ترجمة يوسف اسحيردة
ابتدأ الأمر بعلاقة انصهارية بين الفلسفة والعلم. لكن الثنائي، سرعان ما تشاجر حتى وصل إلى الطلاق. منذ عهد ليس بالبعيد، التقى العشاق القدامى وشرعوا في حوار خجول.
الفصل الأول : ثنائي منسجم
ولد العلم والفلسفة في نفس المهد. طاليس، مؤسس المدرسة الأيونية، كان فيلسوفا، رياضيا (مبرهنة طاليس) وعالم فلك في نفس الوقت. الشيء نفسه يمكن قوله عن فيثاغور، ديموقريطوس أو أريسطو. كلهم ينتمون إلى تاريخ الفلسفة كما ينتمون إلى تاريخ العلوم لسبب بسيط: عند الإغريق، كان العلم والفلسفة، يرمزان إلى نفس الشيء.
في معظم المدارس الفلسفية الإغريقية ( في أكادمية أفلاطون، في معهد أريسطو، لكن أيضا عند الرواقيين والابيقوريين…)، كان التلامذة يدرسون، في نفس الوقت، الرياضيات وعلم الفلك، كما كانوا يدرسون فن الخطابة أو الاخلاق ( دون الحديث عن التربية البدنية والموسيقى). وبالتالي، كان الفيلسوف بمثابة موسوعي يفهم في كافة ضروب المعرفة. هذا لا يعني أنه كان يجهل الفرق بينها. فأريسطو، مثلا، اشتغل على تقسيم المعارف إلى طبيعية ( متعلقة بالأفلاك السماوية، الحيوانات…)، وعملية ( متعلقة بالأخلاق والسياسة). كل هذه التخصصات المعرفية كانت تعتبر “ثانوية” بالنسبة له، مقارنة مع “الفلسفة الأولى”، والتي سيسميها أحد تلامذته، لاحقا، ب “الميتافزيقا”.
إضافة إلى هذا، فكل تخصص يحتاج إلى نظرية معرفة. الفلسفة عند أرسطو، تعني دراسة الطبيعة، الانسان والأسئلة الأولى، لكنها تعني أيضا التفكير في أساليب المعرفة (الابستملوجيا).
هذا التعريف الجامع للفلسفة باعتبارها تجمع بين الفيزياء، الميتافزيقا، علم اللاهوت، الانطولوجيا، المنطق، الأخلاق، الانثروبولوجيا..سيستمر حتى العصر الحديث. رنيه ديكارت، بليز باسكال أو جوتفريتز لايبنيز كانوا، كلهم، مفكرين كليين : أعمالهم الفكرية تجمع بين الرياضيات، الأخلاق وعلم اللاهوت. إسحاق نيوتن نفسه عنون كتابه العظيم ب ” الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية” (1687).
لم يكن للأمور أن تسير على نحو مغاير، نظرا لتداخل وتشابك مختلف صنوف المعرفة والعلوم وقتها. الفيزياء الكلاسيكية مثلا، كانت تتطور بمعية الرياضيات عندما يتعلق الأمر بفهم حركة الكواكب أو سقوط الأجسام ( “الطبيعة مكتوبة بلغة رياضية”، كتب جاليلي). أيضا، لا يمكن فهم “التحليل” الذي دع إليه ديكارت في كتابه “رسالة عن المنهج”، إلا في ظل “الهندسة التحليلية” التي كان ديكارت في طور وضع لبناتها الأولى. قل نفس الأمر عن مفهوم “الموناد” عند لايبنيتز المتعلق بفيزياء القوى، وترجمته الرياضية التي وضع الفيلسوف الألماني ركائزها رفقة نيوتن.
في ذلك الوقت، لم يكن بالإمكان ممارسة الفيزياء دون مساءلة المبادئ الأولية للمادة ( ماذا تعنى القوة؟ مثلا)، أو التصور العام للكون.عندما برهن نيوتن على أن الكواكب تخضع لنفس القانون الذي تخضع له الأجسام الأرضية، أي قانون الجاذبية، فقد وجه ضربة موجعة إلى التصور الاريسطوطاليسي للكون : الفصل بين العالم السماوي والعالم الأرضي، حيث أن كل واحد منهما تسيره قوانينه الخاصة ( ما يفسر سبب عدم سقوط الكواكب على الأرض مثلا). وبالتالي فلا وجود لفيزياء بدون ميتافيزيقا.
الفصل الثاني: الفراق
لايبنيز كان، ربما، هو آخر هؤلاء الفلاسفة الكليين. أعماله تتطرق، في نفس الوقت، إلى الرياضيات، اللغة، الأخلاق، السياسة والميتافيزيقا.
بداية من القرن الثامن عشر ميلادي، سيظل أغلب الفلاسفة منافحين شرسين عن العلم، لكنهم، مع ذلك، غير قادرين على المساهمة في تطويره. لأن الرياضيات، الفيزياء, العلوم التجريبية أصبحت عبارة عن تخصصات مستقلة بذاتها. في هذه الظروف، ماذا سيبقي للفيلسوف فعله؟
الخيار الأول هو الموسوعيّة. طبقا لهذا الأمر، انطلق ديديرو ودولامبير في مشروعهما الكبير. لكن، هل يمكن اعتبار تجميع العلوم وتبسيطها ، عملا فلسفيا؟ هل يبقى الفيلسوف فيلسوفا؟ على كل حال، بقي السؤال مفتوحا…بالموازاة مع ذلك، ألف ديديرو كتابه “أفكار حول تفسير الطبيعة” (1753)، حيث يتعلق الأمر بمنهج تجريبي (مستوحى من باكون)، بنظرية في المعرفة ( مستوحاة من كونديلاك). لكن طبيعة هذه الأفكار تظل غامضة : نظرية في الطبيعة أم منهج؟ سيكولوجيا المعرفة؟ كل هذا المزيج كان على شكل دعوة تدعم وتناصر تطور العلوم. من جانبه، تحمس هيجل، من خلال كتابه “موسوعة العلوم الفلسفية”( 1817)، إلى تأسيس نظرية للتحول، ومنهج صالح للتطبيق على الطبيعة والانسان معا. لكن الفشل كان حليف هذا الديالكتيك : فلا وجود لأي جهاز مفاهيمي قادر على استيعاب فيزياء نيوتن والبيولوجيا الصاعدة المعتمد على النموذج التطوري.
خيار آخر ظل مطروحا أمام الفلسفة، ألا وهو تقليص مجال اشتغالها عن طيب خاطر. ازدهار العلوم التجريبية قاد إلى ولادة الفلسفة التجريبية التي كان كل من جون لوك ودافيد هيوم أبرز ممثليها. انجلترا كانت، إذا، هي مهد العلم التجريبي الذي وضع له فرانسيس بيكون صياغة منهجية في كتابه “الأورجانون الجديد” ( 1620). يقوم التيار التجريبي على رفض الميتافيزيقا جملة وتفصيلا باعتبارها خطابا فارغا يتعلق بحقائق لا يمكن التأكد منها عن طريق الملاحظة ( الإله، الروح..). عندما قرأ إمانويل كانط لدافيد هيوم، استخلص مجموعة من الدروس :
– لنترك العلماء يشتغلون ونقلص من غطرسة العقل.
– ليس بمقدورنا معرفة كل شيء، كل ما يمكننا معرفته هو الحقيقة كما تظهرها لنا الحواس، على شكل ظواهر.
النشاط البشري ( السياسة والأخلاق) أصبح، هو أيضا، يشكل موضوعا للملاحظة التجريبية. في فرنسا، ظهرت تخصصات جديدة ، من قبيل ” العلوم الأخلاقية والسياسية”، والتي تهتم بدراسة العادات وأنماط العيش في المجتمعات الإنسانية بكل شساعتها.
في بداية القرن التاسع عشر، كانت العلوم الإنسانية في طور الظهور (علم النفس، الأنتربولوجيا، علم اللغة، علم الاجتماع..). ومثل العلوم التجريبية في ما مضى، بدأت هذه التخصصات تزاحم الحقل الفلسفي. فشرعت في الاستحواذ على أهم المواضيع المفضلة لدى الفلسفة، من قبيل العقل، اللغة، الأخلاق، معتبرة أن دراسة هذه الأمور، يجب أن تعتمد على الملاحظة، المقارنة والقياس عوض الاقتصار على التفكير المنعزل.
لم يترك العقل الوضعي، الذي وضع اوغست كونط مبادئه الأساسية، إلا الشيء القليل للفلسفة. “العصر الميتافيزيقي” أصبح شيئا من الماضي. حان وقت ” العصر الوضعي”، عصر العلم المؤسس على قوانين عامة ووقائع مؤكدة.
بعد حرمانها من علم اللاهوت، من دراسة الطبيعة أو النفس البشرية، وجدت الفلسفة نفسها مجَرَّدَة شيئا فشيئا من كل المجالات الدراسية التي كانت تمتلكها. ماذا بقي لها بعد كل هذا من أجل دراسته؟
بكل تأكيد، فغطرسة العقلية الوضعية، لم تكن محل إجماع كلي، ووصلت إلى درجة إثارة ردود فعل قوية، جاءت من المدرسة الروحانية التي يمثلها، مثلا، بيير ماين دو بيرون ( Pierre Maine de Biran) وأتباعه. لكن من يسمع لهم؟ في ألمانيا، التيار الفينومينولوجي هو من سيقود النزعة الرافضة للوضعية. فرانز برنتنو (Franz Brentano)، ويلهيلم ديلتهي(Wilhelm Dilthey)، ايدموند هوسرل (Edmund Husserl) سينتفضون ضد هذه النظرة العلمية للعالم، والتي لا تترك أي مجال لسؤال “المعنى”. المعنى، هذا ما تفتقده دراسة الوقائع والقوانين الموضوعية.
الفصل الثالث: ولادة فلسفة العلوم
مع بداية القرن العشرين، أصبح الطلاق تاما بين الفلسفة والعلم. في أحسن الاحوال، يمنح الفزيائيون دورا ثانويا للفلسفة : تحديد قواعد العملية العلمية من أجل تمييز الغث من السمين، أي العلم المزور ( أي الميتافيزيقا) من العلم الحقيقي .
كان الفزيائيون، لسخرية القدر، هم أول من انبرى للعمل من أجل إرساء قواعد فلسفة العلوم. ثلاثة أسماء ميزت بدايتها في مطلع القرن العشرين : الرياضي هنري بوانكاري (Henri Poincaré) الذي اهتم بالظروف النفسية للاكتشاف، الفيزيائي بيير دوهيم (Pierre Duhem) الذي كان أول من تطرق إلى حدود المدرسة التجريبية ( التجربة الأكثر بساطة تستلزم دائما مجموعة من التصورات المسبقة من أجل شرحها)، والفيزيائي ارنيست ماش (Ernest Mach) الذي سيضطلع بدور مصيري في قيام حلقة ڤيينا، وهي عبارة عن مجموعة من الفزيائيين كانوا يجتمعون، في نهاية عشرينيات القرن الماضي، حول بيان يحمل اسما معبرا : التصور العلمي للعالم. هدفهم كان واضحا : القطع مع الميتافزيقا والنهوض بتصور جديد للعالم يقوم على التجربة والمنطق، ومن هنا لقب “التجريبية المنطقية” الذي عرف به هذا التيار.
مناقشات حلقة فيينا ستجلب اهتمام شاب يحمل اسم كارل بوبر. هو أيضا كان مهتما بمعرفة المعايير الصارمة التي تعرف العلم ( أي التي تجعلنا نميز بين ما هو علم، وما هو غير ذلك)، لكن سهام نقده ستنصب، لا على الميتافيزيقا، بل على التحليل النفسي والماركسية المسيطران وقتذاك، ويقدمان نفسيهما كعلوم. لكن بعد الإعجاب، سرعان ما ابتعد كارل بوبر عن التيارين معا. فقد كان في خلاف مع رودلف كارناب ( Rudolf Carnap) القائل بضرورة مصالحة النظريات العلمية مع الوقائع التجريبية (منطق التبرير). بالنسبة لبوبر، الأسلوب العلمي يحتم علينا اختبار النظرية لا دعمها أو تبريرها. ما يسميه هو ب “القابلية للتكذيب”.
في سنة 1934، سيقوم كارل بوبر بنشر أول كتبه، “منطق البحث العلمي”، حيث يعرض فيه نظريته بالتفصيل. في البداية، لن يلقى كتابه النجاح المطلوب، وذلك راجع، بالأساس، إلى أسباب لا علاقة لها بالفلسفة: ففي بداية ثلاثينيات القرن الماضي، كان المثقفون اليهود عرضة للتضييق والمطاردة في كل من ألمانيا والنمسا. هكذا وجد بوبر نفسه مضطرا للهجرة إلى نيوزيلندا كأول ملجأ. حلقة فيينا ستتعرض للتفكك والتمزق. في سنة 1936، سيتم اغتيال مؤسسها القوي، موريس شليك ( Moritz Schlick)، وسط الفصل الدراسي، من طرف أحد الطلبة النازيين.في حين هاجر رودلف كارناب وكورت جوديل (Kurt Godel) إلى الولايات المتحدة الامريكية. فيما يخص أوطو نورات (Otto Neurat)، فقد هرب إلى هولندا، قبل أن يلتحق ببريطانيا العظمى.
كان لزاما الانتظار حتى صبيحة نهاية الحرب العالمية الثانية ليلتحق كارل بوبر ببريطانيا العظمى ، حيث سيشتغل كمدرس في كلية لندن التطبيقية المرموقة، لسيطر بذلك، وطيلة ربع قرن من الزمن، على فلسفة العلوم في بريطانيا.
في الولايات المتحدة الامريكية، سيلتقي رودلف كارناب بويلار كين (Wilard Quine ) الذي سبق له مصاحبته في أوروبا. معا سيعطيان الانطلاقة لفلسفة علوم جديدة متأثرة بالفلسفة التحليلية. وإذا كان ويلار كين قد فجر مفاجئة مدوية عن طريق مقاله ” ذوغمائية المدرسة التجريبية”، الذي يهدم فيه أسس التيار التجريبي ، فكلاهما قد اشتغل في نفس المجال : تحديد معايير الحقيقة بالنسبة لأي طرح علمي.
في نفس الوقت، من الجهة الأخرى للمحيط الأطلسي، كانت فلسفة العلوم تتلمس طريقها بأسلوبها الخاص. في فرنسا، قام فلاسفة كألكسندر كويري، غاستون باشلار، و اميل ميرسون (Emile Mayerson ) بدراسة العلم من زاوية أكثر تاريخية ونفسية. ألكسندر كويري اشتهر بدراساته حول تطور النظرة إلى العالم مند العصر القديم حتى العصر الحديث ( من مؤلفاته في هذا الصدد، دراسات جاليلية، 1939، من الكون المغلق إلى الكون اللانهائي، 1957). من جهته، قام غاستون باشلار، تحت تأثير مدرسة التحليل النفسي، بالنظر إلى قدوم الفكر العلمي كنوع من القطيعة – “القطيعة الابستملوجية – مع أشكال التفكير البدائية والخادعة التي تقبع في داخل العقل البشري.
على ضفتي المحيط الأطلسي، يبدو، إذن، أن فلسفة العلوم قد أخدت مسارات مختلفة. لكنها كلها، سواء كانت أمريكية أو أوروبية، تتفق على نفس الهدف : تحديد مفهوم “العلم” بدقة عن طريق وضع مجموعة من المعايير التي تميزه عن بقية المعارف.
الفصل الرابع: رياح النقد
وجاءت سنوات الستينات، ومعها رياح جديدة، رياح الاحتجاج. تقريبا في كل مكان في الغرب، أخدت الأجيال الجديدة تهاجم كل السلطات : الدولة، القوات المسلحة، العائلة، الرأسمالية…، فلماذا لا تهاجم العلم نفسه؟
منذ بداية القرن الثامن عشر، اقترن العلم بالتقدم. لقد تم النظر إليه كسلاح فتاك ضد جميع أنواع المعتقدات، التصورات المسيقة والذوغمائيات. كل هذا أصبح من الماضي، فالآن قد دق جرس المحاسبة.
في سنة 1962 ظهر كتاب ” بنية الثورات العلمية”. حضور كلمة “ثورة” في العنوان يعطينا نبذة مسبقة عن الكتاب. الكاتب، طوماس كوهن، يقترح بأن تاريخ العلوم لا يتطور بطريقة تراكمية وتدريجية، ولكنه يتقدم من خلال قفزات مفاجئة، شبيهة بالثورات السياسية. لسنوات طويلة، يظل العلماء حبيسي نمط قار ومحدد من التفكير ( يسمى ب “البراديغم”). بعدها، فجأة، تقع الأزمة، فتنهار المنظومة القديمة فاتحة المجال لنموذج جديد من التفكير. هذا ما حدث عندما انتقلنا في بضع سنوات من فيزياء أريسطو إلى فيزياء جليلي، وبعدها من فيزياء نيوتن إلى فيزياء ألبير انشتاين.
هل يمكن إذا اعتبار النظريات العلمية مثل النظم السياسية التي تسيطر لحقبة معينة من الزمن ويمكن الإطاحة بها؟ ومع ذلك، تبقى وجهة النظر هذه غريبة على الفكرة التي قمنا بتكوينها عن العلم باعتباره لا يخضع للمعتقدات والأيديولوجيات ويتقدم تدريجيا تبعا لمسار الاكتشافات.
بذرة الشك التي زرعت مع طوماس كوهن، ستتواصل في السنوات اللاحقة مع جيل جديد من الفلاسفة سيوجه سهام نقده باتجاه “عقلانية” العلم. على هذا المنوال، سيعمل شاب مجري يحمل اسم امري لاكاتوس ( Imri Lakatos)، على تبيان أنه يوجد داخل كل نظرية علمية نواة صلبة من الفرضيات تظل صامدة في وجه التكذيب ( بتعبير كارل بوبر)، لكنها محاطة بحزام من الفرضيات المساعدة التي تحمي أساس النظرية ضد الاعتراضات الموجهة. بصيغة أخرى : العلم هو الآخر لا يسلم من الذوغمائية.
لاحقا، سيصبح النقد أكثر حدة. في سنة 1975، سيظهر على الساحة بول فايراباند (Paul Fayerbend) وكتابه “ضد المنهج”. هذا العجوز الفوضوي والمتمرد، المستقر في كالفورنيا (التي شكلت مركز ثقافة تحررية جديدة آنذاك)، يقول بأن النظريات العلمية تعاني من الهشاشة رغم ما تدعيه من صرامة. كأمثلة على ذلك، يوضح الكاتب بأن الفيزياء الكلاسيكية ( مع جاليلي ونيوتن) وحتى نسبية اينشتاين، قد فرضوا أنفسهم رغم الوقائع التجريبية التي كانت تكذبهم…وحتى رغم بعض التهافت الداخلي الذي كانت تعاني منه.
وبالتالي فالضربة الموجهة من طرف بول فيراباند، كانت قاسية للغاية لأنها تهدم الركائز الأساسية التي يقوم عليها العلم : فكرة عدم التناقض الداخلي واحترام الوقائع التجريبية.
في المملكة المتحدة، وفي سبعينيات القرن الفارط، ظهر تيار نقدي جديد، بإيعاز من علماء اجتماع مشهورين من أمثال دافيد بلور (David Bloor) و هاري كولينس(Harry collins). هؤلاء سيقترحون طريقة لقراءة تاريخ العلوم، ترفض تمجيد المنتصرين، أي الحقيقة التي تنتصر دوما على الخطأ. في جامعة ادينبورغ، سيطرح دافيد بلور ما يسمى ب “البرنامج القوي “، وهدفه دراسة الظروف المؤسساتية، الثقافية والاجتماعية المرتبطة بالصناعة العلمية. فهو يدرس بطريقة متساوية النظريات العلمية سواء كانت صحيحة أو خاطئة. يتعلق الأمر بوجهة نظر موغلة في النسبية. من جهته، سيوضح هاري كولينس، في كتابه ” سوسيولوجيا المعرفة العلمية”، أن المجادلات العلمية نادرا ما تضع الحقيقة في مواجهة الجهل، بل نظريتين يتواجهان على قدم المساواة، وكل واحدة منهما تملك أدلتها المتماسكة الخاصة بها. وأحيانا ما يحسم النقاش لصالح هذه النظرية أو تلك لأسباب خارجة عن النطاق العلمي ( موافقة المجمع العلمي مثلا).
نتخيل طبعا ما يمكن لمثل هذه الانتقادات أن تثيره من نقاشات حامية بين التيارين النسبي والوضعي (أي التجريبي). وإذا كان الصراع قد أصبح أقل حدة خلال سنوات التسعينات، فالصورة المثالية التي كنا نحتفظ بها عن العلم، لم تخرج سالمة من هذه المناوشات.
الفصل الخامس: عودة الحوار
دخلت فلسفة العلوم، مع حلول الألفية الثالثة، إلى عهد جديد. ورغم أنه تنقصنا المسافة الكافية من أجل أخد تقييم يحيط بجميع جوانب هذا العهد، يمكن تمييز بعض السمات الأساسية.
أولا، فقد اندمجت الفلسفة مع تاريخ، علم اجتماع وأنثروبولوجيا العلوم. هذا التطور واضح وعالمي. يشهد على ذلك ظهور ما يسمى ب ال science studies وكذلك نشر معاجم ضخمة في تاريخ وفلسفة العلوم ذات طابع متعدد التخصصات. كل هذه الأبحاث ساهمت في إخراج العلم من بوتقته المغلقة. يتعلق الأمر بنشاط جماعي، تسهر عليه شبكة من الباحثين، يعج بالمناقشات والمجادلات ومدعوم من طرف مؤسسات وسياسات علمية.
الأبعاد المعرفية الصرفة للنشاط العلمي، تطورت هي الأخرى. إذا كان الفكر العلمي ينحصر في ما مضى في الاستقراء والاستنباط، فقد أصبح اليوم أكثر تعقيدا. فقد ظهر فلاسفة جدد أظهروا أهمية القياس ودوره الفعال في العملية العلمية. قل نفس الشيء الإطارات العقلية الخفية التي تتدخل في تشكيل النماذج والنظريات العلمية. حقل دراسي آخر يهم ” الخطابة العلمية” : إذا كان العلماء يقتصرون في الماضي على الأدلة والمبرهنات فحسب، فقد أصبحوا اليوم أكثر اهتماما باستعمال أساليب بلاغية، كالمجاز مثلا، من أجل الإقناع.
فلسفة العلوم عرفت أيضا تطورا آخر مهم : التنويع. تأسست فلسفة العلوم على نموذج مرجعي شبه وحيد، الفيزياء الأساسية. لكنها سرعان ما انفتحت على حقول معرفية مغايرة: علم الأحياء، الطب، الرياضيات، نظرية التطور، العلوم الاجتماعية…هذا التنويع ساهم في إعطاء صورة أقل نمطية عن الأسلوب العلمي و تسليط الضوء على تنوع مناهجه، أسالبه، تقنياته، أنماط تفكيره ونماذجه التوضيحية.
بالنظر إلى كل هذه التحولات، يمكن لنا التمييز بين اتجاهين أساسيين. منذ حوالي جيلين، نزل العلم من عليائه. أصبح أقل شبها ببرج عاجي يسير فيه العلماء نحو الحقيقة بكل ثقة مسلحين بمنهج وحيد غير قابل للدحض والتفنيد. بطريقة ما، يمكن القول بأن العلم أصبح أكثر عرضة للخطأ…وبالتالي أكثر إنسانية. على العكس من ذلك، وعن طريق مضاعفة دراساتها الحالاتية وأساليبها المتعددة التخصصات، أصبحت فلسفة العلوم أقل نمطية، أقل شمولية…وبالتالي أكثر علمية.
بقلم Jean François Dortier
Sciences humaines n° 34, les grands dossiers, L’art de pens
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7772