لماذا يخشى الإسلاماويون العلمانية؟

13 ديسمبر 2025

كريمة العزيز

كلما طُرح موضوع العلمانية في مجتمعاتنا، تصاعدت لغة التخوين والتكفير، وكأننا أمام خطر وجودي يهدد الدين ذاته، إذ تُقدَّم العلمانية عمدًا بوصفها مشروعًا معاديًا للإسلام ومؤامرة تستهدف هوية المسلمين، في حين أن هذا الخطاب لا يعكس حرصًا صادقًا على الإيمان بقدر ما يكشف مشروعًا أيديولوجيًا تقوده التيارات الإسلاماوية التي بنت نفوذها على تشويه المفاهيم وتحريض الناس ضد الدولة الحديثة وكل ما يحدّ من سلطتها الرمزية والسياسية، فالعلمانية في جوهرها لا تعادي الدين ولا تسعى إلى إلغائه أو إقصائه من المجتمع، بل تشكّل الإطار الذي يضمن حرية المعتقد للجميع دون استثناء ويحمي الدين نفسه من الاحتكار والتوظيف السياسي، لأن فصل الدين عن الدولة لا يعني محاربة الإيمان بل حمايته من التحوّل إلى أداة سلطة، فالدين تجربة روحية شخصية عميقة بين الإنسان وربه لا شأن للقانون بها، بينما يجب أن يكون القانون واحدًا ومحايدًا وعادلاً وفوق الجميع.

وفي هذا السياق، تحتفل فرنسا بمرور 120 سنة على إقرار مبدأ العلمانية أي فصل الدين عن الدولة وتحرير المجال العام من الهيمنة الدينية والسياسية، غير أن هذا النموذج يواجه اليوم تحديات متزايدة لا بسبب فشل العلمانية بل بسبب محاولات بعض التيارات الإسلاماوية فرض قراءتها الدينية الخاصة على الفضاء العام وعلى المدرسة تحديدًا، من خلال المطالبة بإدخال الرموز الدينية إلى المؤسسات التعليمية أو رفض تدريس مواد علمية مثل البيولوجيا ونظرية التطور بحجة تعارضها مع الدين وصولًا إلى الضغط لتعديل القوانين باسم ما يُسمّى الخصوصية الدينية، وهنا يطرح السؤال نفسه: هل المشكلة في العلمانية أم في خطاب ديني مُسيّس قُدّم على أنه الإسلام ذاته رغم كونه تفسيرًا واحدًا مغلقًا وغير قابل للنقد أو التعدد؟ لقد أثّرت هذه القراءات المتشددة في فهم الدين لدى فئات من الشباب خاصة في مجتمعات تتسم بالتنوّع الثقافي والديني حيث تتقاطع أسئلة الهوية والانتماء، فبدل أن يكون الدين عنصر توازن روحي وأخلاقي جرى تحميله بدلالات صدامية تُغذّي الشك في كل ما هو علمي وتُقصي التفكير النقدي وتُصوّر القوانين المدنية على أنها تهديد دائم لا باعتبارها إطارًا يضمن الحقوق والحريات وينظّم العيش المشترك.

وبهذا تحوّلت المدرسة التي يُفترض أن تكون فضاءً محايدًا لبناء العقل وتحرير التفكير في نظر الإسلاماويين إلى ساحة صراع أيديولوجي لا يُراد فيها للتلميذ أن يفكّر بل أن يمتثل ولا أن يسائل بل أن يرفض ولا أن يُبنى كمواطن حر بل كعضو في جماعة تُغذّى على الإحساس الدائم بالاضطهاد وخطاب المؤامرة والتحريض والتفرقة والكراهية وتصوير العالم وكأنه في عداء مستمر مع الإسلام مع استدعاء دائم لخطاب التمييز والعنصرية ولعب دور الضحية.

الإسلاماويون لا يعادون العلمانية لأنها ضد الدين بل لأنها تُفشل مشروعهم القائم على الامتياز والاستثناء واحتكار الحقيقة، وهم لا يؤمنون بالمساواة ولا بكون القانون واحدًا للجميع ويحتاجون دائمًا إلى خطاب المظلومية وإلى مطالب استثنائية وحالة توتر دائمة تبرّر حضورهم في المجال العام.

وفي خضمّ ذلك يُختزل الإسلام، دين القيم والعدل والكرامة، في شعارات سياسية وأدوات ضغط بدل أن يبقى رسالة أخلاقية وإنسانية جامعة، ومن هنا يتضح أن الصراع الحقيقي اليوم ليس بين الإسلام والعلمانية بل بين مشروع مدني ديمقراطي يحمي حرية الجميع دون تمييز ومشروع إسلاماوي يُقحم الدين في السياسة فيُفسد الدولة ويشوّه الدين في آن.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...