله يريد منا القرض؟! قال: نعم يا أبا الدحداح! قال: يدك! قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، حائطا فيه ستمئة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها، فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمئة نخلة(15).
هكذا بنيت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة وكانت قيمة البذل والعطاء والتضامن والتآزر في سبيلها في الرخاء كما في الضراء، يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الظفر بالجنة التي وعدهم الله إياها، ووعدهم بها النبي صلى الله عليه وسلم أخرج أحمد في فضائل الصحابة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجًا، أَوْ قَالَ: زَوْجَيْنِ، مِنْ مَالِهِ – أُرَاهُ قَالَ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ – دَعَتْهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: يَا مُسْلِمُ، هَذَا خَيْرٌ هَلُمَّ إِلَيْهِ “، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا رَجُلٌ لَا تَوَى عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ إِلَّا مَالُ أَبِي بَكْرٍ» ، قَالَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: وَهَلْ نَفَعَنِي اللَّهُ إِلَّا بِكَ، وَهَلْ رَفَعَنِي اللَّهُ إِلَّا بِكَ؟)(16).
وعلى هذا قامت الحضارة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ودونكم كتب التاريخ الإسلامي تجدون هذا الأمر جليا ومن أهم مظاهر الحضارة التي اعتني بها أهلها.
ونحن اليوم في ظل ما تعرفه البلاد من وباء عسير فتاك، يجدر بنا أن نستحضر هذه القيم الإسلامية النبيلة التي غرسها الإيمان في قلوب المسلمين، من البذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله، وقد قامت الحكومة بأمر من أمير المؤمنين نصره الله بإحداث صندوق كورونا كوفيد 19 لمجابهة التحديات الاجتماعية والصحية والاقتصادية لانتشار هذا الوباء بالمغرب في ظل حالة الطوارئ، وعليه تتأكد قيمة العطاء وتصبح ضرورة من الضروريات، في مثل هذا الوقت وهو (حالة الطوارئ الصحية)، ويصبح التبرع لفائدة صندوق كورونا أولوية تبرعية وواجب من الواجبات الدينية والوطنية والإنسانية، كل بقدر استطاعته، ولو برسالة نصية قيمتها عشرة دراهم، وفوق طاقتك لا تلام، ومنذ تأسيس هذا الصندوق أبان المغاربة أنهم جند مجندون وراء أمير المؤمنين نصره الله، وأنهم شعب متكافل متضامن إلى أبعد الحدود، وفي استمرار الحجر الصحي إلى غاية العشرين من ماي الجاري علينا أن نعمل جميعا في تحسيس المواطنين بأن التبرع لفائدة الصندوق ضرورة وأولوية تقتضيها حالة الطوارئ الصحية والحجر الصحي، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
ــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أخرجه الترمذي في المناقب، وصححه الألباني رحمه الله، انظر: سنن الترمذي ت بشار (6/ 50)
2 ـ مسند أحمد ط الرسالة (12/ 414)وإسناده صحيح على شرط الشيخين
3 ـ صحيح ابن حبان – محققا (15/ 273)
4 ـ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1/ 66)
5 ـ زاد المسير في علم التفسير (1/ 534)
6 ـ شرح مشكل الآثار (4/ 279)
7 ـ شرح مشكل الآثار (4/ 279)
8 ـ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (9/ 3887)
9 ـ حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 49)
10 ـ تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 422)
11 ـ سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي (ص: 191)، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم – محققا (10/ 3441)
12 ـ سيرة ابن هشام ت السقا (2/ 518)
13 ـ شرف المصطفى، عبد الملك بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الخركوشي، أبو سعد (المتوفى: 407هـ) (4/ 316)
14 ـ شرح معاني الآثار (4/ 95)
15 ـ تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (5/ 284)
16 ـ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1/ 69)
Source : https://dinpresse.net/?p=8201