أحمد التوفيق روائيا “سيرة البحث عن الحقيقة الروحية في الإنسان”
أحمد المهداوي/كاتب صحافي
يجهل الكثيرون شخصية أحمد التوفيق، المتوارية خلف منصبه كوزير للأوقاف والشؤون الإسلامية، كشخصية روائية تمتلك ناصية الصنعة الأدبية المتسمة بالإبداع والخيال الموسوم بلمسة صوفية تكاد تكون طاغية على جل أعماله الأدبية، بين التاريخ والرواية يقف أحمد التوفيق، ابن منطقة مريغة، باحثاً عن الجوهر الحقيقي للإنسان؛ الجوهر الروحي في الإنسان بما يمثله من جانب متحرر وحقيقة أبدية؛ إذ الروح “في جوهرها حرة تماماً وتعيش ديمومة خلاقة”(1). وعلى الرغم من كون التوفيق لا يعتبر الكتابة حرفته ولا صنعته غير أنه لم يتمكن من مغالبة النزعة الداخلية التواقة إلى التعبير عن الذات حيث الكاتب يكتب لنفسه أولا ثم لجمهوره.
ولئن كان التاريخ كتخصص أكاديمي اختاره أحمد التوفيق مكنه من تسجيل الحوادث واستقراء الذاكرة بحثاً وتحقيقاً فإن الرواية كجنس أدبي أهلته للبحث في طبيعة سلوك الإنسان، و”وصف الواقع الإنساني بأعمق وأدق أبعاده وفي إطاره التاريخي والاجتماعي بكل شموله”(2)، فالرواية بالنسبة إليه ليست قدرة على التخيل والتصور والتعبير فحسب بل هي جزء من الروائي المتطلع إلى تحقيق الكمال من خلال البحث عن مُثُل معينة في نفسه قبل غيره.
الكتابة الروائية عند أحمد التوفيق لا تغرق في الخيال بصورة جامحة، وإن كانت تمتح من المتخيل الديني/الصوفي على الخصوص، فهي تستند على الواقعية المرتبطة بالتاريخ وتعتمد تفاصيل حياتية منسوجة من بنية تاريخية مدققة، على أنها لا تلجأ إلى محاكاة الواقع بصورة مستغرقة إذ تستدعي عوالم الماورائيات؛ عالم الكرامات والأفعال المتعالية الخارقة المستقاة من المخيال الصوفي الشعبي.
1- جارات أبي موسى (حكاية الإنسان والمصير):
أولى روايات التوفيق (جارات أبي موسى) نُشرت في أواخر التسعينات، سنة 1997، رواية تحكي “عن الإنسان والمصير”(3) في طابع تاريخي مناقبي صوفي، استعرض فيها الأوضاع الاجتماعية والسياسية في حقبة اتسمت بالاضطراب في تاريخ المغرب، الرواية المذكورة، والتي استلهم فيها الكاتب معاني ودلالات حديث (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي)(4) تمكنت، في قالب يمزج التاريخ بالأدب الشعبي، من تقديم صورة حية لمغرب القرن 14، إبان فترة حكم بني مرين.
ولا غرو بأن أحمد التوفيق استفاد من رصيده كمؤرخ في سرد الأحداث الماضية حيث سعى إلى جعل التاريخ في خدمة الحدث الروائي من أجل توثيق ما عايشته المرحلة من صراعات وتناقضات وفساد اجتماعي وإداري وتصاعد لـ”لزخم الصوفي”، كاشفاً، في الوقت نفسه، عن المفارقة البيّنة بين الفقه الرسمي الصادر عن الأجهزة الدينية الرسمية التابعة للسلطة والتصوف المتحرر كـ”صوت هامشي” راغب في التحرر من ربقة التسلط والسيطرة القمعية.
الرواية من خلال “فندق الزيت”، كفضاء أشبه ما يكون بسفينة نوح يتساكن فيه أخلاط البشر وكما تتفاضل فيه “المنازل الروحانية كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية”(5)، استطاعت رسم صورة مصغرة عن المجتمع كمجتمع متفسخ يحمل في أحشائه “شخصيات متناقضة نفسياً وسلوكياً، فيهن الصالحات والطالحات، وفيهم رجال سلطة واستغلال ومتعة بطيبات الحياة حلالها وحرامها. وفيهم، وفيهن، السماسرة والمتاجرون في المال والأعراض والسلطة”(6).
وفي وسط هذا الضجيج الاجتماعي تبرز علاقة أبي موسى بجاراته كعلاقة مبنية على تزكية النفس وتطهيرها والنأي بها والنجاة عن سخم الناس، والسمو في مقامات الروح عبر العمل والكرامة والعناية كأساس تقوم عليه الولاية.
الولاية، كمقام روحي رفيع في السلوك الصوفي سرُّ العناية، هذه الدرجة تحضر أعمال أحمد التوفيق، ولو بصورة مبطنة، ابتداءً من (جارات أبي موسى) وصولا إلى (واحة تينونا أو سر الطائر فوق الكتف) حيث المسير إلى درجة أهل الخصوص يتأتى بإحدى السرعتين؛ إما بالفضل (الجذب كحالة روحية عميقة) حيث يتفضل الله على بعض عباده بتأهيلهم لمرتبة عالية تصل بهم إلى مقامات روحية سامية أو بالمُجاهدة وفيها يُنال مقام الولاية بالسعي والصبر والعزم.
____________________
(1) سماح رافع محمد، المذاهب الفلسفية المعاصرة، مكتبة مدبولي، ص: 71.
(2) حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، الطبعة الرابعة 1991، ص: 359.
(3) عبد الفتاح الحجمري، جريدة الاتحاد الاشتراكي: 26/9/1997.
(4) محمد درويش الحوت، أسنى المطالب في أحاديث مختلف المراتب، دار الكتاب العربي الطبعة الثانية 1983، ص: 93. قال: ذكره الغزالي في البداية ولم يسنده.
(5) الفتوحات المكية، ج 02، تح: عثمان يحيى، الهيئة المصرية للكتاب، 1992، ص: 120.
(6) عبد الكريم غلاب، جريدة العلم: 3/2/1999.
التعليقات