تأملات في البواعث النفسية للإلحاد

ذ محمد جناي
دراسات وبحوث
ذ محمد جناي31 أغسطس 2020آخر تحديث : الإثنين 31 أغسطس 2020 - 12:28 مساءً
تأملات في البواعث النفسية للإلحاد

ذ. محمد جناي*
ليس الإلحاد بمفهومه الدارج اليوم مصطلحا قرآنيا، ولم يكن متداولا في كتب العلماء الأوائل ، وإنما أقرب مايقابله عندهم لمن ينكر الخالقية مصطلح {الدهرية } وأصله من قول الله :تعالى :” وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَ۬لدُّنْي۪ا نَمُوتُ وَنَحْي۪ا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا اَ۬لدَّهْرُۖ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍۖ اِنْ هُمُۥٓ إِلَّا يَظُنُّونَۖ ” سورة الجاثية 24.وعلى ذلك فإن وصف الدهرية كان يطلق غالبا عند الأقدمين على القائلين بقدم العالم.

وأما لفظة الإلحاد بالمفهوم القرآني ، فهي تنصرف إلى معان أخرى لا تنحصر بالضرورة في إنكار وجود الخالق، وإنما تعني الميل عن الحق ، أو وضع الكلام على غير مواضعه.

وتخلص بحوث علمية كثيرة إلى أن الإيمان بالخالق هو الأصل في الطبيعة الإنسانية، وأن الإلحاد إن حصل فهو اعتقاد طارئ عليها، يأتي من الخارج ليزيح الإيمان الأصلي ويحل محله، تقول الدكتورة اوليفير بترو فيتش ،المختصة في البحوث الإنسانية حول الإديان بجامعة أكسفورد: (إن عالمية بعض المعتقدات الدينية كالإيمان بإله خالق للكون غير متجسد يمكن عزوها بوضوح إلى أساس تجريبي أكثر من كونها مستقاة من النصوص الدينية، وقد اتضح من البحث في المفاهيم الدينية السابقة أنها متسقة مع تلك الجوانب الأخرى من البحوث التنموية، تلك الجوانب التي توحي بوجود مسلمات معرفية في عدد من مجالات المعرفة الإنسانية) 1.

ومن ذلك كله يتضح أن الفطرة السوية التي تتماشى مع العقل هي الإيمان بوجود الخالق، وأن الإلحاد إنما هو طارئ على الفطرة مشوه لها، وهو بالتالي غير متوافق مع العقل،وبالتأكيد مادام أنه مخالف الفكرة والعقل فإن له محركا ودافعا آخر غير العقل والفطرة، ولايوجد أي دافع آخر غيرهما إلا الهوى بما يشوبه من نزعات النفس ورغباتها التي تتشكل استجابة للشهوات، أو وساوس الشيطان أو بعض المشاعر السلبية كالميل للانتقام والحقد القائم على فهم خاطئ لمشاكل الحياة وابتلاءتها.

وتتداعى في الإلحاد الطبائع والنفوس قبل أن تتداعى فيه الأفكار والعقول، والهوى لفظ جامع للميول والرغبات النفسية الدافعة للأقوال والأفعال والمقاصد المنحرفة عن الحق، سواء تمثلت تلك الرغبات بالشهوات الحسية أو السعي في حطام الدنيا أو الانتصار للنفس أو الدعة والراحة عن أداء الحق والعدل. وقد يكون الهوى ضربا من العجب والغرور والكبر والزهو، وهي سمات غالبة عند الملاحدة، بل إنها أول ما يلفت نظر المتأمل من صفاتهم الشخصية، يلاحظها من يناقشهم أو يتابعهم في مواقع التواصل الاجتماعي .

ولايمل الملحد من تكرار الحديث عن الحدود وعن تقييد الحريات، ولا شك أن هذا الميل للتحرر من القيود هو نوع من الانقياد للسبب الأصلي وهو الهوى، وهذا يؤكد أن الهوى هو المحور الرئيس في كل هذه الانحرافات العقدية والفكرية والسلوكية، وليس للحجة العقلية حظ في ذلك. ومن الطروحات النقدية الإلحادية القديمة التي كانت ومازالت تتردد كثيرا ضد المؤمنين قول الملاحدة إن الإيمان بوجود الخالق لايقوم على بناء منطقي وإنما هم يؤمنون بالرب لأن هذا الإيمان يحقق لهما إشباعا نفسيا؛ فنحن نؤمن بالله -بحسب طرحهم- لأن هذا الإيمان مصدر راحة لنا، وهذه مغالطة منطقية شهيرة تقوم على تحويل موضوع النقاش إلى موضوع شخصي، وتسمى الشخصنة.

لاشك أن الملحدين الجدد في العالم العربي، الذين يطلون برؤوسهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، إنما هم صدى للحركة الإلحادية الغربية،وتجد ذلك واضحا في ترميزهم لرؤوس الإلحاد في الغرب وتعظيمهم لهم، وهم بهذا ينسحبون من سياقهم الحضاري إلى سياق حضاري مختلف تمام، وحين يستوردون النقد الديني فهم لا يدركون الفارق بين السباقين.

تكاد الحركة الإلحادية تكون في أساسها عند الغربيين نتيجة مباشرة لمشاعر الخوف من تكرار الكهنوت الكنسي ومحاكم التفتيش وتسلط المؤسسة الكنسية خلال القرون الماضية. فكل توجه معاد للدين في الغرب هو تعبير عن الخوف البالغ لديهم من عودة الكنيسة، سواء كان ذلك بالتعبير الصريح عن المناداة بالإلحاد أو العلمانية أو الليبرالية، أو نشر السياقات التي تصب في صالح الابتعاد عن الدين والتشبت بها سواء كانت في ميدان العلوم البيولوجية كنظرية التطور أو في الميادين الأخرى كالاقتصاد أو الاجتماع أو علم النفس.

ومن الأسباب التي تساهم في تشكيل النفسية الإلحادية مايصفه الدكتور محمد العوضي بثنائية الانبهار والاحتقار، ويقصد بذلك الانبهار بالحضارة الأجنبية واحتقار الذات.

وإن السمة الأساس في مقولات الإلحاد أو اللادينية ليست في جوهرها الذاتي، وإنما في اقتباساتها واستناداتها، فهي تدخل في مواجهة النصوص الدينية بنصوص أخرى، وتحاجج الأطروحات الإيمانية بأطروحات مقتبسة بشكل كامل، أي أن جهدها الأبرز في عملية تشكيل القناعة يرتكز على غياب الإبداع الذاتيّ، وهكذا يتحوّل المتحوّل من باحث عن القناعة إلى عنصر تختزله قناعات الآخر

ويأتي تركيز الملحدين على صحة نظرية التطور واعتبارها حقيقة لأنها هي التفسير الوحيد الذي يمكنه أن يسقط التفسير الخلقي لوجود الأحياء، ولهذا لايمكن الملحد أن يقبل بإسقاط نظرية التطور على الإطلاق.يقول دوكنز حرفيا في مقطع موثق له على اليوتيوب ماترجمته: *إذا كان هدفك قتل الأديان مثلي فاستخدم نظرية التطور*.

ومن أكثر الأسباب المؤدية إلى الإلحاد في هذا العصر هو اجتماع نقص الإيمان مع الشعور الشديد بالظلم، ومما يهئ الأرضية الخصبة الإلحاد في نفوس الشباب الذين يجتمع لديهم هذان السببان مايصبه الملاحدة من شبهات في وسائل التواصل الاجتماعي ، وخصوصا مايسمى بمشكلة الشر في وهي ليست بمشكلة في الحقيقة, ولا تنطوي على أي نوع من الظلم إذا استحضرنا التصور الإسلامي الصحيح حول البعد الأخروي وتحقق العدل المطلق لجميع المخلوقات .فإذا تحقق العدل فقد انتفى الظلم.

وكنت دائما أوصي من يناقش الملحدين أن لا يتطرق أبدا لمسألة الشبهات التي يثيرونها،وإنما يكون نقاشه منصبا على مسألة وجود الخالق، فإذا حسمت هذه المسألة فإنه يمكن الانتقال إلى مابعدها، وأصعب سؤال يمكن أن يواجهه الملحد هو إثبات دعوى الإلحاد ،فلايمكن لملحد أن يثبت عدم وجود الخالق على الإطلاق لابالدليل العلمي ولا بالدليل العقلي ،وإنما يعتمد بعض الجهلة من الملحدين على مغالطة منطقية تسمى مغالطة الجهل ،فيقول إن عدم وجود الدليل على وجود الخالق هو دليل عدم وجود الخالق. فالفطرة الآن يجري تغييرها وتشويهها على نطاق واسع قد لايدركه إلا من يتابع وسائل الإعلام والنشر والثقافة المعاصرة الأجنبية.

ونظرا لطبيعة التواصل الثقافي اليوم بين المجتمعات المسلمة وغيرها، وتسرب كثير من المفاهيم المتعلقة بالإلحاد أو الداعمة له – كنظرية التطور مثلا- وسهولة نشر الإلحاد عبر وسائل التواصل الاجتماعي كما يرى المتابع،فإن الحاجة ماسة إلى التركيز على تأسيس الفطرة السوية وتثبيتها وإزالة مايشوبها فيما يتعلق بوجود الخالق سبحانه وتعالى قبل كل شيء، إذ لامعنى لإثبات النبوة أو الوحي لمن ينكر وجود الله أصلا ،ومن يرى أن الإلحاد غير موجود في بعض أوساط الشباب، بغض النظر عن مدى انتشاره، فهو جاهل بالواقع، أو غير متعرض لتلك الشريحة التي لا يمكن ملاحظتها إلا عبر وسائل يستطيع الشاب الملحد والفتاة الملحدة عن طريقها إخفاء هويتيهما.

تشكل الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي ملجأ للمتحولين الجدد إلا أنها في الوقت ذاته تسبغ على تحولاتهم سمة التهرب والتمرد، إضافة إلى التقوقع في المجال الافتراضي، وبالتالي فإنه من المرجح أن يبقوا متكتلين في هذا الواقع بعيدًا عن الخوض في تأثيرات الحياة اليومية بشكل خاص ، مما يوسع من حجم الهوة بين مقولاتهم وبين المجتمعات التي ينتسبون إليها.
*خريج جامعة القرويين من كلية أصول الدين بتطوان وأكاديمية صناعة المحاور الدفعة السادسة
ـــــــــــــــــــــــ
1: key psychological lssues in the Study of Religion.Olivera Petrovich ,2007,Vol.40(3),Str.351-363.
المصدر :تأمّلات في البواعث النفسية للإلحاد المؤلّف: رشود عمر التميمي.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.