سعيد الكحل
يُبدع المسلمون في نشر الكراهية والسخرية “وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا”. فعلها الملا عمر ، في فبراير 2001، حين أمر مقاتلي حركة طالبان بتدمير تمثالي بوذا في باميان بأفغانستان باستخدام الديناميت، رغم مناشدة العالم بالحفاظ على التمثالين اللذين يرمزان إلى الفن الهندو- إغريقى الكلاسيكي، وأحد الموروثات الحضارية لكل الإنسانية. ويفعلها من جديد رجب طيب أردوغان بالتدمير الرمزي لكنيسة آيا صوفيا وتحويلها من متحف إلى مسجد.
يختلف الحدثان لكنهما يلتقيان في الدوافع والأهداف. فالطرفان معا يستغلان المخزون الديني والبعد العاطفي لدى الشعوب الإسلامية لتحقيق المآرب السياسية ولعب دور الأبطال في صنع “الملاحم” الوهمية. كلاهما صنعا لنفسيهما حدثا يغذي نزعة القوة ووهم “العظمة” في مواجهة “قوى الاستكبار العالمي” حيث تقمص كل طرف دور الانتصار للدين ضد “الوثنية” و”الكفر”. لكن الحدثان معا أساءا إلى الدين وإلى المسلمين عموما. فحتى في أوج دولة الخلافة الراشدة حافظت كنسية القيامة وكنائس مصر وسوريا والعراق على وضعها الديني والاعتباري دون تحويلها إلى مساجد رغم حاجة المسلمين حينها إلى بيوت للعبادة. ونفس الشيء بالنسبة لتماثيل بوذا وأهرامات مصر ومعابدها.
قد يلتمس العالم العذر لطالبان بحكم عقائد الغلو التي تشبعت بها ، بينما لا عذر لأردوغان الذي يطمح إلى عضوية تركيا كدولة حديثة في الاتحاد الأوربي. فهو يثبت للأوربيين أن تركيا في عهده غير جديرة بالعضوية. فعلى مدى سبع سنوات كان يرفض تحويل الكنسية إلى مسجد . إذ رد، سنة 2013 كان حينها رئيسا للوزراء ، على المطالبين بتحويلها إلى مسجد بأنه لن يفكر في تغيير وضع أيا صوفيا ما دام هناك صرح إسلامي عظيم آخر في إسطنبول شبه خاو من المصلين وهو مسجد السلطان أحمد الذي يرجع بناؤه إلى القرن الـ17م، مستدلا بأن المدينة فيها أكثر من ثلاثة آلاف مسجد.
لكن ، وبعد سبع سنوات ، غيّر أردوغان موقفه واعتبر أن الأمر يدخل ضمن “حقوق بلاده السيادية”. لكن المتتبع للشأن التركي والميول التوسعية لأردوغان سيدرك أن هذا الأخير يريد أن يصنع لنفسه “أمجادا” ولو على حساب أمن واستقرار شعوب المنطقة. فهو يستغل الظروف الدولية والصراع بين أمريكا وروسيا والفراغ الذي تركته أمريكا والحلف الأطلسي في الشرق الأوسط (الانسحاب من أفغانستان والعراق وسوريا ..) ليعيد بناء تركيا الكبرى واسترجاع تاريخ الإمبراطورية العثمانية وقوتها وحجمها عبر محاولات بسط نفوذه على الدول العربية التي كانت خاضعة للعثمانيين.
لهذا اعتبر أردوغان غزوه لليبيا وسوريا حقا من الحقوق “السيادية لتركيا: “اتخذنا هذا القرار ليس استنادا إلى ما سيقوله الآخرون بل في ضوء حقوقنا كما فعلنا في سوريا وليبيا وأي بلد آخر”. فأردوغان يرسل رسائل إلى أوربا وأمريكا والعرب مفادها أن تركيا باتت قوة في المنطقة تدافع عن مصالحها الحيوية. في هذا السياق التوسعي لأردوغان نفهم إستراتيجية فتح حدود تركيا أمام جحافل المتطرفين والإرهابيين لتدمير سوريا والعراق وتفكيك دولتيهما. كما نفهم تحالفه مع التنظيمات الإرهابية ودعمه العسكري والمالي لها لخلق واقع جديد في المنطقة يضمن لتركيا بسط نفوذها على ثروات الدول. نفس الأسلوب يعتمده اليوم في غزو ليبيا بترحيل الإرهابيين للقتال حتى يكون جزء من ليبيا خاضعا للهيمنة التركية. إن رسالة السيف الذي حمله خطيب أول جمعة بعد تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد ، وهو رئيس الشؤون الدينية علي أرباش ، مفادها أن أردوغان يواصل نهج السلطان محمد الثاني الشهير “بمحمد الفاتح” ( فتح مدينة إسطنبول سنة 1453). كما جاءت خطبة الخطيب مؤكدة لهذه الخلفية التاريخية لكسب تعاطف الأتراك وعموم المسلمين بكون أردوغان يحمي مقدسات المسلمين (ها هي لهفة أحفاد الفاتح واشتياقهم، قد انتهت، كما أن صمت دار العبادة الجليل قد انتهى).
ليس هدف أردوغان تحرير وحماية مقدسات المسلمين بقدر ما هو محاولة استثمار عواطف المسلمين لتحقيق مكاسبه السياسية وضمان استمراره على رئاسة تركيا حتى عام 2029. إذ لو كانت مقدسات المسلمين هي التي تعنيه لكان تحرير المسجد الأقصى أولى أولوياته.
من هنا يمكن الاستنتاج بأن إستراتيجية أردوغان التوسعية تستهدف أمن الشعوب العربية واستقرارها وثرواتها. فهو لا يستطيع غزو الدول الأوربية ولا زعزعة استقرارها ، بينما الظروف التي أحدثها “الخريف العربي” تمكّنه من استهداف الدول العربية بشتى السبل والوسائل. فالدعم العسكري للإرهابيين أو للفصائل المسلحة الموالية لتركيا ليس هو الأسلوب الوحيد المعتمد تجاه الدول المستهدفة ؛ بل هناك أساليب لا تقل خطورة عن الدعم المسلح ، ومنها الدعم السياسي الذي تحظى به تنظيمات الإسلام السياسي الذي يترتب عنه تحالف عضوي ضد مصلحة الأوطان.
ومن تجليات هذا التحالف تيسير غزو البضائع والمنتوجات التركية للأسواق الوطنية مما يؤدي إلى إفلاس المقاولات المحلية وما يرتبط به من تشريد العمالة وارتفاع البطالة وانحسار موارد الدولة الضريبية ؛ وهذه كلها عوامل تؤزم الأوضاع الاقتصادية وتزعزع الاستقرار وتحرض على الفتن التي يسعى أردوغان لنشرها واستغلالها من أجل تحقيق أهدافه التوسعية وبسط الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية على الشعوب. من هنا على الدول والحكومات أن تنتبه إلى خطورة تحالف تنظيمات الإسلامي السياسي مع أردوغان على أمن الأوطان واستقرارها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=9022