ذ. محمد جناي
أخذ مفهوم العدالة الاجتماعية صدارة واضحة خلال الفترة الماضية مع ثورات الشعوب لنجد أن المفهوم تحول إلى شعار. والعدالة الاجتماعية هي تلك الحالة التي ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثورة أو السلطة أو من كليهما،والتي يغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي وتنعدم فيها الفروق غير المقبولة اجتماعيا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة،والتي يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة ولاتجور فيها الأجيال الحاضرة على حقوق الأجيال المقبلة، والتي يعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية ،والتي يتاح فيها لأفراد المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم ولإطلاق طاقاتهم من مكامنها ولحسن توظيف هذه القدرات والطاقات بما يوفر لهؤلاء الأفراد فرص الحراك الاجتماعي الصاعد ،وبمايساعد المجتمع على النماء والتقدم المستدام .*
وثمة اتصال عضوي بين العدالة الاجتماعية والتنمية ،فبدون إحداث التنمية لايمكن الحديث عن العدالة الاجتماعية،وبدون العدالة الاجتماعية لايمكن الحديث عن تنمية تؤتي ثمارها،وقد فرضت قضية العدالة الاجتماعية نفسها على جدول أعمال الدولة والمجتمع مع اندلاع الحراك الاحتجاجي الشعبي الذي أنهى المقايضة بين الخبز والحرية، وعليه فمفهوم التنمية تطور تطورا كبيرا منذ منتصف القرن الماضي ،وبالمثل تطور مفهوم العدالة الاجتماعية باضطراد بوصفه مفهوما مثقلا بدلالات أيديولوجية وفلسفية وسياسية ودينية.
وعرف التقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 2002 بكونها أي التنمية الإنسانية ” عملية توسيع الخيارات الاجتماعية والسياسية والثقافية”،وأن “تنمية الناس من أجل الناس ومن قبل الناس” ،وأن “تنمية الناس تشمل بناء القدرات الإنسانية عن طريق تنمية الموارد البشرية ،أما التنمية من أجل الناس فتعني أن عائد النمو يجب أن ينعكس على حياة الناس، في حين أن التنمية من قبل الناس تفيد تمكينهم من المشاركة بفعالية في التأثير على التطورات التي تشكل جوهر حياتهم.
والمؤشرات التي نقيس بها التقدم نحو تحقيق التنمية تتعلق بقياس نسبة الفقر والفقراء ومعدلات البطالة واللامساواة والحرمان من الخدمات والسلع العامة ومظاهر القمع السياسي والاقتصادي ،وليس بالاعتماد على مؤشرات دخل الفرد الحسابي والناتج القومي وحدها .
وتقع العدالة الاجتماعية في صلب مطالب التغيير والإصلاح في الدول المغاربية بسبب الإخفاق في تحقيق التنمية القائمة على العدالة الاجتماعية ،وانخراطها في تطبيق سياسات تكرس الفقر والتهميش والإقصاء وعدم المساواة ،إذ لايكاد يخلو بلد من هذه الدول من صور الإجحاف والتمييز والإقصاء والتهميش ،وتحقيق العدالة الاجتماعية هدف إنساني ولذلك لايعفي الدول وحكوماتها من واجباتها والتزاماتها السياسية والاجتماعية والقانونية والأخلاقية، حتى أصبحت شرعية أي نظام حكم ترتكز على أساس قدرته على تحقيق العدالة الاجتماعية لمواطنيها.
وهو مايبرز الحاجة لانتهاج مقاربات التنمية القائمة على نهج حقوق الإنسان على نحو يلبي التمتع الفعلي بمختلف فئات حقوق الإنسان، ويأخذ في الاعتبار قدرات الدول والحاجة للتدرج في تلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية،والعدالة الاجتماعية يمكن تحقيقها ووضع معايير وأهداف ومؤشرات لقياس مدى الوفاء بها إذا وجدت الإرادة السياسية.
مرتكزات العدالة الاجتماعية
رغم التنوع الكبير في مفهوم العدالة الاجتماعية والتعريفات التي لا تحصى لها يجمع عدد كبير من البحوث الأكاديمية والمؤلفات العلمية على عدد من العناصر الواجب توافرها لتحقيقها ،أبرزها:
أولا : المساواة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص
يعد مبدأ المساواة وعدم التمييز هو حجر الزاوية في العدالة الاجتماعية .بل كثيرا ماينظر إلى العدالة الاجتماعية كمرادف للمساواة،ولكن يجب الانتباه إلى أن العدالة الاجتماعية لاتعني المساواة الكاملة أو المطلقة بمعنى التساوي الحسابي في أنصبة أفراد المجتمع من الدخل أو الثورة، فمن الوارد أن تكون هناك فروق في هذه الأنصبة تتواكب مع الفروق الفردية بين الناس في أمور كثيرة، كالفروق في الجهد المبذول في الأعمال المختلفة أو فيما تتطلبه من مهارات أو تأهيل علمي أو خبرة أو طبيعة الاحتياجات.
وتقترن المساواة في الفرص بثلاثة شروط ،هي ✓ عدم التمييز بين المواطنين ،وإزالة كل مايؤدي إليه من عوامل ،وغياب مايترتب على التمييز من نتائج سلبية كالتهميش والإقصاء الاجتماعي والحرمان من بعض الحقوق ✓ توفير الفرص: حيث لامعنى للحديث مثلا عن التكافؤ في فرص العمل إذا كانت البطالة شائعة ،وهو مايرتب التزاما من الدولة بوضع السياسات واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتوفير فرص العمل،✓ تمكين الأفراد من الاستفادة من هذه الفرص ومن التنافس على قدم المساواة.
فمبدأ المساواة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص الذي يمثل حجر الأساس في العدالة الاجتماعية يعد بحق الفريضة الغائبة في البلدان المغاربية، وتجمع العديد من الأدبيات الدولية والوطنية حول عدد من العناصر الجوهرية لتعزيز العدالة الاجتماعية ،أهمها مايلي:
ـ الحاجة إلى نمط جديد للتنمية يتجاوز أهداف النمو الاقتصادي إلى تلبية احتياجات الناس،ألا وهو التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية مجتمعة .
ـ إعادة النظر في الحدين الأدنى والأعلى للأجور،بما يحقق العدالة الأفقية بين القطاعات والعدالة الرأسية في هيكل الأجور واعتماد مفهوم الدخل بدلا من الأجر أو الراتب الأساسي ،أي : الأخذ في الاعتبار المكافآت والحوافز .
ـ إعطاء مسألة توفير فرص عمل للشباب ماتستحقه من اهتمام.
ـ إعادة النظر في السياسة الضريبية ، وتبنى سياسات ضريبية أكثر تدرجا بغية تمويل البرامج الرئيسة مثل التعليم والحماية الاجتماعية ،وتهيئة بنية أساسية كثيفة العمالة.
ـ توفير ضمان اجتماعي جيد التصميم ،يضمن توسيع نطاق مظلة التأمينات الاجتماعية القائمة على الاشتراكات وإعانة البطالة ،وإرساء أرضية حماية اجتماعية لأكثر الناس استضعافا .
ثانيا: التوزيع العادل للموارد والأعباء (العدالة التوزيعية)
الذي يعني التوزيع العادل للموارد والأعباء من خلال نظم الأجور والدعم ودعم الخدمات العامة ،وخصوصا الخدمات الصحية والتعليمية .
ثالثا: الضمان الاجتماعي (الحماية الاجتماعية)
يعد الضمان الاجتماعي أحد الأركان الرئيسة للعدالة الاجتماعية ،ويحظى بمكانة في ضمان الكرامة الإنسانية لجميع الأشخاص،كما يحظى بتأكيد في وثائق القانون الدولي لحقوق الإنسان وبرامج منظمة العمل الدولية، كما يلزم العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الدول الأطراف فيه (المادة 19) “بحق كل شخص في الضمان الاجتماعي،بما في ذلك التأمينات الاجتماعية”.
إن جوهر عملية المواطنة هو الوصول بالدولة إلى المساواة والإنصاف والشراكة الحقيقية وضمان الحقوق والواجبات القائم على الديموقراطية والشفافية ، وأنه لايكتمل مفهوم المواطنة على الصعيد الواقعي، إلا بإنشاء دولة الإنسان.
حيث راهنت الكثير من الأنظمة ولايزال البعض يراهن على أن تحقيق تقدم تنموي يقوم على رفع الدخل أو توفير الخبز من شأنه القفز على حقوق الإنسان وتهميش حق الناس في المشاركة الفعالة في قيادة مجتمعهم وتنظيم دولتهم، ولندرك أن تحقيق مبادئ حقوق الإنسان في تنوعها وشموليتها يكون في جوهر العدالة الاجتماعية ،حيث لايمكن أن نحقق طائفة من الحقوق دون غيرها.
والمتتبع لشواهد كثيرة ليس المغرب آخرها تؤكد على الترابط في مبدأ الحقوق، وأنه لايمكن لأي نموذج تنموي أن يحقق نجاحا بدون حقوق سياسية ومدنية وبدون احترام جوهر حقوق الإنسان القائم على احترام الكرامة البشرية.
لقد أرادت الأنظمة أن تحكم قبضتها على الجميع من خلال الأمن اليقظ الذي يحصي على الناس أنفاسهم وهي دول قائمة على الاقتصاد الريعي، حيث سارعت إلى تحسين الوضع الاقتصادي ولو بشكل محدود أو بإغراق المواطن بالديون على أساس أن تحسين وضعه الاقتصادي يعوضه عن كل الحقوق الأخرى.
وصفوة القول:
نقول وأنه مع التطور الاجتماعي وتبلور الفئات والطبقات الاجتماعية وتكون المؤسسات بأشكالها المختلفة تبين أن قضية العدالة /المساواة أكثر من أن تكون قضية أخلاقية أو دينية محضة، فهي ترتبط ارتباطا وثيقا بنيويا وهيكليا بحركية المجتمع ،وطبيعة الدولة بهياكلها، ونمط الإنتاج السائد، والتوجهات المعمول بها وعن من تعبر ،وأخيرا السياسات القائمة وهل هي قادرة على تحقيق المساواة أم لا.
المصادر:
* الندوة الدولية حول التنمية والديموقراطية وتطوير النظام الإقليمي العربي -القاهرة ماي/آيار 2013.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=10152