ذ. محمد جناي
إن وسائل التضليل عديدة ومتنوعة، لكن من الواضح أن السيطرة على أجهزة المعلومات،والصور على كل المستويات،تمثل وسيلة أساسية .ويتم تأمين ذلك من خلال إعمال قاعدة بسيطة من قواعد اقتصاد السوق وهي أن امتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها،شأنه شأن أشكال الملكية الأخرى،متاح لمن يملكون رأس المال.والنتيجة الحتمية لذلك هي أن تصبح محطات الإذاعة وشبكات التليفزيون والصحف والمجلات ،وصناعة السينما ودور النشر مملوكة جميعا لمجموعة من المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية .وهكذا يصبح الجهاز الإعلامي جاهزا للاضطلاع بدور فعال وحاسم في عملية التضليل.
إن تضليل عقول البشر هو على حد قول باولو فرير ،” أداة للقهر ” ، فهو يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى ” تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة ” ، وعندما يؤدي التضليل الإعلامي للجماهير دوره بنجاح، تنتفي الحاجة إلى اتخاذ تدابير اجتماعية بديلة.
على أن تضليل الجماهير لايمثل أول أداة تتبناها النخب الحاكمة من أجل الحفاظ على السيطرة الاجتماعية،فالحكام لا يلجأون إلى التضليل الإعلامي إلا عندما يظهر الشعب في الظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية ، أما قبل ذلك ، فلا وجود للتضليل ، بل نجد بالأحرى قمعا شاملا، إذ لاضرورة هناك لتضليل المضطهدين ، عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع.
ولكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر ،لابد من إخفاء شواهد وجوده. أي أن التضليل يكون ناجحا عندما يشعر المصابون بأن الأشياء هي على ماهي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية. بإيجاز شديد نقول :إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا.
وعلى ذلك فلابد من أن يؤمن الشعب الذي يجري تضليله بحياد مؤسساته الاجتماعية والرئيسة. لابد أن يؤمن الشعب بأن الحكومة والإعلام والتعليم والعلم بعيدة جميعا عن معترك المصالح الاجتماعية المتصارعة .وتبقى الدولة والحكومة ،بوصفها ركيزة أسطورة الحياد. فهذه الأسطورة تفرض مسبقا الاقتناع الكامل باستقامة وعدم تحزب الحكومة بوجه عام وينظر إلى وقائع والفساد والغش والاحتيال على أنها نتيجة مترتبة على الضعف الإنساني .
والتلاعب بالعقول صناعة، تقوم على عدة وسائل، ربما يكون أهمّها: التعددية الإعلامية، وهى أسطورة من أساطير السيطرة على العقول، وتضليل الوعي الشعبي.
والإعلام ليس سلطة رابعة فقط كما يقال ولم يعد مجرد ترف يمارسه من يملكون السلطة لتلميع صورتهم ونشر أخبارهم للجمهور كما يريدون أن تظهر ، والطريق إلى ذلك معروف وأداته واضحة وهي “الدعاية ” ، الأداة الأكثر فعالية ، والأكثر كلفة وجهدا رغم أنها تصنف في مصاف السهل الممتنع ، سهلة لأنها واضحة المعالم والسمات والطرق والأساليب وممتنعة لأنها أصبحت اليوم أكثر تعقيدا وكلفة بعد أن تطورت التقنية، وصار التضليل هو الغاية النهائية لأنه يعني تسويق فكرة أو موقف مغاير للواقع ،والتلاعب به لتغيير وجهات النظر الموجودة لدى الرأي العام عن أي موضوع كان.
ماهي الدعاية ؟
نجد في قاموس إيفرون الموسوعي تفسير موسع للمفهوم : “الدعاية هي الاستخدام الممنهج لأي وسيلة اتصال للتأثير على عقل وأحاسيس هذه الفئة من الناس لهدف محدد ، له أهمية اجتماعية “.
وتقوم هذه الدعاية التي جوهرها التلاعب بالوعي ،بإجراءات ثلاثة هادفة :
*إدخال محتويات مرجوة غير واضحة إلى الوعي ،تحت ستار المعلومات الموضوعية.
*التأثير على نقاط الضعف في الوعي الاجتماعي ،التي تثير الرعب ،والقلق ،والكراهية ….إلخ
*تنفيذ خطط وأهداف خفية،يرتبط تحقيقها بمساندة الرأي العام لها.
استخدمت الدعاية السياسية على سبيل المثال ، كوسيلة للصراع الإيديولوجي ، أثناء الحروب بشكل واسع، وبخاصة الحروب المتعلقة بالصدامات الفكرية ،حيث حاولت الطبقات المسيطرة ،استخدام وسائل الإعلام للتأثير ليس على السكان المحليين فحسب ،بل وعلى سكان الدول الأخرى لجذبهم وحشدهم ، إلى جانبها ويورد المؤرخون على سبيل المثال ،الدعاية الدينية التي شنت في العصور الوسطى لدعم الحروب الصليبية ،وشعارات الثورة الفرنسية العظمى ، التي استخدمت في أهداف السياسة الخارجية لفرنسا ، أثناء صراعها مع الدول الاستبدادية الأوروبية .
إن الجزء الأكبر من الأساليب الدعائية ، والطرق المتنوعة للتلاعب بالوعي والعقول ، والتأثير على نفسية وسلوك الناس ، مؤسس على أنماط مختلفة من الاستيعاب ، والتفكير، والمجال الروحي للإنسان .والدعاية وعملية التلاعب بالوعي ، كانت تخضع دائما لآلية تطوير مستمرة من قبل الاختصاصيين الغربيين، وفقا للتجارب التي مرت بها، حيث تبلورت مجموعة من الطرق ، التي يتم استخدامها حاليا على مستوى واسع حول العالم ، وبخاصة المناطق المستهدفة التي تفتعل فيها الأزمات ومن أهم هذه الطرق :
خيار وهمي
يتلخص جوهر هذه الطريقة ، بتقديم عدد من وجهات النظر المختلفة للقراء أو المشاهدين ،حول مسألة محددة ،بحيث يتم تقديم تلك التي يريدون أن يتقبلها الجمهور، بشكل أكثر ملائمة ، وغير ملاحظ.
السخرية باستخدام هذه الطريقة، يمكن أن يتعرض للسخرية، ليس شخصيات اجتماعية أو سياسية محددة فحسب، وإنما وجهات نظر، وأفكار، وبرامج، ومؤسسات ونشاطاتها، واتحادات جماعات مختلفة من الناس، الموجه ضدها الصراع.
الإسناد إلى مرجعية مجهولة موثوقة هي الطريقة المفضلة التضليل ، وتحريف الواقع ،تستخدمها وسائل الإعلام الغربية بشكل مكثف، وهذه الطريقة تنتمي إلى مايسمى “الدعاية الرمادية ” ، وهي الاستناد إلى مرجعية ذات مصداقية، يمكن أن تكون شخصية دينية ،أو سياسية مهمة ، أو عالما، أو أي شخصية متميزة في أي تخصص آخر.
التعتيم الإعلامي
ارتبطت طريقة التعتيم الإعلامي دائما ارتباطا وثيقا بالهيمنة الإعلامية ،إنهما وجهان لعملة واحدة ، يقومون مثلا بإحداث فراغا إعلاميا حول مسألة ما، ثم يتبعه نشر معلومات هادفة عنها، وهذا مايسمح بضمان حصول تفسير موحد عن الأحداث الحاصلة، ويؤدي عمليا إلى إحداث تخدير جماعي للناس.حيث تصبح وجهة النظر الأخرى غير متوفرة عمليا لشريحة واسعة من الناس.
وختاما
لاشك أن أهم دروس مايسمى بالربيع العربي ،هو ذلك الدور الخطير والهدام ،الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية والمستعربة ،وتلعبه في غسل أدمغة الناس، وتضليلهم، كي يكونوا أدوات مكملة لمخططات الدول المتآمرة ، التي استغلت الأزمات التي تعاني منها شعوب المنطقة ، كي تتلاعب بعقولهم وتوجهها حسب أهدافها غير المعلنة.
ــــــــــــــــــــــــــ
المراجع :
تأليف : هربرت أ. شيللر ترجمة: عبد السلام رضوان كتاب عالم المعرفة العدد 243 منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب -الكويت.
د . فريد حاتم الشحف ،الدعاية والتضليل الإعلامي (الأساليب والطرق) دار علاء الدين الطبعة الأولى 2015 سورية -دمشق.
Source : https://dinpresse.net/?p=9970