عزالدين عناية ـ أكاديمي تونسي مقيم في إيطاليا
على مدى العقود الأربعة الأخيرة طغى على دراسات الإسلام في الغرب طابع اجتماعيّ سياسيّ، كانت بُغية الطلب فيه تفسير التحولات التي تشهدها المجتمعات العربية والإسلامية واستشراف مصائرها. وقد صاغت دراسات الإسلام تفسيراتها للظاهرة الإسلامية وتطوراتها من خلال إرث المدرسة الاستشراقية الذي هيمنت عليه رؤية فقهية تشريعية كلامية مشفوعة ببحث مرفولوجي في منشأ الإسلام وما تخللته من أطروحات متنوعة. والملاحظ في مسار محاولات استيعاب أصول الإسلام المبكرة والتأسيسية داخل الاستشراق، بقاء الحقل الروحي أقلّ الحقول متابعةً، بموجب غلبة الرؤية المؤسساتية الصارمة على النظر للإسلام وطغيان المنظور التشريعي المنهجي في قراءة الظاهرة الإسلامية عموما. حتى أن مجالا مهمّا من مجالات التراث الإسلامي، ونقصد التصوف، لم يشهد اهتماما مركّزا سوى في مرحلة لاحقة، ولم يوله الاستشراق المبكّر واللاحق سوى عناية متناثرة وعابرة. ولو دققنا تاريخيا في انشغالات الاستشراق، نلحظ أن الاهتمام بالتراث الروحي الإسلامي في الدراسات الغربية قد تبلور مع لويس ماسينيون (1883-1962) في دراساته المرجعية عن الحلاج والتصوف عامة، وهو متأخر نوعا ما. مع ذلك لم يشكّل ذلك الاجتراح تحويرا في مسار النظر الغربي للظاهرة الإسلامية باتجاه مقاربات تُعنى بالتراث الروحي، ولم يحصل تطور في الاشتغال بالتصوف، سواء من ناحية تحليل المقولات الصوفية أو من ناحية نقل المصنّفات المرجعية في المجال عبر الترجمة، سوى في العقود الأخيرة.
وإيطاليا تشكّل الحلقة الأضعف في هذا الاستيعاب بصنفيه داخل الاستشراق الغربي. ومثال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي جلي في هذا السياق، فلو استثنينا مؤلف “فصوص الحكم” المترجَم من الفرنسية إلى الإيطالية، لا نعثر إلى الحقبة الراهنة على نص من نصوصه منقولا إلى اللغة الإيطالية. من خلال الكتاب الذي نتولى عرضه والذي أعده الباحث الإيطالي فرانشيسكو ألفونسو ليتشيزي، معتمدا على نص بات مرجعا من مراجع المدونة الغربية من تأليف جورج قنواتي ولويس غرديه، يحاول ليتشيزي صياغة مدخل عام للتصوف دون تبسيط مخلّ. ويتوجّه عبر مؤلفه إلى مخاطبة عقلية غربية بشأن موضوع ترتبط مفاهيمه ومقولاته ولغته بتراث الإسلام، مع ما في ذلك من وعورة على قارئ غربي دأبَ على فهم الدين من منظور لاهوتي مسيحي.
يشير ليتشيزي في القسم الأول من الكتاب إلى أن حضور التصوف في دراسات الإسلام المعاصر في الغرب، يأتي موسوما بدافع براغماتي وبحكم خُلقي، أن التصوف هو ذلك الجانب “الحسن” و”المقبول” من الإسلام، بوصفه روحيا ومتسامحا ومحتضنا ومحاورا، مقابل التوجه المتشدّد الذي ينفي التعددية ويرسّخ التمايز ويمقت المغاير. ولا يخفى أن القبول بالتصوف من منظور غربي، قد صيغت مبرراته في البدء وفق تهويمات ومغالطات، أضفَتْ على الإسلام طابعا مسيحيا، وهو ما عبّر عنه مؤلف ميغال أزين بلاسيوس، المنشور في طبعته الأولى خلال 1931 بمدريد بعنوان: “الإسلام الممَسْحَن.. دراسة التصوف من خلال أعمال ابن عربي المرسي” (نسبة إلى مدينة مرسية الإسبانية).
لذلك انبنت نظرة تلحق التصوف الإسلامي بالتراث المسيحي، عمادها أحكام مستعجلة كون “المظاهر الناعمة” المشوبة بالمحبة واللطف، والتي نجدها طاغية في مقولات التصوف، هي مما يلائم روح المسيحية وتعاليم الإنجيل، ولكن سرعان ما جرى التخلي عن هذه الأطروحة غير العلمية والمفتقِرة إلى الأسس المنهجية أمام تبيّن أن المقاصد العليا للتصوف تتماهى مع المنظور الإسلامي وهي مستنبَطة من جوهر الدين المستند إلى الكتاب والسنة (ص: 87). والجلي أن تلك النظرة الإلحاقية للتصوف الإسلامي بالمنظور المسيحي قد تبلورت بفعل الرؤية الاستشراقية الكنَسية المغالية، التي هيمنت على الدراسات الإسلامية الغربية المبكرة، وهي رؤية مركزية شهدت زعزعة لأركانها مع مدرسة ما بعد الاستشراق التي يبقى من أبرز أعلامها الراحل إدوارد سعيد.
في القسم الثاني من الكتاب يحاول الباحث ليتشيزي تحديد العوامل التي جعلت الأوساط الغربية المهتمة بالحضارة الإسلامية تنحو صوب الانشغال بالتصوف. فبالتوازي مع التوتّر الذي أجّجه “الإسلام الجهادي” وما خلّفه من أثر عميق على انشغالات الباحثين ومواقفهم، لم يجد شقّ من دارسي الإسلاميات من سبيل لتجاوز ذلك المأزق الابستيمولوجي سوى بطرح التصوّف الإسلامي بديلا دراسيا. فليس التصوّف نهجا لتغيير ظواهرية الحياة بل هو مسلك ذوقي لتنقية البواطن، فهو من الصنف المرْضي عنه، ولا يُمثّل تهديدا. ينضاف إلى ذلك أن التوجّه إلى العرفان الإسلامي يأتي نتاج دخول براديغمات جديدة في التعاطي مع الشأن الديني، تتفسّر ضمن مقولات سوسيولوجيا الدين الأمريكية المتلخصة في طروحات “السوق الدينية”، أي محاولات المتحكّمين بالمجال الديني تحويل قطاع الرّوحانيات إلى بضاعة استهلاكية منتزَعة من سياقاتها الدّينية والفلسفية. ليأتي الشغف بالتصوف من خارج النسق الرّوحي المعهود، في مسعى للاقتراب من آثاره ووعوده التي عبّر عنها إبراهيم بن أدهم في ذلك القول المأثور: “لو علم الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه”. ولعل كثرة انتشار نوادي اليوغا والتأمل والرّياضات الروحية، غير المجانية، موحية ضمن هذا المستجد بالغرب. وبالفعل بدا التصوّف مغريا لفئات من الغربيين، تُكتشف عبره سماحة الإسلام رغم ضخّ إعلام الفوبيا الهائل (ص: 103).
ولا يحصر الباحث الإيطالي ذلك الانجذاب في حدود التصوف الإسلامي، بل يحشر الأمر ضمن إطار روحي عام يشمل تقاليد شرقية أخرى. يفسّر عالم الاجتماع الإيطالي ستيفانو آليافي ذلك ضمن “موجة الموضات الروحية” الشرقية التي تجتاح الغرب. فأزمة المعنى التي تعاني منها المسيحية الغربية، والتي خلّفت فتورا وانتقالا للناس من “الاعتقاد والانتماء” إلى “الاعتقاد دون انتماء”، كما عبّرت عن ذلك الدارسة الإنجليزية غرايس دافييه، قد ولّدت بحثا عن الرّوحي في مختلف التجارب الدّينية، في البوذية والطاوية والحاسيدية اليهودية والنيو آيج (العصر الجديد) والنحل المسيحية البنتكوستالية، مع ميل واضح نحو التقاليد الباطنية. وفي ذلك المسعى لا تغري الغربي المؤسّسة الدّينية المغايرة بهيكلها الصارم، بل جانبا معينا من إرثها الديني، يجد معه المرء انسجاما، وقد تتقلص منه أحيانا مراعاة الطقوس، ليصوغ السالك بشكل ذاتي دربَه في حِلّ من ضوابط المؤسسة أو التقليد الديني الصارم.
فقد صار السالك نحو تجربة جديدة يرسم صِلاته بمخزون الآخر الروحي ضمن منطق وجْدي ذوقي، متخفّف من مستلزمات الانتماء. يصف فريدريك لونوار ذلك الكلف الروحي في بحث بعنوان “الروحانيات الشرقية في الغرب” ضمن “موسوعة الأديان” (1997، ص: 2383): “الطرق الصوفية أساسا هي ما يجذب الغربي، وأشهرها حركة الدرويش الدوّار برقصته الفاتنة الذائعة الصّيت، وهو ما يفضي بالمريد إلى بلوغ الوجد الرّوحي. حيث تعرض تلك الطرق نفسها سبيلا أصيلا يعبّر عن روح الإسلام. فتعاليم الصّوفية تجذب الغربيين بفعل خاصيات ثلاث: سَهرُ معلّمين روحيين عارفين على تبليغها، عدم إهمالها حركات الجسد المشفوعة بالترانيم الروحية، تجمعاتها المتحمّسة والنشيطة”.
وبالتالي ترافقت موجة الانجذاب للتقاليد الروحية مع هدوء نسبي في دراسات الإسلام الحديثة، تراجعت منها تلك النظرة المتوترة والعصابية التي غالبا ما تحكمت بمقاربة الدارس الغربي لقضايا الإسلام. ولكن الجلي في المنظور الغربي أن الطُّرق الصوفية في بلاد الإسلام غالبا ما تمّ عرضها ضمن مقاربة الأقليات الدينية التي تبقى عرضة للتضييق والاضطهاد من قِبل الأغلبية، التي يمثلها التيار السني تيار الأكثرية.
في القسم الثالث من الكتاب يرصد ليتشيزي بقاء التصوف المدخل الأكثر إغراء للآخر الغربي، بما انعكس على تطور نسيج من الجمعيات الصوفية تجد في السكينة الروحية وفي الترانيم الروحية وفي المنزع الباطني عناصر جاذبة. ونظرا لطابع التخوم العقائدية الرّخو داخل هذه التجمعات، يجد المنضوي ألفة مع العائلة الجديدة ومحافَظة على إرثه السالف. هذه المزاوجة بين هويتين، سالفة وراهنة، تجعل “المهتدي الغربي” عبر هذه الطرق أقرب إلى التديّن المنفتح الذي تتقلّص منه الحدود الفاصلة. فعادة ما يدخل المهتدون الإسلام عبر الطريقة الصوفية وليس العكس، ما يجعلهم يحتفظون بضيق الرؤية وقلّة منهم من تهجر ذلك المدخل الأوّلي. ولعل الملاحظ مع هؤلاء أن قليلا منهم من يرتاد المصلّيات في الغرب، هذا إن لم نتحدث عن فتور مفهوم الانضباط الشعائري بينهم.
صحيح أن الصوفي ابن عربي بمقولاته الفاتنة يثير إغراء كبيرا بين شرائح غربية مثقفة تلج باب التصوف، ولكن يبقى تأثير الفرنسي رينيه غينو (1886-1951م) لافتا أيضا في أوساط المحافل الصوفية الغربية. فغينو من ذلك الصنف الآسر، لا سيما في أوساط المولَعين بالمدخل الرمزي والباطني الذي يلحّ عليه. فنهجه يُعدّ مؤثرا في المجال بما تخلّله من تجوال بين تقاليد روحية كونية، تراوحت بين المسيحية والهندوسية والطاوية والبوذية وغيرها، إلى أن انتهى به المطاف عند التقليد الروحي الإسلامي الذي وجد فيه ضالته (ص: 187).
في القسم الرابع والأخير، يبرز مؤلَّف ليتشيزي بقاء روح التصوف مستشرية في أرجاء العالم الإسلامي وغير متأثّرة بتسرب مظاهر الحداثة، ولعلّ تلك الروح تكشف عن قدرة التصوف على التعايش مع مستجدات الحياة رغم التطورات الهائلة التي مسّت أنماط العيش. وفي تتبع مسارات الطرق الصوفية عبر مختلف الأوضاع السياسية والاجتماعية، يبيّنُ الكتاب أن التيار الصوفي ما كان بمنأى عمّا تطفح به الأوساط الاجتماعية من إشكاليات قد تبدو أحيانا بمنأى عن انشغالاته، وإن قاربها التصوّف على نهجه واختار فيها استراتيجيا حوارية مسالمة. فنمط عيش المرابطين في الرباطات في بلاد المغرب، المتميز بالزهد والورع ولعب دور دفاعي عن الثغور بقصد الذود عن دار الإسلام، هو شكل من أشكال المزاوجة بين الروحي والعملي. وبالمثل ما ساد في الفترة الحديثة مع حركة الزوايا في الجزائر أو مع أتباع السنوسية في ليبيا أو مع المهدوية في السودان، هو بالأصل شكل من أشكال المقاومة للاستعمار، هدف للحفاظ على هوية الأمة. لذلك ليس التصوف من المنظور الإسلامي عزلة بالمعنى السلبي أو انزواء عن مشاغل الناس بل هو انخراط هادئ (ص: 230).
يحاول ليتشيزي في هذا القسم إقامة مقارنة بين التصوف الإسلامي ونظيره المسيحي، فيلمّح إلى فروقات مهمة بين التجربتين الروحيتين. صحيح أن ثمة مشتركات من حيث التطلّع إلى الفناء في محبة الله، ولكن الرموز الحاضرة في التصوّفيْن تبدو متباينة أحيانا، ولا شك أن تبني العزوبة والنفور من الزواج في التصوف المسيحي هي مما لم يلق هوى في التصوف الإسلامي، كما أن التقنيات الموظَّفة في التجربتين تتغاير من حيث المغالاة والحدة. ففي تقليد التصوف المسيحي، كما يبرز صاحب الكتاب، نجد إجحافا في اختراع سُبل لإنهاك الجسد: مثل تقليد الرهبان “أكلة النباتات” (boskoi) ممن كانوا يهيمون في الصحارى كالأنعام، أو “الشجريون” الذين اتّخذوا من الأشجار سكنا، ولعل أبرز هؤلاء “العموديون”، الذين تنحدر تسميتهم من العبارة اليونانية (stylos)، أي العمود، فقد كان هؤلاء الرهبان المنعزلون فوق الأعمدة على علو شاهق، غرضهم أن يسلكوا درْب الزهد. وهي ممارسة نشأت في المشرق بمبادرة من القدّيس سمعان الكبير، الذي صعد فوق عمود قرب أنطاكية عام 422م وظل هناك حتى وفاته عام 459. لم تخل تجارب التصوف في الإسلام من الغلوّ والغرابة أيضا، لكن المناخ العام بقي محكوما بميزان “لا رهبانية في الإسلام”، كما أن العزوبة لم تجد قبولا واسعا بين هؤلاء المنقطعين للعبادة، نظرا للحثّ القوي في الإسلام لبناء أسرة وعيش حياة متوازنة.
وبالتالي يتعلق الأمر في التجربة الروحية الإسلامية بنوع من التصوف المنغمس في الحياة، وهو ما نجده في النزعات الروحية التي تزاوج بين الشغل المعيشي والمسلك الروحي، دون إفراط ولا تفريط، حتى أن دارسا من الدارسين الغربيين، أليساندرو باوزاني، في مقارنة أبعاد التدين في الشخصية المسلمة والشخصية الغربية المسيحية، يخلص إلى أن المنزع الروحي الشائع في الأوساط الإسلامية هو ما يشكل الأسّ الذي تقوم عليه الشخصية المسلمة، فالتصوف من منظوره “هو عبارة عن سموّ بالإنسان المؤمن بما يجعل الحياة الفردية أو الجماعية مفعمةً بجوّ من الشفافية الروحية” (“الإسلام.. الدين والأخلاق والممارسة السياسية”، ص: 81).
إن تكن مضامين الكتاب تتوجه بالأساس إلى القارئ الغربي، في موضوع على صلة بجانب من جوانب الثقافة الإسلامية، فهي تقدّم أيضا إطلالة عن تطورات الظاهرة الصوفية في الغرب وأهم ملامحها. تضمّن الكتاب جملة من الملاحق فضلا عن فهارس عنيت بالمراجع والأعلام والمصطلحات الصوفية، وهو ما أضفى على الكتاب طابع الدراسة العلمية المتكاملة.
نبذة عن المؤلف: فرانشيسكو ألفونسو ليتشيزي باحث جامعي إيطالي متخصص في التصوف الإسلامي. يدرّس في جامعة الدراسات العالمية بروما. فضلا عن الكتاب الذي نعرضه صدر له مؤخرا بحث آخر بعنوان: “الصوفيون على الإنترنيت.. الطرقية بين العولمة والتراث” (2017).
الكتاب: التصوّف الإسلامي.
إعداد: فرانشيسكو ألفونسو ليتشيزي.
الناشر: جاكا بوك (ميلانو) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2020.
عدد الصفحات: 368 ص.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7471