“من فقه الأحكام إلى فقه التعايش” قراءة الدكتور محمد الناصري للولاء والبراء في ضوء النص المؤسس
أحمد المهداوي/كاتب صحافي
لابد أولا من الاتفاق على أن كثيراً من المصطلحات، المتداولة اليوم، في حاجة إلى دراسة منهجية تُعنى بتعريف المصطلحات إجرائياً وتحديد أبعادها بناءً على البحث في سياقها المعرفي ومواكبة تطورها، وضبطها وتدقيق معانيها ودلالاتها، وذلك لأجل بناء إطار مرجعي يقلل من تعدد الدلالات المحتملة للمصطلح الواحد، خاصة في مجالات العلوم الإسلامية والإنسانية والاجتماعية التي تتسم بتعدد المفاهيم.
إن فهم المصطلحات نصف العلم (1)، وليس من مسلك يتوسل به الإنسان إلى منطق العلم غير ألفاظه الاصطلاحية (2)، وهذا المسلك ديدن الدكتور محمد الناصري، أستاذ الفكر الإسلامي بجامعة مولاي سليمان، ودأبه إذ يسعى هذا الباحث المتميز، مستعيناً بسعة اطلاعه وبما له من قدرة على تفكيك المصطلح واستنباط معانيه ودلالاته، إلى الوقوف على المعنى الشرعي الدقيق للمصطلح موضوع الدراسة.
وكعادته، وعلى غرار قراءات سابقة، تتميز بالجدة والتدقيق والتفرد، لمجموعة من المصطلحات والمفاهيم، الشرعية على وجه الخصوص، يُخضع الدكتور الناصري مفهومي الولاء والبراء، باعتبارهما من لوازم عقيدة التوحيد، إلى الضبط المفاهيمي ساعياً إلى النأي بهما عن مراتع التشويه مساهماً، في الوقت نفسه، في تدقيق معناهما وضبط مادتهما الشرعية.
هذين المفهومين، من وجهة نظر الدكتور الناصري، أثارا الكثير من الجدل خاصة لدى فئة من الباحثين الإسلاميين وبعض الجماعات الإسلامية اعتباراً لكثرة تداولهما وطبيعة التعامل معهما بوصفهما من لوازم عقيدة التوحيد والصورة الفعلية للتطبيق الواقعي لهذه العقيدة. ونتيجة للفهم الخاص الذي ينطلق منه الباحث أو الجماعة، حسب قراءة الدكتور الناصري، للولاء والبراء فإن نظرتهم وتعاملهم مع الواقع المعيش يفرض حركة وسلوكاً معينين يخضعان لتأثير الفهم الضيق.
يقول الدكتور الناصري: “لذلك نحن بحاجة إلى ضبط المعنى الشرعي لهذين المفهومين، وبيان موقعهما في سلم القيم والمبادئ القرآنية الحاكمة لعلاقة المسلمين فيما بينهم وعلاقتهم بغيرهم”(3)، يتضح إذن أن المفهومين انحرفا عن مضمونهما ودلالاتهما الأصلية مما أحدث لبساً كبيراً لدى بعض الجماعات المتشددة التي توسع دائرة البراء، وعنه ينشأ الخلط بين البراء في العقيدة والتعامل، ما يكون مؤداه التطرف والغلو. “ولا شك أن إصرار كل الحركات المتطرفة على استخدام هذين المفهومين في تكفير المسلمين واستحلال دمائهم بحجة موالاة الكفار، دليل على غياب مضمونهما ودلالاتهما عن واقع المسلمين، إذ إن العديد من الظواهر تؤكد بشكل أو بآخر على خلو واقعنا الإسلامي من مقتضيات ولوازم المفهومين الشرعية المؤسسة ابتداءً للمصطلحين”(4).
بناءً على ما سبق يقدم الدكتور الناصري قراءة تحليلية نقدية معمقة تفكك مفهومي الولاء والبراء بداية بتحديد الدلالات اللغوية والاصطلاحية ثم الشرعية لهذين المفهومين، مستعرضاً أولا دلالاتهما في اللغة ليخلص إلى أن معاني الولاء في اللغة تدور حول معنى عام هو الارتباط الذي يدل على الميل إلى الشيء والاقتراب منه، فيما تصب مجمل معاني البراء في معنى عام يدل على الانفصال والهجر والترك وعدم الاقتراب من الشيء.
يسلط الدكتور الناصري الضوء على الولاء والبراء من الناحية الاصطلاحية، حيث يرجع إلى معنى المحبة في الموالاة التي ينشأ عنها الموافقة والنصرة، وإلى معنى البغض في البراء الذي ينشأ عنه المعاداة، مستعرضاً أقوال جملة من العلماء والباحثين، ابتداءً بابن تيمية الذي يرى أن أصل الموالاة هي المحبة، وأن أصل المعاداة البغض. كما عرض رؤية عبد الرحمن بن ناصر السعدي لأصل الولاية، من خلال تفسيره للآية 23 من سورة التوبة، باعتباره يدل على المحبة والنصرة، في حين يقف محمد بن عبد الوهاب على أن أصل دين الإسلام، حسب رؤيته، يتلخص في أمرين؛ الأول: عبادة الله، والتحريض على ذلك والموالاة فيه، وتكفير من تركه. الثاني: الإنذار عن الشرك، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله.
يصل الدكتور الناصري، بعد استعراض جملة من المعاني الشرعية للولاء والبراء، إلى محصلة مفادها أن التعامل مع المفهومين “انطلق من تتبع دلالات جذره اللغوي مع تأكيد قيم ومقولات تم استنباطها، دون دراسة المفهومين من خلال تحديد موقعهما في البناء المفاهيمي الذي يستدعيانه” (5). ويرى، من خلال دراسة مجموعة من النصوص والتفسيرات، “أن منطق الاستبعاد الذي ميز التعامل مع مفهومي الولاء والبراء قد أدى في نهاية الأمر إلى سحب معانيهما اللغوية إلى معاني اصطلاحية معينة، مما أوقع العديد من أنصار الجماعات المتطرفة، في التخبط والاضطراب في فهمهم لدلالات الولاء والبراء”، هذا الأمر جعل هذه الحركات، الموسومة بسمة التطرف، تنزع نحو ليّ أعناق النصوص القرآنية والحديثية مخرجة إياها عن سياقها، واعتبار السياق أمر غائب تماماً في تعامل العديد من أنصار هذه الجماعات مع المفهومين المذكورين، والواقع أن تلك النصوص، حسب الدكتور الناصري، مرتبطة بظروفها، أو بظروف سوء العلاقة التي يتسبب فيها الآخر ابتداءً، ويفرضها على المسلمين.
تكمن خطورة الطرح، الذي نبّه إليه الدكتور الناصري، في “التعامل الانتقائي” مع النص الديني من طرف الجماعات المتطرفة، حيث إما أن يتم إغفال النصوص المقيدة أو انتزاع النص ذاته من سياقاته التاريخية واللغوية لتبرير أيديولوجيات معينة، وهكذا يتم التعامل مع النص الجزئي بفهم حرفي وحكم مطلق دون استقرائه في ضوء المقاصد الكلية ودون مراعاة وتبين لخصوصية السياق.
يعود الدكتور محمد الناصري، الباحث في الفكر الإسلامي المعاصر، للتطرق للدلالات الشرعية لمفهومي الولاء والبراء، مستقرئً لمجموعة من الآيات القرآنية التي ورد فيها كل من الولاء والبراء، ليتأكد له أن معنى هذين المفهومين، وِفق السياق القرآني، راجع إلى معنى إيماني قلبي محض؛ “ذلك أن معنى الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، إنما هو ميثاق محبة تعبدية” (6)، والمقصد الأساس تمتين آصرة الأخوة في الله، وتعميق الروابط المجتمعية لأجل بناء مجتمع متين يتبنى في صميمه المفاهيم المرتبطة بجوهر الإسلام. أما البراء “فهو كره المسلم للكفر -على سبيل التعبد- وتبرؤه منه، وتنزهه عنه، من حيث هو عقيدة قائمة على نقض حقائق الإيمان، ولا يلزم عنه بغض المسلم لغير المسلمين بإطلاق” (7).
يخلص الدكتور الناصري في قراءته إلى أن الكفر في حد ذاته ليس سبباً في معاداة أهله، وأن البراءة والعداوة ليست دينية لأن الإسلام، في ماهيته، شريعة إنسانية قبل أن يكون شريعة قومية، كما أنه لا يتناقض مع الديانات السابقة التي اندرجت تحت عنوانه، ومن هنا يسعى الباحث إلى إزالة اللبس المرتبط بمفهومي الولاء والبراء والذين شاع استخدامهما في الفكر العربي والإسلامي، ولأن غاية الباحث بناء إطار مرجعي يقلل من تعدد الدلالات المحتملة للمصطلح الواحد فإنه رفض الأفهام المتعددة وسعى إلى تحديد دلالات المفهومين الشرعية من خلال الاستناد إلى سياق ورودهما في الأصول المؤسسة لهما ابتداءً بالقرآن والسنة.
إجمالا يرفض الباحث التعاطي “الانتقائي” مع النصوص الشرعية، من خلال انحصار أسلوب التعاطي مع الآخر في مناهضته وإقصائه في مقابل التكتم عن الجانب الكوني للإسلام وفق التصور القرآني الذي يتأسس على مجموعة من القيم الحضارية الداعية إلى تقبل المخالف والتعايش معه.
وفي السياق ذاته عارض الدكتور محمد الناصري الاستغلال الخطير لمفهومي الولاء والبراء من طرف الحركات المتشددة التي تبنتهما على المستوى الفكري وسعت إلى تحقيق مقتضياتهما على مستوى الواقع، مؤكداً في مقابل ذلك على أن هذه التمثلات المتطرفة لا علاقة لها بالنص المؤسس، وسعى، في الوقت نفسه، إلى إبراز الروح السلمية للدين الإسلامي من خلال إعادة بناء المفهومين من خلال موقعهما في النص القرآني وتطبيق أحكامهما في السنة النبوية مقدماً بذلك قراءة، تتوافق والتصور الإسلامي المعاصر، إذ ترتكز على التطبيق العملي لروح الإسلام السمحة وقيمه العالمية في بناء علاقات إنسانية متوازنة ومستقرة في إطار المشترك، بدلا من الاقتصار على الجوانب الشكلية للأحكام الفقهية، فهي إذن قراءة تقوم على تعزيز “توجه حضاري عام في بنية الإسلام وتصوراته الكونية العامة” (8).
__________________________
(1) علي القاسمي، علم المصطلح أسسه النظرية وتطبيقاته العملية، ناشرون، بيروت، لبنان، ط 2، 2019، ص: 303.
(2) عبد السلام المسدي، قاموس اللسانيات، الدار العربية للكتاب، القاهرة، ص: 11.
(3) محمد الناصري، الولاء والبراء: من فقه الأحكام إلى فقه التعايش وتفعيل دائرة المشتركات القيمية، ص: 3.
(4) المرجع نفسه، ص: 4 و5.
(5) المرجع نفسه، ص: 7.
(6) المرجع نفسه، ص: 12.
(7) المرجع نفسه، ص: 12.
(8) محمد الناصري، قضايا في الفكر الإسلامي المعاصر: النص، حرية الاعتقاد، المشترك الإنساني، دار الأمان، الرباط، ط 1/2023، ج1، ص، 38.
التعليقات