الدكتور عبد القادر بِطَار ـ أستاذ التعليم العالي في جامعة محمد الأول بوجدة.
لقد أخذت تظهر في عصرنا الحاضر فتاوى غريبة بعنوان: فتاوى العقيدة، أحيانا في مؤلفات خاصة، وأحيانا أخرى بمواقع إلكترونية تخصص مساحات واسعة للإجابة عن أسئلة المتعاملين مع وسائل التواصل الاجتماعي، تحت عنوان دائما: فتاوى العقيدة. وهذه الفتاوى لا تخلو من تهويل لبعض القضايا العقدية الجزئية التي قد تفضي بالمستفتي إلى الغلو والتطرف وإحداث الفتنة في الدين التي هي أشد من القتل،كما أخبر الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 191]. لكن المتصفح لتلك الفتاوى، الفاحص لها، الخبير بالمذاهب والعقائد الإسلامية يدرك بسهولة تهافتها وافتقارها إلى الفضيلة الخلقية العلمية أحيانا، وابتعادها عن مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة أحيانا أخرى.
إن الناظر فيما يصطلح عليه اليوم بفتاوى العقيدة يلاحظ أنها عبارة عن أجوبة تصدر وفق تأويل عقدي خاص، ولكن أصحابها يصرون على صياغتها في شكل فتوى مطلقة حتى تأخذ قوتها ومشروعيتها وتأثيرها في طالب الفتوى، وتوجيهه وجهة عقدية معلومة، تعادي التاريخ العلمي للأمة الإسلامية، وأكثر من ذلك كله فإن أصحاب تلك الفتاوى يوهمون طالبي الفتوى أن ما يقررونه ويصدرونه من فتاوى إلى العالم هو الصورة الوحيدة للإسلام، ويضللون من خلال فتاويهم مذاهب عقدية سنية عريقة، اختارتها الأمة الإسلامية منذ قرون، فإذا علمنا أن العوام يجعلون تلك الفتاوى بمثابة أدلة شرعية، أدركنا خطورة هذا الوضع، وما يمكن أن ينتج عنه من مفاسد وأضرار. وهو ما يخالف المبدأ الفقهي العام في مجال الإفتاء: درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
لقد ظل موضوع الفتاوى من الموضوعات الخطيرة في النظام الإسلامي لا يتصدرها إلا الفقهاء العالمون بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلة بالاستدلال.1
كما وجدنا بعض العلماء القدامى ممن يتصدى للإجابة عن أسئلة تتعلق بمجال الاشتغال العقدي، كما هو صنع الإمام جلال الدين السيوطي (ت911هـ) في كتابه”الحاوي في الفتاوي” فقد خصص قسما مهما من كتابه لفتاوى أصول الدين، الإلهيات، ثم النبوات، ثم المعاد، وقد ختم هذا القسم بلطائف طريفة لها صلة وثيقة بالاشتغال العقدي الإسلامي .2
وقد سلك الإمام جلال الدين السيوطي مسلكا يأخذ بين الاعتبار اختيارات الأمة في مجال العقيدة، فهو عندما يتصدى لمفهوم الإيمان مثلا يعرفه على الطريقة الأشعرية فيقول: الإيمان هو التصديق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلم من الدين بالضرورة … كما يشير إلى المذاهب السنية في قضية زيادة الإيمان ونقصانه فيقول: وهو يزيد وينقص عندنا وعند أكثر السلف، وخالف في ذلك الحنفية.3
وقد جرت العادة أن يلجأ العامة في تعرف أحكام دينهم إلى العلماء ويستفتوا المجتهدين ويقلدوهم. فالواجب على هؤلاء أن يفتوهم ولا يكلفوهم ما لا طاقة لهم به من استنباط الأحكام.4
المبدأ الفقهي العام في مجال الإفتاء:
إن من مقاصد فقه الفتوى أن يحرص المفتى على تحقيق مبدأ اليسر الذي هو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية، وكما يقول الإمام الشاطبي: “المُفْتي البالغ ذروة الاجتهاد الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال”.5
لكن هذا المبدأ الفقهي العام لا نجد له أثراً واضحا فيما يصطلح عليه بفتاوى العقيدة، حيث تهيمن عليها لغة التهويل والتجريح والتبديع والتكفير والتقليل من مذاهب سنية عريقة، والإسهام في تمزيق جسم الأمة عن طريق التشكيك في اختياراتها العقدية والفقهية، نتيجة التشبع بمنهج عقدي معين، في غياب ملحوظ للرؤية العلمية الموضوعية، وتجاهل تام لسنن التطور التي عرفتها العلوم الإسلامية بعامة.
إن الدارس لما يصطلح عليه بفتاوى العقيدة لابد أن يتعرف على شخصية المفتي وانتمائه العقدي والمذهبي لأن هذه الأمور مهمة في تنزيل الفتوى وصناعتها، لا سميا في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي، وهذا الأمر ليس جديداً، فقد اختارت الأمة الإسلامية مناهج سنية في دراسة العقيدة الإسلامية لا تختلف من حيث المقصد أو المضمون، وإن كانت تختلف من حيث الشكل، فقد يجد المشتغل بالعقائد الدينية الإسلامية بعض الاختلافات بين الأشاعرة والماتريدية في مسائل معدودة، كما يجد اختلافات واسعة بين الأشاعرة والحنابلة المتأخرين الذين أحدثوا في المذهب الحنبلي ما ليس منه كما يقول الإمام عبد الرحمن بن الجوزي. 6
إن الاتجاه الحنبلي المتأخر على وجه التحديد، الذي أصبح يحمل اليوم اسم السلفية باتجاهاتها المختلفة قد سلك أصحابه طرقا تهويلية في تقرير العقائد الدينية، مدعين أنها هي الطرق الشرعية الوحيدة التي سلكها الشرع الحكيم في تقرير تلك العقائد الدينية، مع العلم أن ما يقرره هذا الاتجاه يرجع معظمه إلى قرون متأخرة، ولا علاقة له باختيارات السلف الصالح الذي تمثله القرون الثلاثة الأولى، إنهم يحيلون وبالضبط إلى القرن السابع الهجري، حيث ظهور الشيخ تقي الدين بن تيمية (ت728هـ) رجل المذهب الحنبلي في صورته المتأخرة، الذي عمل على جعل الاتجاه الحنبلي الظاهري مذهبا رسميا لا يساويه إلا الإسلام نفسه، وبذل جهوداً جبارة في تأصيله لبعض القضايا والآراء الكلامية التي لم يكن له فيها سلف، بل واعتقاده أنها هي الصورة المرادفة للإسلام في قدسيته وتعاليه، مع الإصرار على التقليل من أهمية مذاهب سنية كانت تمثل قبل القرن السابع الهجري اختيارات جمهور علماء الأمة الإسلامية ومرجعها الأساس، كما هو الشأن بالنسبة للمدرستين: الأشعرية والماتريدية اللتين تهدفهما بالنقد بعيون حنبلية.
أما في عصرنا الحاضر فقد وجدنا كثيراً من الشيوخ ممن يجتهد في نشر آراء ابن تيمية في أسلوب يفتقر إلى الفضيلة الخلقية العلمية لكونه يهول من أمر ابن تيمية ويروج لآرائه بدعوى أن ما يقوله هذا الشيخ هو الإسلام بعينه، مع أن ابن تيمية نفسه يمثل حلقه في تطور الدرس العقدي السني، إن لم يكن استئنافا للدرس الظاهري القديم، بل إن كثيراً مما يقرره ابن تيمية لا سلف له فيه كما سلف.
إن الدارس لتاريخ المذاهب والعقائد الإسلامية يدرك بداهة أن هناك اختيارات عقدية معينة، كما أن هناك اختيارات فقهية معينة، وقد كان بعض العلماء يصرح أنه حنبلي في العقيدة، مالكي في الفقه، أو أنه مالكي في الفقه أشعري في العقيدة، أو ماتريدي في العقيدة حنفي في الفقه … في سياق احترام اختيارات الطرف الآخر، لكن هذا التسامح أو التعايش المذهبي على الأصح وجد اليوم من يعمل على طمسه وتمزيقه من أجل فرض اختيار عقدي بعينه، بأسماء موهمة أن هذا هو منطوق الإسلام ومفهومه، وهو إجراء من شأنه أن يضيق واسعا ويحرم الأمة الإسلامية من الاستفادة من تراثها العلمي الغني. بل إن هذا الأسلوب يسهم بشكل كبير في بث روح الكراهية بين المسلمين، ويشجع العوام على التطاول على العلماء والنيل منهم، خصوصا من منظري المدرستين السنيتين: الأشعرية والماتريدية.
لقد وضع الإمام تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين علي السبكي (ت771هـ) قاعدة جليلة في الجرح والتعديل يحسن توظيفها في مجال الاشتغال العقدي، من أجل تجاوز الكثير من الخلافات العقدية. والمتمثلة في الدعوة إلى ضرورة تفقد حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارحُ المجروحَ في العقيدة فجرحه لذلك . 7
ويتساءل تاج الدين السبكي عن المقصود من تفقد حال العقائد، هل معناه أنه لا يقبل قول مخالف عقيدة فيمن خالفه مطلقا، سواء السني على مبتدع وعكسه أو غير ذلك ؟
فيقول: هذا مكان معضل يجب على طالب التحقيق التوقف عنده لفهم ما يلقى عليه، وأن لا يبادر لإنكار شيء قبل التأمل فيه.
ويضيف تاج الدين في توضيح كيفية تنزيل القاعدة السالفة الذكر: واعلم أنا عَنينا ما هو أعم من ذلك مطلقا، ولسنا نقول: لا تقبل شهادة السني على المبتدع مطلقا معاذ الله، ولكن نقول: مَن شهد على آخر وهو مخالف له في العقيدة أوجبت مخالفته له في العقيدة ريبة عند الحاكم المنتصر لا يجدها إذا كانت الشهادة صادرة من غير مخالف في العقيدة، ولا ينكر ذلك إلا فَدْم أخرق. 8
ويمثل تاج الدين السبكي لاختلال هذه القاعدة بقول بعض المجسمة في أبي حاتم بن حبان: لم يكن له كبير دين، نحن أخرجناه من سجستان، لأنه أنكر الحد لله. فيا ليت شعري مَنْ أحق بالإخراج ؟ مَنْ يجعل ربه محدودا أو من يُنزهه عن الجسمية ؟ 9
وقد لاحظ تاج الدين أن بعض الشيوخ في زمانه لم تكن أحكامهم موضوعية بسبب الاختلاف في العقائد، وقد مثل بشيخه الذهبي الذي لم يكن منصفا في تراجمه لأئمة العقيدة الأشعرية بسبب تشبعه بمذهب الإثبات ومنافرة التأويل حتى قال فيه: والذي أفتي به أنه لا يجوز الاعتماد على كلام شيخنا الذهبي في ذم أشعري ولا شكر حنبلي.10
وسنقف في هذه المقالة على بعض النماذج من فتاوى العقيدة، من أجل فحصها وبيان أسسها ومرجعيتها ومقارنتها بفتاوى أخرى أكثر اعتدالا…
العقيدة الأشعريــة في فتاوى العقيدة:
يلاحظ الباحث في تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية أن هناك حملة غير مسبوقة يقودها شيوخ المذهب الحنبلي المعاصرين، ضد أئمة العقيدة الأشعرية، بل وضد كل من يخالفهم في اختياراتهم العقدية والفقهية، وهذه الحملة التي تفتقر إلى الموضوعية والفضيلة الخلقية العلمية بدأت منذ القرن الخامس الهجري، مع بعض الشيوخ المتقدمين المنتسبين للمذهب الحنبلي، من أمثال الشيخ عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي في كتبه” ذم الكلام” الذي لا يخفي عداءه الشديد لأئمة العقيدة الأشعرية، وتشدده في إقرار المذهب الحنبلي في جانبه العقدي.11
وقد سار على هذا النهج بعض متأخري الحنابلة، خصوصا الشيخ تقي الدين بن تيمية ومن تأثر به من العلماء، الذين ترد إليهم مقالات السلفية المعاصرة عموما. فهؤلاء اختاروا منهجا عقديا له جذوره التاريخية يميل إلى الظاهر مخالفين، بذلك تأويلات أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية الذين كان مقصودهم تحقيق التنزيه في مجال الاعتقاد بصورة مفصلة…
ومن النماذج الغريبة، والأسئلة الفاجرة، لما يصطلح عليه بفتاوى العقيدة، التي لا تخرج عن هذا الاتجاه، سؤال بعضهم عن إمامة المخالف لأهل السنة، الذي يتحدد عند أصحاب هذه الفتوى بالأشعري.
فقد طرح بعضهم السؤال الآتي: هل تجوز الصلاة خلف صاحب عقيدة مخالفة لأهل السنة والجماعة كالأشعري مثلا ؟
فكان الجواب كالآتي:” الأقرب والله أعلم أن كل من نحكم بإسلامه يصح أن نصلي خلفه، ولا نكفره، هذا قول جماعة من أهل العلم وهو الأصوب، وأما من قال: إنها لا تصح خلف العاصي، فقوله هذا مرجوح، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص بالصلاة خلف الأمراء، والأمراء منهم الكثير من العصاة، وابن عمر وأنس وجماعة صلوا خلف الحجاج وهو أظلم الناس، فالحاصل أن الصلاة تصح خلف مبتدع بدعة لا تخرجه عن الإسلام، أو فاسق فسقا ظاهراً لا يخرجه من الإسلام، لكن ينبغي أن يولى صاحب السنة، وهكذا الجماعة إذا كانوا مجتمعين في محل يقدمون أفضلهم.12
هذا نموذج لما يصطلح عليه بفتاوى العقيدة، وكيف يصور أصحابه أئمةَ العقيدة الأشعرية الذين حملوا لنا الشريعة الإسلامية، والذين أصبحوا في نظر البعض موضوع تساؤل من قبيل: هل تصح الصلاة خلفهم أم لا، فمجرد طرح هذا السؤال يعبر عن قصور منهجي، وخلق غير علمي.
لقد أصبح أئمة العقيدة الأشعرية في رأي المفتي وطالب الفتوى مجرد مبتدعة، في حين أن المخالف لهم في العقيدة، هو السني، وهو الأفضل والأجدر الذي ينبغي أن يؤم الجماعة إذا كان مجتمعين.
وفي تراثنا المغربي الغني فقد وجه بعض الأفاضل سؤالا إلى بعض العلماء المشهود لهم بالرسوخ في العلم والصلاح والتقوى، ويتعلق الأمر بالفقيه الجليل أبي الوليد محمد بن رشد القرطبي الجد (ت520هـ).
أما السائل فهو سأل أمير المسلمين، علي بن يوسف بن تاشفين، ثاني ملوك دولة المرابطين، أبا الوليد محمد بن أحمد بن رشد عن رأيه في أئمة العقيدة الأشعرية، وحكم من ينتقصهم، وهذا نص الفتوى:
” سؤال أمير المسلمين، رضي الله عنه، للقاضي أبي الوليد بن رشد رضي الله عنه:
ما يقول الفقيه القاضي الأجل الأوحد أبو الوليد وصل الله توفيقه وتسديده، ونهج إلى كل صالحة طريقه، في الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأبي إسحاق الأسفراييني، وأبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فورك، وأبي المعالي، وأبي الوليد الباجي، ونظرائهم ممن ينتحل علم الكلام، ويتكلم في أصول الديانات، ويصنف للرد على أهل الأهواء، أهم أئمة رشاد وهداية، أم هم قادة حيرة وعماية ؟
وما تقول في قوم يسبونهم، وينتقصونهم، ويسبون كل من ينتمي إلى علم الأشعرية، ويكفرونهم، ويتبرؤن منهم، وينحرفون بالولاية عنهم، ويعتقدون أنهم على ضلالة، وخائضون في جهالة، فماذا يقال لهم، ويصنع بهم، ويعتقد فيهم؟ أيتركون على أهوائهم أم يكف عن غلوائهم؟ وهل ذلك جرحة في أديانهم، ودخل في إيمانهم؟ وهل تجوز الصلاة وراءهم أم لا ؟
بين لنا مقدار الأئمة المذكورين ومحلهم من الدين، وأفصح لنا عن حال المنتقص لهم والمنحرف عنهم، وحال المتولي لهم، والمحب فيهم مجملا مفصلا، ومأجورا إن شاء الله تعالى.
فأجاب ابن رشد -رحمه الله-:
تصفحت عصمنا الله وإياك، سؤالك هذا، ووقفت عليه، وهؤلاء الذين سميت من العلماء أئمة خير وهدى، وممن يجب بهم الاقتداء، لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات، وبينوا ما يجب أن يدان به من المعتقدات.
فهم بمعرفتهم بأصول الديانات العلماء على الحقيقة، لعلمهم بالله عز وجل، وما يجب له، وما يجوز عليه، وما ينفى عنه، إذ لا تعلم الفروع إلا بعد معرفة الأصول.
فمن الواجب أن يعترف بفضائلهم، ويقر لهم بسوابقهم، فهم الذين عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله:” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”. فلا يعتقد أنهم على ضلالة وجهالة إلا غبي جاهل أو مبتدع زائغ عن الحق مائل، ولا يسبهم وينسب إليهم خلاف ما هم عليه إلا فاسق. وقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُوذُونَ الْمُومِنِينَ وَالْمُومِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾. [الأحزاب: 58]
فيجب أن يبصر منهم الجاهل منهم، ويؤدب الفاسق، ويستتاب المبتدع الزائغ عن الحق، إذا كان مستسهلا ببدعة فإن تاب وإلا ضرب أبدا حتى يتوب، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بصبيغ المتهم في اعتقاده من ضربه إياه حتى قال: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد دوائي فقد بلغت مني موضعَ الداء، وإن كنت تريد قتلي فأجهز علي، فخلى سبيله. والله أسأله العصمة والتوفيق برحمته.13
ما يستفاد من فتوى الإمام أبي الوليد ابن رشد:
تعتبر فتوى الإمام أبي الوليد ابن الجد رشد بمثابة وثيقة تاريخية مهمة، وهي أيضا ترسم خريطة الطريق للدرس العقدي الأشعري السني في المغرب، ونشير إلى ما يستفاد من تلك الفتوى من أحكام سلطانية في مجال الاشتغال العقي لإسلامي:
أولا: السائل هو أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني أمير المسلمين بمراكش، ثاني ملوك دولة المرابطين. وسؤاله للفقيه أبي الوليد بن رشد الجد يدل على عدم اقتناعه بما كان يرج له بعض خصوم العقيدة الأشعرية من تهم وافتراءات، وباستصداره لفتوى من العلماء المعتبرين الثقات من أمثال أبي الوليد يضع حداً فاصلا لهذه التهم الباطلة التي يتعالى عنها أعلام المدرسة الأشعرية السنيين، كما أنه بسؤاله مهد لظهور العقيدة الأشعرية التي ستصبح فيما العقيدة الرسيمة للمغاربة على عهد الموحدين.
ثانيا: إن التشويش على العقيدة الأشعرية ظهر منذ ظهور هذه العقيدة السنية الجماعية من قبل أناس قصر نظرهم، وضعفت بضاعتهم، ثم إن الطعن كان موجها بالأساس إلى كبار أئمة المذهب الأشعري، ربما لاعتقادهم أن النيل من هؤلاء الأعلام كاف لهدم المذهب الأشعري من أساسه، ولكن سقط في أيديهم، حيث أصبح المذهب الأشعري مذهبا رسميا مجمعا عليه من قبل الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة كما يذكر العز بن عبد السلام (ت660هـ).
ثالثا: لقد سأل أمير المسلمين عن كبار شيوخ المذهب الأشعري ويتعلق الأمر بالأعلام:
* الإمام المجدد أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل بن بشر بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن بلال بن بردة بن موسى الأشعري. وكنيته أبو الحسن ويلقب بناصر الدين. ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، توفي عام 324هـ.
* أبو إسحاق ركن الدين إبراهيم بن محمد الإسفراييني (ت418هـ) وهو متكلم على مذهب الإمام الأشعري، قال عنه الإمام أبو المظفر الإسفرييني: عقمت النساء عن أن يلدن مثله، ولم تر عيناه في عمره مثل نفسه، وكان شديداً على خصمه، يفرق الشيطان من حسه قدس الله روحه، وله تصانيف في أصول التوحيد، وفي الأصول، كل واحد منها معجز في فنه…14
وقال عنه ابن عساكر الدمشقي: “… وفوائد هذا الإمام وفضائله وأحاديثه وتصانيفه أكثر وأشهر من أن تستوعب في مجلدات، فضلا عن اطباق الأوراق.15
* أبو بكر محمد بن الطيب الباقالاني (ت403هـ) وقد كان من كبار المتكلمين على مذهب الإمام الأشعري، له عدة مؤلفات: منها تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، في العقيدة، الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به في العقيدة أيضا…
* أبو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني (ت406هـ) وهو من كبار المتكلمين على مذهب الإمام الأشعري، قال عنه الإمام الاسفراييني: “لم ير مثله في نشر دينه، وقوة يقينه، وله أكثر من 120 تصنيفا في نشر الدين والرد على الملحدين، وتحقيق أصول الدين”.16
من أشهر مؤلفاته: “مشكل الحديث وبيانه” وكتاب “الحدود في الأصول” كتاب “مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري”.
* أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني الملقب بإمام الحرمين (ت474هـ) وهو من كبار شخصيات المذهب الأشعري، له عدة مؤلفات منها: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، والعقيدة النظامية، والشامل في أصول الدين، ولمع الأدلة…
* أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي (ت474هـ) من كبار فقهاء المالكية، ومن حفاظ الحديث، وهو متكلم أيضا على الطريقة الأشعرية له عدة مؤلفات، منها المنتقى شرح الموطأ… كما له مؤلف في التوحيد مفقود، وله “التسديد إلى علم التوحيد”.
ولقد تصدى كثير من العلماء للمفترين على المدرسة الأشعرية وعلمائها، مثل ما فعله الإمام الحافظ ابن عساكر الدمشقي في كتابه: “تبيين كذب المفتري فيما نَسَبَ إلى الإمام أبي الحسن الأشعري”، وقد قال في مقدمته: ” لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم…” 17
لقد أسس شيخ المذهب أبو الوليد بن رشد جوابه على المرتكزات الآتية:
* أن أئمة العقيدة الأشعرية قاموا عبر التاريخ بحفظ الشريعة، والرد على المخالفين لعقيدة أهل السنة والجماعة. في إطار رسالة العلماء التي حددها الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين” والذي حمله ابن رشد على أئمة العقيدة الأشعرية السنية.
* أن مهمة الأشاعرة واشتغالهم العقدي الإسلامي ارتكز بالأساس على بيان أمور العقيدة بخاصة مع الرد على الشبه التي كانت تثار حول العقائد الإسلامية بعامة.
* حدد ابن رشد عدة مستويات للرد على من يطعن في أعلام المدرسة الأشعرية السنية، منها: تبصير الجاهل منهم بحقيقة هؤلاء الأعلام، ومعاقبة المبتدع والفاسق.
* عمد بعض الباحثين المعاصرين إلى العبث بهذه الفتوى، وقراءتها قراءة غير منصفة إطلاقا. فقد كتب هذا الباحث فصلا بعنوان: موقف علماء المغرب من علم الكلام والأشعرية، أورد فيه نص سؤال أمير المسلمين الذي أوردناه أعلاه، ولم يعرج قط على جواب ابن رشد. بل اكتفى بالقول:” وبغض النظر عن جواب أبي الوليد ابن رشد عن السؤال فإن مضمونه يشير إلى وجود اتجاه في المغرب كان أصحابه ينقمون على علماء الأشعرية خصوصا”.18
وتعليق الباحث على فتوى علمية بهذا الشكل في سياق الحديث عن بيان مواقف علماء المغرب على زعمه، خلق غير علمي، وسلوك غير نبيل، فيه تلبيس وتدليس لا يخفى، الهدف منه النيل من السادة الأشاعرة، تمشيا مع الخط الذي رسمه لنفسه منذ البداية، وهو يصدر عن منهج آخر، ليس هو منهج أهل السنة والجماعة، الذي نهض بالدعوة له أئمة العقيدة الأشعرية، فالزعم أن هناك اتجاها في المغرب كان يعارض الأشعرية ليس صحيحا إطلاقا، إذ كيف يعارض عاقل عقيدة سنية جماعية التي تعتبر العقيدة الأشعرية الصياغة النهائية لها. وقد رأينا الإمام ابن رشد الجد وهو واحد من كبار علماء المغرب، وهو ثبت ثقة موضوع إجماع كيف يقدم لنا أئمة العقيدة الأشعرية في صورة سنية خالصة، ويعتبرهم المتكلمين على الحقيقة … فإذا كان مقصود الباحث عوام المشبهة فهؤلاء لا يلتفت إلى كلامهم وعداؤهم للأشعرية، بل لكل منزه داء قديم.
وصفوة القول: إن الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في حاجة ماسة اليوم إلى من يقرب ويسدد، ويعمل على جمع الكلمة، وتوحيد الصف، من أجل مواجهة تحديات العصر، التي تتجاوز الخلافات العقدية اللفظية التي شغلت الناس، وملأت الدنيا، في فترة من فترات التاريخ، وهي كلها اجتهادات حسنة مقبولة، لا تمس جوهر أصول العقيدة الإسلامية في شيء.
ـــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) فتاوى البرزلي، المسمى جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام، للإمام الفقيه أبي القاسم بن أحمد البلوي التونسي المعروف بالبُرزُلي، 1/62 تقديم وتحقيق الدكتور محمد الحبيب الهيلة، طبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 2002.
(2) الحاوي في الفتاوي، في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون، تألفي الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي 2 /313 تحقيق وتعليق محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت 1995.
(3)المصدر السابق 2/213
(4) المصدر نفسه 1/62.
(5) أصول التشريع الإسلامي، علي حسب الله ص: 102 دار المعارف بمصر، سنة 1967.
(6) الموافقات في أصول الأحكام، تأليف الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المعروف بالشاطبي، 4/172 تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، مطبعة المدني بمصر بدون تاريخ.
(7) دفع شبة التشبيه ص:8 تحقيق وتعليق زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، 1998.
(8) قاعدة في الجرح والتعديل، وقاعدة في المؤرخين، للإمام تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن تقي الدين علي السبكي، الصفحة: 30 تحقيق عبد الفتاح أبي غدة، طبعة دار الوعي حلب، الطبعة الثانية القاهرة 1978
(9) المصدر السابق، الصفحة: 46
(10) المصدر نفسه الصفحة: 32.
(11) المصدر نفسه الصفحة: 85
(12) أنظر كتابه: ذم الكلام، باب ذكر كلام الأشعري، الصفحة 307 تحقيق د. سميح دغيم، طبعة دار الفكر اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى 1994.
(13) فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء الأفاضل، الشيخ بن باز، الشيخ محمد بن عثيمين، الشيخ عبد الله بن جبرين ، قدم له وأشرف عليه الشيخ قاسم الشماعي الرفاعي، 1/92 طبعة دار القلم بيروت الطبعة الأولى 1988.
(14 ) فتاوى ابن رشد ، 2/802 لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي تقديم وتحقيق وتعليق الدكتور المختار بن الطاهر التليلي، طبعة دار الغرب الإسلامي. بيروت لبنان الطبعة الأولى 1987.
(15 ) التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين ص: 426 تحقيق المجيد الخلفية، طبعة دار ابن حزم الطبعة الأولى 2007.
(16) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري للحافظ بن عساكر الدمشقي، ص 244 طبعة دار الكتب العلمية.
(17 ) التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين للأسفراييني ص: 428 تحقيق المجيد الخلفية، طبعة دار ابن حزم الطبعة الأولى 2007.
(18 ) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري ص 29 طبعة دار الكتب العلمية.
(19 ) جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة، د. إبراهيم التهامي، الصفحة: 276، مؤسسة الرسالة ناشرون بيروت الطبعة الأولى 2005.
(20) الملل والنحل للشهرستاني، 1/ 104.
(21) مقدمة ابن خلدون، ص: 459.
(22) أساس التقديس للإمام فخر الدين الرازي، القسم الثاني: تأويل المتشابهات من الأخبار والصفات، ص: 103، 222.
(23) غاية المرام في الكلام، للآمدي، ص: 138.
(24) المصدر السابق، ص: 136. انظر أيضا الآمدي وآراؤه الكلامية د. حسن الشافعي، ص: 335.
(25) المواقف في علم الكلام، للإيجي، ص: 272، 275.
(26) شرح المقاصد للتفتراني، 4/174، تحقيق عبد الرؤوف عميرة، عالم الكتب، بيروت.
(27) العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، للجويني، ص: 32.
(28) شرح العقائد النسفية للتفتزاني، ص: 35.
(29) شرح جوهرة التوحيد للباجوري، ص: 153-154.
(30) المصدر السابق، ص: 154.
(31) إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني (تـ1041ﻫ) أحد علماء القرن العاشر الهجري، صاحب المنظومة الشهيرة بجوهرة التوحيد.
انظر على سبيل المثال:
(32) التمهيد للباقلاني، ص: 47.
(33) منهاج السنة النبوية لابن تيمية، 1/108.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=9528