فصل المقال في من يخلط المنهج بالضلال: في الاعتراف بالعلامة مولود السريري
هذا رد حبكناه وصغناه اصطفاء وتقربل للعلماء، وتبيانا لضلال وبهتان وعدوان الدهماء، وكذا هو سير على أثر فيما كتب بمراس وتأييد جزئي للصديق أيمن بوراس.
لا مراء في ظهور شرح جديد لكتاب المستصفى من علم الأصول للإمام أبي حامد الغزالي والذي لا ينبغي أن يستقبل بمنطق الريبة العقدية ولا أن يقاس بميزان الاصطفاف المذهبي الضيق لأن المتون الكبرى لا تعيش إلا بتعدد شروحها ولا تحفظ مكانتها إلا بتجدد القراءة فيها؛ فالمستصفى غير مندرج ككتاب فقه جزئي ولا رسالة وعظ باعتباره نسقا أصوليا منطقيا فلسفيا صاغ فيه الغزالي خلاصة تربيته الكلامية الأشعرية ومنهجه المقاصدي، واستيعابه العميق للمنطق الأرسطي بعد تهذيبه شرعا ومن ثم فإن أي شرح جاد ومنها شرح أبي الطيب مولود السريري المالكي هو بالضرورة مشاركة في ورشة الغزالي المنهجية لا خروج عليها، ولا يحاكم صاحبه على أصول عقدية مادام الاشتغال منصبا على تحرير الدلالة وتقويم الاستدلال، وضبط المصطلح. كما أن الطعن في هذه الشروح بدعوى الزندقة أو الأشعرية لا يعدو إلا كونه خلطا بين مجالين وجهلا بهما..وأنا أقصد مجال المنهج العلمي ومجال الاصطفاف العقدي، ولو سلمنا بهذا المنطق لوجب إسقاط الغزالي نفسه وهو أشعري صريح…والأدهى حسب السياق ذا وسيرا به وعليه وجوب إسقاط المستصفى برمته لأنه قائم على مقدمات منطقية صرح بها الغزالي بلا مواربة وافتتح بها كتابه تحت عنوان مقدمات العلوم متحديا فقهاء عصره الذين أنكروا المنطق ثم استعملوه من حيث لا يشعرون…وقد قال كلمته الشهيرة التي تصلح جوابا لكل معترض…من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلمه، وهو قول ليس دعوة إلى الفلسفة المجردة إنما إلى ضبط آلة النظر.
والعلماء يا سادة، لم يختلفوا في أن الدقة فيما يخص الشرح وإتيانه غير معني بالتعاضد لا في الحداثة ولا في القدم، لأن الأمر منوط بقياس زاوية الاشتغال، فشرح الإمام فخر الدين الرازي وإن لم يكن شرحا مستقلا على المستصفى يعد من أعمق من فكك مباحثه المنطقية والكلامية ضمن مشروعه الأصولي وكذلك يعد شرح المستصفى لأبي إسحاق الشيرازي في بعض النقولات والتعليقات مرجعا في ضبط الخلاف الأصولي…غير أن الشروح المعاصرة تمتاز بكونها تستحضر تاريخ الجدل الأصولي كله وتعيد قراءة الغزالي في ضوء تطور المقاصد ونظرية الاستدلال واللغة، وهو ما لا ينقص من التراث ولكن يفعله فلا تثريب إذن حسبنا!!
وقوليـ الفصل على كل اعتراض واستنقاص ولصق تهمة وتبديع، ان هذا الاعتراض على هذه الاجتهادات هو في حقيقته اعتراض على فكرة الشرح ذاتها وكأن العلم يراد له أن يتجمد عند طبقة زمنية بعينها وهذا ما كان الجاحظ يسخر منه حين قال_بمعناه_ إن من ظن أن العلم قد استكمل فقد جهل طبيعة العلم… ولو كان هذا المنطق معتبرا لما احتاج الزمخشري إلى شرح الكشاف، ولا احتاج الفقهاء إلى تهذيب الأصول، ولا كان الغزالي نفسه ليكتب المستصفى بعد الجويني…بالتالي يا سادة الحمق والهبد.. فالشرح بعيد عن الادعاء على النص، لكنه حتما تواضع أمامه؛ اعترافا بأن النص أكبر من قارئه وأن كل جيل لا يملك إلا أن يفتح نافذة منه..دون أن يغلق أبوابه.
وعليه فشرح أبي الطيب مولود السريري وغيره من الشروح يقع في باب العلم والمنهجية لا باب العقائد والصراعات كما أنه امتداد شرعي لتقليد علمي متأصل أصيل يرى في الاختلاف ثراء وفي التعدد ضبطا، وفي إعادة القراءة حفظا للنص مانعا كل ما يعد خيانة له، ومن يخلط بين المنهج والهوية وبين الأداة والعقيدة، إنما يخاصم العلم باسم الغيرة عليه ويغلق باب الاجتهاد باسم السلف مع أن السلف أنفسهم ما كانوا ليقبلوا بهذا الإغلاق.
والله من وراء القصد، العبد الفقير لربه عبد الإله زيات
التعليقات