ادريس هاني
أصيبت بيروت أمس في مخازن قوتها ودوائها، انفجار يعيدنا إلى صورة هيروشيما وناكازاكي، انفجار كبير في قلب مدينة نابضة بالجمال والحرية والمقاومة. ضربات متتالية ليست موجعة للشعب اللبناني الذي يعاقب اليوم على احتضانه المقاومة وفكرتها التي عوضته عن ضعف الإدارة الدولتية وجعلت منه لبنان القويّ من حيث شعبه ومقاومته وجيشه الذي شكّل ضامنا. بيروت عاصمة كل العرب، وفاجعتها هي فاجعة الأحرار منهم.
هنا بات الموت بالجملة والدمار جزء مؤثتا لمدينة لا تخضع للابتزاز. ولقد آثر الشعب اللبناني خرائب لبنان على الرفاهية الممنوحة بتعاقد مشبوه: المساعدات مقابل الخضوع. ولقد استعملوا تنوعه الجميل في برنامج توحشهم وكأن مشكلة لبنان هي هذا التنوع، والحقيقة أنه تنوع جميل لو تُركوا لحالهم، غير أنّ لبنان في مرآت المتوحشين يصبح مأزوما. التنوع الجميل في لبنان أنتج أولى معالم مشروع النهضة العربية لكن حينما تغلغل التوحش في برنامجه السياسي وتحت إشراف الرجعية المانحة تحوّل إلى دكاكين مفعمة بالمتاجرة السياسية والحقد، ثم بعد كل هذه الملحمة أصبحنا أمام لغة تساوي النشاز تسمى الحياد. يُعاقب لبنان لأن فكرة المقاومة تغلبت على ثقافته ومجتمعه. قبل هذا العصف هناك عصف معنوي يستهدف المفاهيم والثقافة السياسية، لقد أرادوا أن يقنعوا اللبنانيين والمحيط بأنّ جريمة لبنان هي مقاومته، وهم في ذلك يعزفون على بُزق الاحتلال.
انفجار المرفأ واحتراق آخر ما تبقى من المخزون عشية تنفيذ قوانين الحصار والتجويع ليس صدفة، هناك محاولة لاستعجال تفريغ لبنان من أوراقه وعناصر أمنه الغذائي، هناك سوء الإدارة يتواطأ مع السياق الإقليمي والدولي لمحاصرة بلد ظلّ نشازا في دورة الاستسلام لسبب بسيط أنّه لا زال يبحث عن دولة مركزية تكشف في لحظات الانهيار عن بعدها البترياركي وعن تعاقدها التأسيسي بالمفهوم الهوبزي، حيث هو الضامن لعدم انهيار عقد التعايش. وإن كان انفجار المرفئ هو عنوان هشاشة المؤسسات وضعف الدولة وبنياتها ومؤسساتها.
شيء يصعب إدراكه بالنسبة إلى لبنان، وهو أن عناصر تعايشه وشروط استمراره ككيان هي أقوى إلى حدّ أنه استطاع أن يتعاش على الرغم من كل التحديات التي بإمكانها نسف كيان ومنعه من الاستمرار. الدولة في لبنان هي حاجة مؤجّلة نتيجة قواعد اللعب الدولي والإقليمي، غير أنّ لا طرف هنا من تلك الأطراف يمكن أن يلغي الآخر. ومهما حاولت أطراف دولية وإقليمية التدخل في الشأن اللبناني لإضعاف مقاومته فهذا جهد عبثي بامتياز. وإذن بات من الضروري قبول لبنان هكذا حيث باتت مقاومته ذاتية لهذا المشهد، والحل ليس في الابتزاز. سيحاولون ابتزاز لبنان عبر الضغط والحصار، وسيجدون أن هذا الطريق قد ينتهي بتفتيت لبنان وتجزيئه، لكن ما يجهلونه أنّ لبنان لا يقوم إلاّ باللّبننة لا البلقنة، فثمة ما يشدّ عصب هذا الكيان وهو الشخصية اللبنانية، وهي شخصية مميزة حتى أنها تستطيع البقاء في معمعان الحروب وحتى على سبيل الفوضوية.
استهداف لبنان بالحصار وتعريضه للهشاشة حيث نتيجتها الإهمال وسوء التدبير الذي قد يتفجر ويحصد الأرواح ويخرب البيوت، لبنان لا يتحمّل حصارا ولا كل هذا الشكل من الهمجية، وليست هناك من جريمة سوى أنه شعب حاضن لمقاومة يدرك العدو قبل الصديق أنّها منعت سياحة إرهاب الدولة فوق أجوائه منذ أن أرست المقاومة توازنا في الرعب.
فتحت بيروت قلبها لكل من ضاقت بهم عواصم العرب، فيها يستنشق الأحرار نسائم الحرية، حتى الخونة والعملاء يجدون فيها مربعا خاصا بهم، هي عاصمة للعرب، ونبض الأحرار بات نبضا بيروتيا، في عواصم عربية كثيرة لا يتسع المجال إلا لفصيل خاص من الكائنات لكن في بيروت على الأقل يتسع لكل الأنواع.
انفجار بيروت هو انفجار موجع لكل عربي وإنسان حرّ، وحتى وإن حاول البعض استعمال الحدث في مغالطة التبشيع السياسي فإنّ الحقد على لبنان ومقاومته هو قبح عقلي لا يغتفر. إنّ معاقبة لبنان بسبب مقاومته وانتصاراته جرم دولي بل شكل من أشكال إرهاب الدولة. فلبنان لم يفعل ما كان بدعا في تاريخ التحرر الوطني، فلقد طور وسائل مقاومته واحتفل بانتصاراته كما تفعل هذه الأيام دول كثيرة تحيي ذكرى تحررها واستقلالها من الاستعمار. سيخرج لبنان من محنته، إنهم أذكى وأمرح من أن تنال منهم سياسة التجويع الدولي والإقليمي، إنهم أجمل من أن ينال منهم القبح الجيوبوليتيكي.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=9107