عبد الله الجباري
يكاد يجمع المؤرخون للحقبة الاستعمارية على مقولات يرددها اللاحق نقلا عن السابق، وكأنهما من المسلمات والبدهيات التي لا تحتاج إلى تقليب وجهات النظر، أو وضعها تحت مبضع التشريحوإخضاعها للنقد والدراسة.
من تلك المقولات السائدة، أن الصوفية والطرقية كانت موالية لفرنسا، وخادمة لمشروعها.
أما السلفية فكانت حركة وطنية إصلاحية، تحارب فرنسا وتحارب ربيبتها الطرقية.
هذه الباراديغمات أو المقدسات لا تصمد أمام الواقع الذي يراد تحريفه.
فالاستعمار استعان بالجميع ضد الجميع، حتى الأسرة العلوية اخترقها، واستعان ببعض أفرادها أو جلهم، وما ابن عرفة عنا ببعيد.
لقد تميز الاستعمار الفرنسي ـ كغيره من الاستعمارات ـ بذكاء كبير، حيث طوع جميع التيارات، واستعملها لخدمة أجندته بدهاء كبير، إلا أنه لم يحقق الإجماع في التيار السلفي الذي كان تيارا جنينيا، كما لم يحقق الإجماع لصالحه في التيار الصوفي وفي الأسرة العلوية.
ويعدّ الشيخ أبو شعيب الدكالي من أشهر سلفيي هذا المرحلة، بل يكاد يكون مؤسس هذا التيار، بعد أن تأثر به في مصر أولا، واحتك بأهله في الحجاز ثانيا.
عرف المغرب ضعفا على عدة مستويات، وأشيع نبأ اغتيال السلطان عبد الحفيظ، وبلغ الخبر إلى تزنيت حيث معقل الشيخ ماء العينين وابنه أحمد الهيبة.
عمل الهيبة على تجميع العلماء والقواد المنتمين إلى المناطق السوسية، وبايعوه على الجهاد، وتطور الأمر إلى أن بايعوه أميرا للمؤمنين في تفاصيل متعددة، وبسط هيمنته على الجنوب المغربي، وهو الصوفي ابن الصوفي ابن الطريقة المعينية الصوفية.
أعلن الجهاد على الفرنسيين، ووصل مع مقاتليه إلى مراكش يوم 5 رمضان، واعتقل القنصل الفرنسي ومن معه، وبُذل له في فدائهم نحو المائة والخمسين ألف ريال، ولم يقبل.
لم تستسغ فرنسا ذلك، فتوجهت إليه بخيلها ورجلها، ووقعت معركة شهيرة بين الطرفين في سيدي بوعثمان، ولم يكن جيشه مكونا من العوام الذين قد يجمعهم الإنسان بالحيل فقط، بل كانت حركته مدعومة بالعلماء، حيث بايعه علماء سوس كلهم إلا اثنين أو ثلاثة، وكان في جنده فقهاء، وقد استشهد أحدهم في سيدي بوعثمان، وهو الفقيه أحمد بن سعيد أوبو(1)
انهزم المقاومون أواخر رمضان، ثم أرسل إليهم الدعم، لكن الكلمة الفصل كانت للجيش الفرنسي لما له من القوة والعتاد والتنظيم.
استمرت فرنسا في مطاردة أتباعه بعد الهزيمة، منهم القاضي بتارودانت، الحاج محمد أبو، الذي سُجن 40 يوما بسجن قصبة تارودانت مقيدا بالحديد، وتهمته الوحيدة أنه كان من أنصار الهيبة ومؤيدي حركته (1).
من خلال حركة المجاهد أحمد الهيبة، يتبين لنا أن الصوفية والطرقية لم تكن هنا في صف المحتل، بل كانت رمز المقاومة بشهادة الكثيرين.
1 – سجل روس إ. دان في كتابه “المجتمع والمقاومة في الجنوب الشرقي” إشارات حول الهيبة وحركته، فوصفها في ص:27 بالمقاومة، ووصف والده بالمقاوم الصحراوي. ووصف حركته في ص: 282 بالجهاد، وورد في ص: 290 هذا التعليق: “من بين الثورات الجهادية التي قامت في المغرب ما بين 1900 و1912، جهاد أحمد الهيبة في 1912، الذي كان يتميز بروحه الدينية والانبعاثية، فقد التف حوله سكان الأطلس الغربي ….
يبدو واضحا أنه كانت لديه تصورات لا تقف عند قهر الفرنسيين فقط، ولكن لبناء مجتمع إسلامي صالح وطاهر كذلك”. ولما تحدث عن رموز منطقة الجنوب الشرقي، قال في ص:296: “إن الاعتراف بالصراع البطولي لهؤلاء الرجال لا ينفي أن مساهماتهم في الرفع من قوة المقاومة كانت عابرة، ولم تكن لها نتائج كبيرة، ذلك أنه كان في إمكانهم القيام بأكثر من ذلك، لأنهم كانوا يتمتعون فعلا بقدرات شخصية خارقة، ولهذا تبدو أعمالهم في حوليات المقاومة الإسلامية شاحبةً عندما تقارن مع أعمال الأمير عمر، المهدي السوداني، أو حتى مع مولاي أحمد الهيبة في الجنوب الغربي للمغرب”. وهذه المقارنة كاشفة للمكانة الجهادية للهيبة.
2 – قال علال الفاسي: “أكبر مظهر رأته السلطات الفرنسية للتكتل القومي في المغرب، إذ شاهدت القبائل العديدة المتساكنة فيما بين مراكش والسنغال، كلها تتجمع تحت قيادة شخص واحد، متناسية كل الاعتبارات المحلية، مدافعة عن فكرة واحدة، هي استقلال المغرب ووحدته”.
3 – قال محمد خير فارس عن ثورة الهيبة: هي الثورة الوحيدة التي أخذت طابعا خطيرا عاما دينيا وسياسيا، يشبه تلك الحركات التاريخية الكبرى التي انطلقت من الجنوب المغربي، لتحدث انقلابا سياسيا ودينيا في تاريخ المغرب، كحركات المرابطين والموحدين والسعديين والعلويين”.
هذه شهادات تدل على أن حركة الهيبة كانت حركة جهادية خطيرة، لكنها كانت تفتقر إلى قيادة ذات حنكة سياسية، وكانت تفتقر إلى العتاد والتدريب العسكريين، كما أن بعض المنخرطين فيها أساءوا إلى عامة الناس بمراكش لما دخلوا غليها، ومارسوا نوعا من السيبة التي جعلت كثيرا من الناس يفرحون بخروجهم من المدينة كما فرحوا بدخولهم إليها بدايةً.
نحتفظ بالشهادات أعلاه، لنرى شهادات أخرى، تصور أحمد الهيبة شخصا خرافيا صوفيا، همه الأساس هو النساء والبحث عن الأبكار منهن، وأنه سيحارب القوى العظمى وسيفتح الأمصار الإسلامية بسبحته وكراماته فقط. وقد حكى عنه المختار السوسي وعباس بن إبراهيم المراكشي وشعيب الدكالي كثيرا من هذا.
بعد هزيمة الهيبة وفراره إلى تخوم سوس، دخلت القوات الفرنسية الغازية إلى مراكش، فاستقبلها أعيان ووجهاء مراكش بالحفاوة والترحاب، ووقف فيهم القاضي شعيب الدكالي خطيبا، وأثنى على فرنسا وجيشها، وقيمها ومبادئها.
قال تلميذه المختار السوسي: “تقدم الشيخ باعتبار كونه قاضيا، فألقى خطبة بين يدي القائد، يهدئ جأشه، ويقدم له طاعة المدينة، ويتطلب منه إعلان الأمن العام، فضرب على الوتر الحساس، فقال: إنكم من دولة فخيمة معروفة باحترام الإنسانية، وبالرأفة والعدل في كل ممتلكاتكم، فأُعجِب القائد بما سمع، فسأل عنه، فقيل: إنه قاضي المدينة. فقال: هكذا يتكلم الناس، فأجابه بكلمات لطيفة، فكان ذلك الوقت أول اتصال الشيخ برجال الدولة الحامية، التي عرفت منه رجلا حازما، فكان منها له ما كان”(2).
قال الباشا منو، (باشا السلطان عبد الحفيظ على مراكش، والذي همشه الاستعمار بعد أن آثر عليه الجلاوي): “خرجنا بعد أن طلع النهار، أنا وكل القواد [قواد الحوز]، ومن القضاة الشيخ أبو شعيب الدكالي، ومولاي مصطفى [العلوي]؛ الذي كان عُزل من القضاء على يدي بأمر من السلطان عبد الحفيظ؛ في موكب كبير، وغالب من فيه يستطير فرحا [تأمل]، … فمثلنا بين يدي [الكولونيل] مانجان Mangin قائد الحملة، فحييناه وحيانا، فهنأناه بالوصول، فأجاب خير جواب، ثم خطب القاضي أبو شعيب خطبة طنانة [تأمل!!] أثنى فيها على فرنسا، وعلى رحمتها المشهورة فيمن وقعوا تحت يدها، يريد الشيخ بذلك أن يبرد مما عسى أن يغلي من صدر القائد، فأثر كلامه في القائد، فسأل عنه، فسمي له، فصافحه، ثم أجابه بكلام أحسن مما قال”(3).
وبعد هذه الخطبة الطنانة، والثناء على الجيش الفرنسي ودولته، آثرت دولة الاحتلال ترقية الشيخ شعيب الدكالي إلى وزير العدلية. ولبث في الوزارة 12 سنة، وكان يتلقى الهدايا الفخيمة والصلات العظيمة، من قواد الاستعمار، كالقايد المدني والباشا التهامي الجلاوي والقايد العيادي والمتوكي، وهؤلاء المذكورون كانوا كالملوك في مناطقهم، وقيل -كما حكى ذلك تلميذه المختار السوسي- بأن المدني والتهامي كانا يصلانه بألف أو ألفين من الريالات الحسنية، والعيادي بنحو ذلك، والمتوكي ببضع مائات، وعمدة المختار في هذه الحكايات هو صديقه عثمان المسفيوي المقرب المخلص للدكالي، إلا أن السوسي لا يتذكر المعطيات بدقة، فيقول حكاية عن صاحبه: “وأحسبه ذكر أنه كان يأوب في كل قدمة قدمها إلى مراكش بستة آلاف ونحو ذلك إلى عشرة آلاف، لا أتحقق كنه ذلك على ما ينبغي، وإنما أحجو أن ما ذكره يقرب من ذلك”، ثم قال: “وهذه الحمراء فقط، في كل قدمة قدمها، فعليها بفاس وغيرها”. ولما جمع المال الوفير، اتخذ أراضي واسعة للفلاحة، وشيد قصرا عظيما فخما(4). في الوقت الذي كان فيه الوطنيون والمقاومون لا يجدون ما تتعشى به أسرهم، ورحم الله الشهيد الزرقطوني ومن معه.
تنبيه1: كان الشيخ الدكالي حافظا لمختصر خليل، عارفا بشروحه وحواشيه، مطلعا على باب الجهاد منه، وأنه فرض عين إذا هجم العدو على بلاد المسلمين. فكانت خطبته الطنانة المذكورة بمنأى عن العلم الذي في صدره، وبمنأى عن سلفتيه التي اشتهر بها.
تنبه 2: كان بإمكان الشيخ أن يتراجع عن الخطبة ويقدم بدله القاضي الآخر أو الباشا أو القائد أو غيرهما، والخطبة لم تتعين عليه حتى نقول بأنه مضطر.
تنبيه3: لنفرض أن الخطبة فرضت عليه فرضا، وتعينت في حقه، وهذا غير متحقق، كان بإمكانه أن يخطب خطبة عادية غير طنانة، مراعاة لدينه، ومراعاة لسلفيته، وألا يبالغ في الثناء على فرنسا وعدلها ورحمتها، لأن هذا من الكذب المحض، والمؤمن لا يكذب.
الخلاصة: الصوفية والسلفية قاوموا الاستعمار، والصوفية والسلفية تعاونوا مع الاستعمار. ومن ادعى غير هذا فالعرب بالباب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عبد الله كركير، تجاوزات جيش التحرير الجنوبي في سوس: 182.
(2) المختار السوسي، مشيخة الإلغيين: 26.
(3) المختار السوسي، المعسول، مجلد 4 ص 162.
(4) مشيخة الإلغيين: 33.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=8169
المختارمنذ 5 أشهر
هذا غير صحيح لم يجامل الشيخ شعيب فرنسا قط سواءا في خطبه أو عمله ، بل كان عدوا للاستعمار الفرنسي ، اما ترقيته من طرف السلطان كانت و ذالك عن جدارة و استحقاق